انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 89/الانتحار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 89/الانتحار



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(نعم، لابد مما ليس منه بد. وستنتهي الحياة على كل حال، طال العمر أم قصر، فلم لا أختمها بيدي وأستريح من هذا العذاب؟)

كذلك كان يحدث نفسه وهو جالس إلى مكتبه، وأمامه عدة رسائل كتبها ووضعها في ظروفها، وعنونها، ونشفها، والصق عليها طوابع البريد، ولو أنك في هذه الساعة سألته عن الباعث أو البواعث له على هذا العزم، لقال لك إنها ليست مسألة بواعث، وإنما هي مسألة آلام في معدته لم يبق له صبر عليها، وعجز طب الأطباء عن تخفيفها، وما بقي في البلد طبيب إلا استشاره، وما قرأ إعلاناً في صحيفة عن دواء يلطف هذه الأوجاع إلا اشتراه وجربه، فذهب كل ذلك مع الريح، وكانت معدته توسعه إيلامًكلما أوسعها تطبيباً، فكأنه لا يضع فيها أشفية، وإنما يضع فيها إبراً أو أظافر ومخالب وأنياباً! وما أكل شيئاً إلا نفخه وتخمر في جوفه وفارت منه غازات ترتقي إلى الصدر والقلب وتثقل عليهما وتخزه هنا وهناك فيروح يبلع الفحم قرصاً وراء قرص، والغازات كما هي، لا يمتصها أو يطلقها أو يخفف ضغطها وشكها شيء، فتلفت أعصابه ويئس من الشفاء، وعزم آخر الأمر على الانتحار

وكانت له زوجة وبنون، وبيت طويل عريض فيه خدم وحشم، ولكن آلامه سودت عيشه ونغصت حياته، وحرمته ما كان خليقاً أن يفوز به من المتع، فالموت لا يفقده لذة موجودة، ولعله يريح آله مما يحملهم معه من المتاعب والغصص، ويتيح لهم أن ينعموا بماله، وأن يخلو صفو حياتهم من كدر حياته

أما الرسائل التي أسلفنا الإشارة إليها فكتبها إلى الصحف ينعى نفسه فيها، ويحذر قراءها من الإعلانات المغرية وما تزعمه من قدرة الأدوية على الشفاء السريع، وأخرى كتبها إلى (النيابة) حتى لا تزعج أهل بيته بالسؤال والتحقيق، فان (للنيابة) ولعاً بتقصي أسباب الانتحار كأنما حياة المرء هبة من هذه (النيابة) أو عارية، فهو مسئول عنها قبلها! ولما صح عزمه على الانتحار قعد يفكر في وسائله، وأدواته، ولكنه استقبحها جميعاً، ولم يرض عن واحدة منها، وبدا له أن من السخافة وقلة العقل أن يلقي بنفسه من فوق السطح مثلاً، فقد يتحطم جسمه ولا يموت! أو أن يغرق نفسه في النيل، فقد يراه أحمق فيدركه وينقذه، أو قد تعلق جثته بشيء فتظل راسبة ولا يهتدي إليها أحد! ولم ير أنه يطيق أن يسدد إلى رأسه مسدساً، أو إلى قلبه، ولا أن يغمد في صدره سكيناً أو يبقر به بطنه، كلا! هذه الميتات جميعا قبيحة، وفي صورها هوان وحماقة؛ إنما الميتة الحسنة أن يستلقي على سريره، ويضع إلى جانبه طشتا على كرسي، ثم يقطع شريانا فيلح عليه النزف حتى يموت، في سكون وبلا ألم

واستغرب لما انتهى إلى هذا الرأي، أن يرى نفسه منشرح الصدر، وأنه لم يعد يشعر حتى بتلك الآلام التي أغرته بالتماس الموت وحرضته على نشدانه! فهز رأسه متعجباً وقال: إذا كانت هذه هي البداية فلا شك أن الخاتمة أحسن. وتمنى لو تيسر له أن يرى نفسه مسجى في أكفانه والناس حوله يبكون ويندبون، ويثنون عليه بالذي (كان) أهله! وتصور نفسه محمولاً على الأعناق وخلفه حشد عظيم من الأصدقاء والكبراء، وكبر الأمر في وهمه حتى لخيل إليه أنه الآن راقد في النعش، فتحرك حركة من يريد أن يطل على مشيعيه! ثم أفاق من هذا الحلم وابتسم! ولم تكن هذه ابتسامة السرور، وإنما كانت ابتسامة الأسف على أنه سيحرم لذة هذا المنظر

ودق الجرس فجاءت الخادمة، وكانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولم تكن جميلة ولكنها لم تكن دميمة، وكان يحنو عليها لأنها يتيمة لا أب لها ولا أم، ولا أهل فيما يعرف، فلما أقبلت عليه رق لها قلبه من العطف، وقال لها:

(اسمعي! خذي هذه الرسائل وضعيها في صندوق البريد. فاهمة؟ وخذي هذا لك.)

ونهض وهو يناولها ورقة بجنيه، فدهشت المسكينة، فما لها عهد بمثل هذا الجود، وما وهبها أحد أكثر من قرش وقالت: (لي أنا؟)

فوضع راحته على كتفها وقال: (نعم لك أنت. ولم لا؟ إنك فتاة طيبة، وأنا راض عنك)

فقالت المسكينة: (ولكن ماذا تقول ستي؟ إنها إذا رأته معي ستظنني سرقته)

فقال: (كلا. لا تخافي. اطمئني!)

وأدناها منه وقبلها على خد، ثم أدار وجهها ليقبل خدها الآخر، فلمحت الفتاة أوسط أبنائه، وخشيت أن يثرثر لأمه بما رأى، فارتدت عن سيدها محتجة وقالت بصوت عال: (عيب يا سيدي، عيب! أنا بنت يتيمة، وأنت رجل كبير. . . تؤ. . . تؤ. . . عيب!)

فبهت الرجل، فقد كانت قبلته من عطف أبوي، ومن كرم النفس ومروءة القلب، وساءه جحودها وسوء ظنها، وأغضبه هذا التأويل، فقال:

(ولكن يا ابنتي ماذا حصل؟ أي عيب؟)

فقالت بصوت أعلى (أقول لك عيب يا سيدي، لا لا لا. . . أنا في أمانتك. . حرام عليك يا سيدي! وأنت رجل كبير)

ولم يكن يرى ابنه فلم يفطن إلى الباعث لها على هذا الاستهجان؛ أما ابنه فرأى وسمع، وأسرع إلى أمه ينبئها ويقص عليها الحكاية فنهضت الأم كالمجنونة إلى هذا الزوج الذي يتغفلها ويزعم نفسه مريضاً مدنفاًٍ ويروح يقبل الخادمات! ومن يدري ماذا يصنع غير ذلك؟ ومن الذي يمكن أن يثق به أو يصدقه بعد هذا؟

وكان الرجل قد طرد الخادمة من حضرته. لما رآها تلج في الاستنكار وتأبى إلا أن تسيء تأويل الحادثة، فخرجت، ولم تكد تفعل حتى دخلت الزوجة كاللبوة الهائجة:

(معلوم! معلوم! تدعي المرض، وتقول أبعدوا عني وخلوني استريح، لتخلو بالخادمة فتقبلها وتحضنها! ما شاء الله! هل المريض يعانق الخادمة؟)

فطار عقل الرجل، وله العذر، وخطر له أن الخادمة هي التي ذهبت تشكو إلى زوجته، وتذكر في هذه اللحظة أنه أعطاها الرسائل، وأن فيها نعيه إلى الصحف والنيابة، ولكن الغضب صرفه عن الموت، وفتر الرغبة فيه، وأحس أنه لا يريد أن يموت، بل أن يميت - يقتل هذه الخادمة اللعينة التي يحسن إليها فتسيء إليه، وتشنع عليه، وتحيل البيت قطعة من جهنم، فترك زوجته تتكلم وخرج يقول:

(أين هي؟ أين هي؟)

وعرف أنها خرجت فانطلق وارءها، ليسترد الرسائل منها، ويرى له بعد ذلك رأياً فيها - نعني في الفتاة. وبصرت به الخادمة مقبلاً، ورأسه عار، ووجهه مضطرم، وكانت تحس في قرارة نفسها أنها ظلمته وتجنت عليه، فأيقنت أنه خرج وراءها هائجاً، وأنه يطلبها ليضربها، فراحت تعدو، فلم يسعه إلا أن يجري وراءها، ولكنها في الثامنة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والأربعين، فما عسى قدرة مثله على إدراك مثلها؟ فأخذ يصيح ويدعوها أن تقف ويناشد الناس أن يمنعوها، وهي كلما حاول أحد أن يصدها تتفلت منه، وتزعم له أن سيدها يهم بقتلها وتستحلفهم أن يردوه عنها. وتبعهما أطفال الحارة وأهل الفضول من الرجال والنساء، وأخيراً لحق بها الرجل، لأن الناس استوقفوها، فقبض على يدها وانتزع منها الرسائل وهو يلهث

وكان من السهل بعد ذلك أن يطلع زوجته على الرسائل، وأن يقنعها بان من يروم الانتحار لا يتبع الخادمة عينه

ونام صاحبنا في ليلته تلك نوماً عميقاً هادئاً لا حلم فيه، ولم يشعر بمعدته حتى ولا في الصباح، فتعجب وهو يتمطى ويتثاءب فما نام قط هذا النوم المريح في السنوات الأخيرة، وأقبل على الطعام فالتهم منه شيئاً غير قليل، ولم يكن يفطر قبل اليوم، وكان يدخن على ريق النفس، ويستغني بالقهوة عن الطعام، فقال لزوجته:

يظهر أن الجري نفعني أمس. . والغضب أيضاً! لقد حرك دمي في عروقي فزايلني الفتور، ونشطت. . . نعم إن حاجتي هي إلى ما ينشط جسمي، فليت لي كل يوم خادمة أقبلها فيسوء بي ظنك، فتثور نفسي!)

فضحكت الزوجة وقالت: (لقد كنت مجنوناً! وهل ينتحر إلا مجنون؟)

فقال: (نعم، ولكن الأطباء هم الذين أجنوني. والغريب أني لم أجد واحداً من بينهم يشير علي بالرياضة - ليس عندهم إلا وصفاتهم التي لا تنفع. . . أقول لك! سأطتب هذا إلى الصحف، وأفضح طب الأطباء)

ولكنه لم يكتب، لأنه شغل بالرياضة في ناد قريب من بيته، فتولينا نحن عنه ذلك، فهل بلغنا؟

إبراهيم عبد القادر المازني