مجلة الرسالة/العدد 886/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 886/صور من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
. . . وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا إذ ذاك صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد سمت نفوسهم العالية عن الشكوى وتأبت نوازعهم الرفيعة على الضيم.
وترفعت رجولة الطفل فيك عن أن تنفض أحزان قلبك بين يدي أي رجل من ذوي قرابتك، لأنك في نفسك فوق كل رجل قدرة ويساراً، وأنفت من أن تتحدث بالحادثة الوضيعة لواحد من أهلك خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه. فعشت ساهة من زمان تتخبط في تيه الأفكار المضطرمة لا تهدأ ولا تهتدي، ثم دفعك عقلك الصغير إلى العزبة التي خلفت لك أمك، وهي على خمسة أميال من القرية، فانطلقت أليها - في صحبة أخويك - تغذ السير كأنما كنت تهرب من شبح مخيف يتقصص أثرك. . شبح القسوة التي حرمتك الطعام أحوج ما تكون إليه.
اليوم صائف تتلهب وقدته، ويتوهج أواره، وتتضرم هواجره، وأنت على الطريق لا تستشعر لذة الفيء ولا هدوء الراحة، تطوي السبيل في عزم وشجاعة، يصيبك البهر والتعب فلا تنكص ولا تستسلم، وهمتك تدفعك إلى الغابة؛ وأنا أتبعك بعبراتي؛ وأبوك هناك على السرير يغط في نومه، يستجم من عناء ويستريح من نصب، ولا يحس شيئاً مما تجد أنت وأخواك.
وبلغت العزبة، غير أن الأقدام الصغيرة الناعمة كانت قد دمغها الطريق الوعر الطويل بعلامات ما تزال مرتسمة هناك تذكرك بهذا اليوم. . . باليوم الأغبر.
وهذا الوجه البض الرقيق كان قد زفرت عليه الهاجرة فصبغته بلون قرمزي يشهد بأن القسوة أخت القتل.
وهذه الطفولة الفضة اللينة كانت قد تهالكت من اثر الجهد والعناء، وتضعضعت من طول الضنا والنصب؛ غير أنها استحالت عند نهاية الشرط إلى صلابة رجل شديد يصارع فيغلب ويناضل فيصبر.
وهبطتم العزبة التي تركت لكم أمكم لتأمر في صوت رقيق فيه رنات الطفولة، ولكنك كنت تجهد أن تنفث فيه صرامة الرجل وخشونته، وأنت ما تزال صبياً لم تبلغ بعد سن الشباب.
ورأى الفلاحون الذين غمرهم فيض أهلك، ولبسوا ثوب النعمة من سخاء أبويك. . . رأوا أبناء سيدهم يتكفأون من أثر الابن والضنا، وعليهم سمات الأسى والضيق، فنظروا ثم أطرقوا. وأطرق من بينهم شيخ كبير وهو يقول (لا حول ولا قوة إلا بالله) ثم تتابعت على خديه عبرات حرى لم يستطع أن يكفكفها ولم يستطع معها صبراً، فطار إلى ناظر العزبة يخبره خبر الصبية الأثرياء الذين أرغموا على أن يقطعوا الأميال الطوال سيراً على القدم، والحر ينضج جلودهم ويؤذي عيونهم ويرهق جلدهم؛ الصبية الذين ذاقوا على حين غفلة مس الجوع والقسوة والتشرد.
جاء ناظر العزبة مهرولاً يخب في ثوبه الفضفاض، واندفع نحو الصبية يربت على أكتافهم في رقة وحنان. ولا عجب فلقد كان هو - منذ زمان - طفلاً نبذه أبوه فما يسبغ عليه من عطفه، ودعته زوجة أبيه عن الدار التي ولد فيها فما تفيض عليه بلقمة ترد من سغبه ومن ذلته. ولكنك - يا صاحبي - ترفعت عن أن تستشعر روح الطفولة في وقت الشدة، فدفعته عنك في قوة فارتد وفي عينيه عبرات. ثم انتحيت ناحية تأمر بصوت أجش خشن (أنا الآن هنا سيد هذه العزبة!) فقال الرجل (نعم يا سيدي، ومن قبل). ورحت تأمره وهو يحاول أن يستشف جملة الخبر بين ثنايا طفولتك التي لا تعرف المكر ولا الخداع ولكنك كتمت عنه الحديث خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه.
يا عجباً لهذه الرجولة الباكرة! إن صفعة واحدة من صفعات القسوة الجافية قد حلفت منك - با صاحبي - رحلا في أهيب طفل.
وأقبل الليل، فاستسلمت - في وحدتك - إلى خواطر هادئة لطيفة، والأفكار الجميلة تداعب روحك لأنك تنسمت روح الحرية والراحة، وبدا أنك نفضت عهد الإسار والخضوع عهد الحاجة والطلب، عهد الطفولة المقيدة بأغلال الأبوة الظالمة، وتراءى لك أنك أصبحت سيد هذه العزبة وسيد هذه الدار وسيد هذا القوم، وأنك تأمر فيخضع الصغير وتنادى فيلبي الكبير، وأن قلبك قد ملأته السيطرة وأن جيبك قد أفعمه المال. ولكن نفسك لم توسوس لك بأن تندفع في شهوة وضيعة، ولا أن تسعى غلى لذة تافهة، ولا أن تنغمر في نزق طائش، لأنك نشأت في بيت فيه الدين والورع فأنصرف قلبك عن الغواية وتحولت نوازعك عن المجون.
وعشت ساعة في خواطرك الجميلة الهادئة ثم غلبك النوم يا للطفولة البريئة! لقد نسى الصبي - حين شعر بالهدوء والراحة - أنه يعاني محنة ضخمة عاتية، نزلت به على حين فجأة فأفزعته عن أبيه وعن أهله وعن داره في وقت معاً. لقد نسى ما حواليه فاستقر في طفولته البريئة الصافية يحلم ويبسم.
أما في القرية فماذا كان هناك - يا صاحبي؟
كادت أستار الليل تنسدل فتلف أرجاء القرية في الظلام والسكون، وأبوك في شغل لم يجد فقدك، ولم يحس وقع القسوة التي ضربك بها منذ ساعة. وأنى له أن بفعل وهو يراك لا تطمئن - أبداً - إلى الدار إلا حين يصيبك النصب والجهد من طول اللعب والجري، ثم هو قد أمر زوجته أن تمسح غلطته فترسل إليكم الطعام الذي رفعه من بين أيديكم ولكنها أبطأت وتراخت. انسدلت أستار الليل والدار خالية من عبثك خاوية من لهوك وضجتك، فشعر أبوك بأنك لست هنا، فأرسل من يفتش عنك في أنحاء القرية. وجلس هو إلى نفسه وقد تيقظ ضميره وتقلب قلبه. . .
وترامى إلى خالتك أن أباك قد قسا عليكم قسوة أفزعتكم عن الدار، وأن الدار قد لفظتكم إلى حيث لا يعلم إنسان.
وصرخت خالتك من هول الخبر صرخة اهتزت لها أركان الدار، ثم اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم وهي تصرخ صراخاً فيه الفزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. اندفعت السيدة الثرية التي لم يرها الشارع منذ أن كانت طفلة إلا من وراء حجاب. . . اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم، لم يستطع واحد من أهلها أن يردها عن الغاية التي تريد. ودخلت خالتك بيت أخيها خالك تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى؛ وهو من بيت فيه السطوة والجاه، وفيه السلطان والثراء، وفيه القوة والشهامة وفيه الكرم والدين. . .
وارتجت القرية كلها لما كان فأنساب سيل من أهلك إلى داركم يستجلي الخبر وينحي باللائمة على أبيك الذي نسى أبوته ساعة من زمان، على حين قد صننت أنت بكرامته أن تخدش، وصنت كبريائه عن أن تتضع.
ودخل خالك داركم وقد أربد وجهه واضطربت أعصابه وحبس الغضب لسانه. . . دخل وهو يعجب مما سمع، وفي رأيه أن أباك رجل عقل وين لا ينحط أبداً غلى هذه الهاوية.
دخل خالك الدار التي لم يدخلها منذ أن ماتت أخته الصغيرة العزيزة أمك، دخلها هائجاً يهدر، فبدت له صورة أخته الصبية الشابة وهي تضطرب في أرجاء الدار جميلة نشيطة جذابة، فاستحال غضبه إلى حزن عميق يخز قلبه وخزوات قاصمة. ولكنها الآن تبدو في خياله لكي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى؛ فاستشاط غيظاً وثورة.
فماذا كان منه - يا صاحبي - وماذا كان من أبيك!
كامل محمود حبيب