مجلة الرسالة/العدد 89/الأوزاعي88هـ - 157هـ أحد أصحاب المذاهب
مجلة الرسالة/العدد 89/الأوزاعي88هـ - 157هـ أحد أصحاب المذاهب
المندرسة
بقلم عبد القادر علي الجاعوني
يؤخذ من المصادر التي بين أيدينا أن اسمه عبد الرحمن ابن عمرو بن يحمد وكنيته أبو عمرو، ولقبه الأوزاعي نسبة إلى أوزاع، ولقد اختلف في معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من اليمن (وقيل بطن من همذان، وقيل إن الأوزاع قرية بدمشق خارج باب الفراديس. ومهما يكن من أمر، فان لقبه نسبة إلى هذه الكلمة، إذ أن جميع المصادر تتفق على هذا اللقب ولكنها تختلف في حقيقة أصله
ومن الثابت تاريخياً أن مهبط رأسه مدينة بعلبك، وتكاد المصادر تتفق على أنه ولد سنة 88 هـ
أما نشأته وحياته فلا نعرف عنهما شيئاً، لأن المصادر التي بين أيدينا تكاد تكون صامتة كل الصمت، فهي تتخطى هذا الدور بسرعة هائلة وتبرزه لنا (إمام أهل الشام) في عصره، اللهم إلا ما ذكره ابن خلكان من أنه نشأ في البقاع
قلنا إن الأوزاعي ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع، إلا أنه لم يقض حياته في مهبط رأسه، وسرعان ما انتقل إلى دمشق خارج باب الفراديس، ثم ارتحل إلى بيروت تلك المدينة التي قضى بها حياته حتى أدركته الوفاة
ولقد كان رحمة الله فوق الربعة، مائلاً إلى السمرة، خفيف اللحية، ويظهر أنه كان يميل إلى التزين، فقد (كان يخضب بالحناء)
ولقد أخذ العلم عن عطاء وابن سيرين ومكحول والثوري. ولقد زاد عليهم أبوز كريا النووي صاحب كتاب تهذيب الأسماء رجالاً من التابعين أهمهم قتادة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، ومحمد بن المنكدر. وأهم تلاميذه: عبد الله ابن المبارك، وهقل وهذا الأخير أصدق الرواة وأثبتهم عن الأوزاعي، وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم
كان الأوزاعي من تابعي التابعين، وقد قال الذهبي فيه: (هو إمام أهل الشام) وفي موضع آخر يقول: (كان ثقة مأموناً صدوقاً، فاضلاً حبراً، كثير الحديث والعلم والفقه) ويقول ابن خلكان: (هو إمام أهل الشام لم يكن بالشام أعلم منه). ويقول النووي: (كان إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة). ومما يدلك على عظم مركزه في الفقه أنه أجاب في سبعين ألف مسألة فقهية، وقيل ثمانين ألفاً ومما يدلك على علو مقامه وتقدير العلماء له ما ذكره ابن خلكان من أن (سفيان الثوري بلغه مقدم الاوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيره من القطار ووضعه على رقبته فكان إذا مر بجماعة قال الطريق للشيخ)، وناهيك بمنزلة سفيان الثوري ورفيع مقامه في العالم الإسلامي. ولا يغيبن عن البال أنه كان فضلاً عن اشتهاره بالفقه إماماً في الحديث. ويقول كولد زهير: روى عبد الرحمن بن المهدي أن الأوزاعي ليس ثقة في الحديث، ولكنه يعلم كيف يطبق هذه الأحاديث للحصول على حلول المسائل الفقهية
ولم يكن الأوزاعي يتمتع بمركز ديني كفقيه ومحدث فحسب، بل يظهر أنه كان يتمتع بمركز دنيوي رفيع، فقد ذكروا أنه كان عظيم الشأن بالشام (وكان فيهم أعز من السلطان) ولعل القصة الآتية تلقى نوراً على ما ذهبت إليه: قال عبد الحميد ابن حبيب بن أبي العشرين: سمعت أميراً كان بالساحل، وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر يقول: رحمك الله أباعمرو! فقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني). وبعد، فقد تبين لك من هذه الروايات الكثيرة المحفوظة في الأصول الأدبية والتاريخية ما كان عليه الأوزاعي من الشهرة، ولا نعرف، لاندثار مذهبه، واندفاع المؤرخين في منح المديح والألقاب، صحة هذه الأقوال، ولكنها على أية حال تحمل بين طياتها الشيء الكثير عن عظم الأوزاعي وشهرته
والروايات مجمعة على أن الأوزاعي كان إمام أهل الشام في عصره، وأنه كان على جانب عظيم من المقدرة في الحديث والفقه، وتطبيق الأول على الثاني للحصول على حلول للمسائل الفقهية المختلفة
مذهبالأوزاعي:
انتشر مذهب الأوزاعي، المسمى باسمه، مدة من الزمن في سورية، وبلاد المغرب؛ وذكر صالح بن يحيى أن مذهب الأوزاعي دام في الشام نحو مائتي سنة، وأن آخر من عمل بمذهبه قاضي الشام أحمد بن سليمان بن جند لم، وقد ظلت المغرب متبعة مذهبه مدة لا تقل عن أربعين سنة وسرعان ما انهزم مذهب الأوزاعي أمام غيره من المذاهب، والسبب في ذلك - كما يظهر - أن الأمراء وأصحاب السلطة ساعدوا غيره من المذاهب نصراً لسياسة أو تحقيقاً لغرض، كما كانت الحالة مع المذهب الحنفي، ويقول صالح بن يحيى (ثم تناقص بمذهب الأمام مالك على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي
ومن المعلوم، أن مذهب الأوزاعي هو أحد المذاهب المندرسة، ويا ليت التاريخ أبقى على هيكله في طواياه، فانه لم يسجل إلا نزراً يسيراً من فقهه لا يمكننا من الحكم عليه. إلا أن هذا النزر يلق نوراً على ماهيته، وقد دلتني قراءته إلى أن اهتمام الأوزاعي بالمسائل الفقهية كان من الوجهة العملية، ولم يكن كصنوه أبي حنيفة مشتغلاً بالفقه من وجهته النظرية. كذلك دلتني قراءة هذا النزر اليسير إلى أن الأوزاعي لم يكن يستعمل الرأي، بل إنه - كما فعل غيره - عدل إلى الكتاب والسنة ففي كلام الأوزاعي عن (سهم الفارس والراجل وتفضيل الخيل)
وعن (المرأة تسبى ثم يسبى زوجها) وعن (ما عجز الجيش عن حمله من الغنائم) وعن (قطع أشجار العدو) ففي كلامه عن أحكام هذه، وعن جميع ما ورد في كتاب (سير الأوزاعي) يستعمل الحديث والكتاب
وقد يطول بنا المقام إن ما شينا فهرس الفصل في سرده، فلا داعي للتكرار، ومن أراد التثبت فليرجع إلى هذه الأقوال في مظانها
ولقد ذهب بعض المؤرخين، أمثال كولد زهير، إلى أن الفقيه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني. وأنا أقول، إن كان هذا صحيحاً، فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى أتباع الكتاب والسنة. وبذلك قال أبو حاتم: (الأوزاعي إمام متبع لما سمع) والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني
وفاته:
كانت وفاة هذا الفقيه الكبير في سنة 157هـ، وقد ذكرها أبو الفداء في حوادث تلك السنة، وتوفي وهو في الحمام في بيروت، وقبره على ما ذكره أبو الفداء في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح. والسبب في وفاته على ما جاء في ابن خلكان، أنه دخل الحمام، واتفق أن صاحب الحمام كان مشغولاً فأقفل عليه الباب ومضى، فلما عاد فتح الباب فوجده قد فارق الحياة. رحمه الله رحمةً واسعة، فقد كان إمام أهل الشام غير مدافع. هذا وإن ما ذهبت إليه في هذه الكلمة ليس إلا محاولة بسيطة أرجو إن لم أوفق في نتائجها، أن أكون قد وفقت في الطريق الذي سلكته. فالبحث في اعتقادي ناقص مبستر، لأني لم أطلع على كل ما كتب عن الأوزاعي فقد تكون هناك كتب كثيرة، لم تنشر أو لم أوفق إلى العثور عليها. وعسى أن تحفز هذه الكلمة بعض الباحثين من الفضلاء فيوفي هذه الترجمة ويحلل هذا المذهب إحياء لتراثنا العلمي الذي ذهبت به الأحداث والقرون.
القدس
عبد القادر علي الجاعوني بكلوريوس في العلوم