انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 892/حول البردة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 892/حول البردة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1950



للأستاذ محمد سيد كيلاني

إذا ألقينا نظرة على المدائح النبوية عند البوصيري وجدناها تنقسم إلى قسمين: قسم نظمه قبل أداء فريضة الحج، وقسم قاله بعد أداء هذه الفريضة. ولكل قسم مميزات خاصة. وسنقدم الكلام على القسم الأول، ثم نتبعه بالقسم الثاني.

القسم الأول، قبل الحج

إن أداء فريضة الحج من أكبر الأماني التي تجول بخاطر المسلم. وقد عاش البوصيري طوال حياته في بلبيس يحن إلى زيارة قبر الرسول ويشتاق إلىرؤية الأماكن المقدسة. وقد أعرب عن تلك الأمنية في قصائده التي نظمها في مدح الرسول قبل أن تهيأ له أسباب الرحلة إلى الحجاز. ففي إحدى هذه القصائد يقول:

فهب لي رسول قرب مودة ... تقر به عين وتروى به كبد

وإني لأرجو أن يقربني إلى ... جنابك ارقال الركائب والوخد

ولما عزم على أداء فريضة الحج قال في قصيدته التي رد بها على النصارى واليهود:

فلأقطعن حبال تسويفي التي ... منعت سواي إلىحماه وصولا

نظم البوصيري قصائد أربعة في مدح الرسول قبل ذهابه إلى الحجاز: وهي القصيدة الدالية وسماها (ذخر المعاد على وزن بانت سعاد). والقصيدة الحائية. والقصيدة اللامية الثانية وسماها (المخرج والمردود على النصارى واليهود)

وامتاز هذا القسم بخلوه من الغزل والتشبيب بالأماكن الحجازية كسلع ورامة وذي سلم وغيرها. فكان يبدأ بالمدح رأسا كما في قصيدته الحائية، أو بالوعظ والإرشاد كما في قصيدته ذخر المعاد، أو بإظهار الأسى والحزن على ما أصاب المسجد النبوي من فعل النار، أو بمهاجمة النصرانية واليهودية كما في قصيدته (المخرج والمردود على النصارى واليهود)

القسم الثاني

أ - في الطريق إلىالحجاز:

صحت نية البوصيري على أداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول وقطع حبال الت والتسويف، وسمحت له الأقدار التي حالت بينه وبين أمنيته الكبرى مدو من الزمن، أجل! لقد شد الرجل رحاله وامتطى ظهر العيس التي سارت به تقطع البيد سهولا وحزونا. وقط نظم وهو في طريقه إلى الأماكن المقدسة قصيدة مطلعها:

سارت العيس يرجعن الحنينا ... ويجاذبن من الشوق البرينا

داميات من حفى أخفافها ... تقطع البيد سهولا وحزونا

بدأ الشاعر هذه القصيدة بذكر الأحبة والديار وتخلص من ذلك إلىمدح الرسول وهي ستون بيتا.

ب - في حضرة الرسول:

ولما وقف البوصيري أمام الضريح النبوي أنشد قصيدته مطلعها:

وافاك بالذنب العظيم المذنب ... خجلا يعنف نفسه ويؤنب

وأخذ الشاعر يبكي ويستغفر ويتضرع ويتوسل وقد أطال الوقوف أمام باب الرسول، قال:

وقفت بجاه المصطفى آماله ... فكأنه بذنوبه يتقرب

وبدا له أن الوقوف ببابه ... باب لغفران الذنوب مجرب

ثم انتقل إلى المدح وختمها بأبيات في الاستغاثة بالله أن يغفر لم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يجعل الجنة مقره ومثواه.

(ج) في طريق العودة:

فرغ البوصيري من أداء فريضة الحج فأرضى نفسه بالسعي والطواف، ومتع ناظريه برؤية الضريح النبوي، وأطال الوقوف أمام أبواب الرسول، وأخيراً حزم أمتعته وشد الركاب وامتطى بعيره وسار قادماً إلىمصر. وقد نظم وهو في طريق العودة قصيدة مطلعها:

ازمعوا البين وشدوا الركابا ... فاطلب الصبر وخل العتابا

وأخذ يتغزل في سلمى ويذكر أشواقه إليها ويصف جمالها ومحاسنها. ولكنه أفرط في هذا الغزل وخرج به عن حدود الأدب الواجب في هذا المقام أعني مقام مدح الرسول. ومثال ذلك قوله:

سمتها لثم الثنايا فقالت ... إن من دونك سبلا صعابا حرست عقرب صدغي خدي ... وحمت حية شعري الرضابا

ويح من يطلب من وجنتي ال ... ورد أو من شفتي الشرابا

ثم تخلص من هذا الغزل الذي لا يناسب مقام النبي عليه السلام تخلصاً مرذولا. فقال:

حق من كان له حب سلمى ... شغلا أن يستلذ العذابا

ومن يمدح خير البرايا ... أن يرى الفقر عطاء حسابا

وقد شبه البوصيري نفسه بحسان بن ثابت. فقال يخاطب الرسول:

فادعني حسان وزدني ... أنني أحسنت عنه المنابا

(د) هذه الرحلة:

ولما رجع البوصيري إلى مصر نظم تلك الهمزية المشهورة وسماها (أم القرى في مدح خير الورى). بدأها بمدح الرسول ثم قص علينا تفاصيل رحلته إلى الحجاز وذكر لنا كثيراً من الأماكن التي مر بها. ومنها نرى أنه سلك الطريق البري الذي يمر بأيله وينحدر جنوبا إلى الحجاز. ولم يذكر في هذه القصيدة أنه ركب بحراً ثم أخذ يذكر لنا ما قام به من مناسك الحج كالسعي والطواف ورمي الحجار. ثم وصف وقوفه أمام أبواب الرسول. واستوعب البوصيري في هذه القصيدة كثيراً من أخبار السيرة النبوية وناقش النصارى ورد على اليهود، وبكى على آل البيت وأثنى علىأبيبكر وعمر وعثمان، وعدد كثيراً من مناقب هؤلاء الخلفاء وذكر جميع كبار الصحابة ولم يستثن منهم سوى عمرو بن العاص ومعاوية بن أبيسفيان فإنه لم يقل فيمها شيئاً ولم يذكرهما البتة. ثم ختم هذه القصيدة بالدعاء والاستغاثة والتوسل والتضرع.

(و) طيف الرحلة:

والظاهر أن البوصيري رأى بعد رجوعه من الحجاز بمدة من الزمن قوماً ذاهبين لأداء هذه الفريضة فتذكر رحلته التي قام بها ووقوفه أمام الضريح النبوي كما تذكر الأماكن التي مر بها في أثناء تلك الرحلة. وأخذت الذكريات تعاوده فأشتد شوقه وعظم حنينه وسالت الدموع من مآقيه ومن هنا نفهم السر في قوله:

أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

هل أصيب الرجل بفالج؟ ذهب البوصيري إلى المحلة سعياً وراء الرزق. وهناك دعاه بعض أصدقائه من بني عرام إلى دخزله الحمام، فزلت به قدمه وفي ذلك يقول:

كونوا معي عوناً على الأيام ... لا تخذلوني يا بني عرام

إن كان يرضيكم وحاشا فضلكم ... ضري فحسبي زلة الحمام

وأصبحنا بعد هذا الحادث نرى البوصيري يشير في قصائده إلىتلك العلة التي ألزمته داره. أما هذه العلة التي أصيب بها صاحبنا فهي كسر وليست فالجاً كما يعتقد الناس. وقد أشار البوصيري إلىهذا الكسر بقوله:

ما ضركم جبر الكسير وحسبه ... ما يبتغي في الجبر من آلام

ومع أن الشاعر هنا يتلاعب بالألفاظ إلا أننا نستطيع أن ندرك أنه كان مصاباً بكسر عاقه عن الحركة مدة من الزمن.

وقال:

ما حال من منع الركوب وطرفه ... يشكو إليه رباطه محبوسا

وفي كلمة (طرف) هنا تورية. فالطرف بمعنى مؤخر العين. والطرف بمعنى الساق وهي من أطراف الإنسان. فالبوصيري قد عجز عن الركوبلأنساقه المكسورة كانت قد لفت عليها الأربطة والضمادات فتعذرت عليه الحركة. وعلاوة على ما تقدم فإن الفالج لا يربط. ومن هنا نستطيع أن ننفي إصابته بالفالج الذي أبطل نصفه نفياً باتا.

وأمر آخر نستطيع أن نبطل به دعوى إصابة الرجل بالفالج، وهو قوله:

وبليتي عرس بليت مقتها ... والبعل ممقوت بغير قيام

إن زرتها في العام يوماً أنتجت ... وأتت لستة أشهر بغلام

أو هذه الأولاد جاءت كلها ... من فعل شيخ ليس بالقوام؟

فالرجل يقول إنه مع وجود هذه العلة كان يباشر زوجته وينجب منها. فكيف تكون هذه العلة فالجا أبطل نصفه؟ وإذا انتهينا من هذا إلىأن البوصيري أصيب بكسر ولم يصب بفالج، أمكننا أن ننفي تلك القصص التي نسجت حول البردة.

روي ابن شاكر عن البوصيري أنه قال: ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني فالج أبطل نصفي ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافني وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت ونمت فرأيت النبي فمسح على وجهي بيده المباركة وألقى علي بردة. فانتبهت ووجدت في نهضة فقمت وخرجت من بيتي. . . الخ)

وروى غير ابن شاكر أن البوصيري (جاء يوماً من عند أحد السلاطين إلى بيته فصادف شيخاً مليحاً فقال له:

أنت رأيت رسول الله الليلة في المنام؟ قال البوصيري: إني لم أر النبي في تلك الليلة. لكن امتلأ قلبي من ذلك الكلام بعشقه ومحبته عليه السلام فجئت إلى بيتي فنمت فإذا أنا رأيت النبي صلى الله عليه ومع الأصحاب كالشمس بين النجوم فانتبهت وقد ملئ قلبي بالمحبة والسرور، ولم يفارق بعد ذلك من قلبي محبة ذلك النور وأنشدت في مدحه قصائد كثيرة كالمضرية والهمزية)

فهذه القصة تزعم أن البوصيري رأى النبي مع أصحابه وأن الشاعر لم يكن في ذلك الوقت مريضاً بل كان في صحة جيدة وأن هذه الرؤيا هي التي أوحت إليه بنظم مدائحه في الرسول كالمضرية والهمزية ولم يذكر شيئاً عن البردة. وقد سبق لنا أن عرفنا أن البوصيري لم ينظم من المدائح النبوية قبل الحج سوى قصائد أربعة منها قصيدة (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) ومنها (المخرج والمردود على النصارى واليهود). وسبق أن تتبعنا الظروف التي نظم فيها البوصيري قصائده النبوية الأخرى.

ولا نجد الشاعر قد أشار في همزيته إلى تلك الرؤيا التي تحدثنا عنها تلك الرواية فليس من العسير علينا بعد ذلك أن ننفي هذه القصة.

ثم استطرد الرواة فذكروا أن البوصيري قال (أصابني خلط فالج فأبطل نصفي وقطعني عن الحركة ففكرت أن أعمل قصيدة مشتعلة على مدائح النبي واستشفى بها من الله تعالى. فأنشدت هذه القصيدة ونمت فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فمسح بيده الكريمة على أعضاء الحقير فقمت من المنام ملابساً بالعافية من الآلام.)

وهذه القصة لا تذكر لنا أن البوصيري قال بأن النبي كان يتمايل عجباً حين سماعه للبردة، ولا أنه قال إن النبي ألقى عليه بردة. ومضى الراوي يحدث عن البوصيري أنه قال: (فخرجت من بيتي غدوة فلقيني الشيخ أبو الرجال الصديق لي فقال لي: يا سيدي هات قصيدتك التي مدحت بها النبي عليه السلام، والحال أني لم أكن أعلمت بها أحداً من الناس. فقلت: هي التي أولها أمن تذكر جيران بنى سلم=مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

فقلت أين حفظتها يا أبا الرجاء؟ وما قرأتها على أحد ممن جاء. قال: لقد سمعتها البارحة ننشدها بين يدي النبي وهو يتمايل ويتحرك استحسانا تحرك الأغصان المثمرة بهبوب نسيم الرياح. فأعطيته إياها فنشر الخبر بين الناس.)

وهذه القصة تمتاز عن قصة ابن شاكر بأنها ذكرت لنا اسم هذا الفقير وهو أبوالرجاء. وأن هذا الفقير كان صديقاً للبوصيري. كأنما البوصيري كان نبياً يقول بأمور لا قصد فيها غير أبي الرجاء، ومن ثم أطلق عليه لقب (الصديق)

وتفيدنا هذه القصة أن أبا الرجاء الصديق هذا قد شارك البوصيري في رؤية الرسول وأنه كان حاضراً حينما أنشدها الشاعر ورأى النبي يتمايل تمايل الأغصان المثمرة. وأن هذا الصديق هو الذي رأى النبي وهو يلقى على البوصيري البردة. أي أن موضوع البردة هنا من عند أبي الرجاء الصديق وليس من عند البوصيري.

ولا شك في أن هذا كله مختلق وموضوع وأنه من نسج الخيال. ولقد أمعنوا في الكذب والاختلاق فرووا أن البوصيري لما وصل إلىقوله:

(فمبلغ العلم فيه، أنه يو - فعف) بشر فقال له النبي: قل يا إمام.

فقال البوصيري: (إني لم أوفق للمصراع الثاني) فقال النبي: قل يا إمام (وأنه خير خلق الله كلهم). فأدمج البوصيري هذا المصرع في قصيدته. وكل هذا إفك وبهتان. والعجب لمن لا يتورعون عن الكذب على رسول الله!

(يتبع)

محمد سيد كيلاني