انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 881/الصحافة المصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 881/الصحافة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 05 - 1950



هل الصحف مرآة معبرة. . أم موجهة مؤثرة. .؟

للأستاذ محمود الشرقاوي

قامت في الأشهر الماضية غضبة من جهات ومن هيئات لها نفوذ ولرأيها وزن فيما أصلح على تسميته (بالصور الخليعة) التي أسرفت صحف معينة في نشرها، حتى أمر وزير الداخلية بتذكير الصحف بما يمنع نشر هذه الصور من القوانين، وتذكيرها واجبها في رعاية الأخلاق والتقاليد وعدم الانسياق وراء المنافسة أو الربح أو التقليد ونسيان ما تجب رعايته من الملابسات والاعتبارات الخاصة. وما يزال أثر من هذه القضية قائماً عند بعض هذه الجهات وفيما ينشره بعض الكتاب والعلماء في ذلك.

ومع شعوري بشيء من الحرج إذ أعالج هذا الموضوع، فقد تملكتني الرغبة الغالبة في أن أكتب فيه، إن كنت سأتناوله من ناحية أخرى لا تقل في أثراً عن موضوع هذه الصور الغير مرغوب فيها.

الذين لا يرون بأساً ولا خطراً من نشر ما يجري في جميع نواحي الحياة المصرية والعالمية من ألوان النشاط الاجتماعي يقولون إن الصحافة مرآة لهذه الحياة بألوان نشاطها جميعاً، وكما تحرص الصحف على أن تنقل لقرائها صورة (صادقة) من ألوان النشاط المصري والعالمي في السياسة والاختراع والعلم والاقتصاد والأدب مثلاً، فمن تمام واجباتها أن تنقل إليهم هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي.

فإذا كانت هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي لا ترضي جهة من الجهات أو جماعة أو هيئة لها مقاييس خاصة وفهم خاص ومنهج للحياة خاص أيضا، فليس الذنب في ذلك واقعاً على الصحافة التي نقلت الصورة، فإنما هي تسجل ما يقع ويحدث.

ومما يقال في ذلك إن هذا اللون من الحياة الاجتماعية يكاد أن يكون مشتركاً ومتماثلاً في حيوات جميع الطبقات العليا في الأمم الراقية، وقد يؤخذ دليلاً على تقدمها ومقدار ما بلغته من حضارة ورفاهية. وما دمنا نقول إن مصر قطعة من أوربا أو يجب أن تكون قطعة منها، فإن هذا اللون من الحياة هو مما تصعب مقاومته؛ ومن الأفضل أن تتجه فيه الجهود إلى التهذيب وترقية الذوق العام وترفيه النفوس، بدلاً من القسر والقهر والإعنات والمنع بقوة القانون لما لا يمكن أن يخضع لقانون.

لست في هذا الذي أقوله مدافعاً عن وجهة نظر معينة، ولكنني مقرر لهذه الوجهة من النظر ملخص لها لأستخدمها فيما أريد أن أصل إليه فيما يلي: -

الصحافة المصرية على وجه العموم ناجحة إلى حد كبير وصادقة في التعبير عن الحياة المصرية والأماني المصرية، كما هي ناجحة وصادقة ومستوفاة عندما تعطي صورة عن التيارات العالمية والاتجاهات الواضحة والغامضة للسياسة الدولية، بل جميع ما يتفاعل في هذا العالم المضطرب المتقلقل من المؤثرات والعوامل المختلفة والمتباينة بل المتناقضة.

ولكن هناك ناحية في الصحافة المصرية تشغل بالي وأعتقد أنها كذلك تشغل بال كثيرين من المفكرين الذين تشغل أذهان الناس بالنافع والمفيد على الدوام وليس بما يسليهم فقط ويزجي فراغهم.

وقد كتبت أن هذا يشغل البال، ولكني أريد أنه يقلق البال ولا يشغله فقط. ولست أريد أن أحدد مسؤولية ذلك، أهي واقعة على بعض الصحف، أم على بعض الكتاب، أم على الجمهور القارئ، أم هي موزعة مشتركة بينهم جميعاً أو بين هذه الصحف وهؤلاء الكتاب فقط، لا أحدد مسؤولية ولكني أنبه إلى ظاهرة.

والصحف المصرية على كثرتها وابتكارها وجمال رونقها يشغل بعضها صفحات منه بأشياء من المعلومات والمقالات والصور قد تكون شيقة وقد تكون جذابة وقد تكون مبتكرة بارعة، ولكنها يمكن أن توصف في كثير منها بعدم التعمق والبعد عن الجدية. وأنا أتكلم عن ناحية الأدب والفكر فقط.

وبينما الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي والمذهبي يكاد يقتحم على جميع بيوتها وأمورها وخاصة حياتها ويستولي على عقولها، نجد كتاباً في مصر يلجئون إلى قصص مترجمة أو موضوعة مما يلبي الرغبات السهلة العاجلة أو يتملق الغرائز عند الشباب من النوعين، وآخرين يفتشون في بطون الكتب للبحث عن كلمة أو نقل (طرائف) لا تحرك الذهن ولا تشغله بالتفكير في هذا العالم وما فيه. ولا بالتفكير في حياتنا المصرية هذه وما فيها، وهو كثير.

ولا أنكر أن هذا لون لا بد منه من ألوان النشاط الأدبي، ولكني أكاد لا أجدالآن من يشتغل بسواه أو بما يماثله في القيمة من الكتاب - إلا من ندر -

وقد نشرت في (الأهرام) منذ شهرين مقالاً أعتقد أن فيه تفكيراً وآراء تعرض للبحث والإفادة، ولكن رجلاً، مفروض أنه من خاصة المثقفين، يبادر فيسألني - لا عن رأي أو فكرة - ولكن ليسألني عن كلمة (نضوج) هل بحثت عنها في القاموس لأعرف أنها واردة فيهأم لا. . .؟

وهذا هو الفراغ، فراغ الذهن.

هذه الأمور الجدية التي تشغل - أو يجب أن تشغل - المفكرين في مصر من الأدب والفن والإصلاح، أحد كثيرين من الخاصة والمثقفين يتحدثون فيها ويشغلون نفوسهم وعقولهم بها ولكني أجد أثر ذلك في الصحف المصرية قليلاً، وبعض الصحف يراعي الكثرة الغالبة - مع رأي خاص فيها - فهي في اعتقادي ليست معبرة تمام التعبير عن هذه الناحية من نواحي النشاط والتفكير المصري، وليست (مرآة) واضحة لها. وكثيرون من المفكرين والمشتغلين بالجد من الأمور يتحرجون من الكتابة لبعض الصحف اعتقاداً منهم بأنها تتقبل أو تنشر لمستوى خاص، وتعني بالمظهر دون الجوهر، وتبحث عن الكم لا عن الكيف.

وبقي أن نقول: هل الصحف تكتفي بأن تكون (مرآة) ناقلة معبرة فقط! أم هي دافعة موجهة مؤثرة. . .؟

وربما كان قصور هذه الظاهرة على الناحية الأدبية والاجتماعية والفكرية سببه اتصال هذه النواحي خاصة بتفكير الجماعة وما يلابس حياتنا من التقاليد وبعض الأمور الأخرى.

أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة صحف ومجلات فيها مقالات لكتاب لهم اسم لامع واهم ألقاب كبيرة ولكنها تتناول مواضيع وأمور مما يقال إنه يقرأ عادة عقب الغداء أو قبل النوم للتسلية و (قتل الوقت) وبين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات مجموعة أعتز بها من جريدة (السياسة الأسبوعية) من بدء صدورها (سنة 1926) وإذا قلبت صفحة من صفحاتها لا بد أن تجد بحثاً جدياً مدروساً في الأدب (أدب الفكرة) لا لأدب، الفراغ أو في الإصلاح أو الاجتماع يستفيد منه قارئه فائدة لذهنه وعقله وتفكيره وثقافته. ولدي مجلات أخرى كانت تصدر لخدمة الفكر والإصلاح والتقدم ثم توقفت لأنها لم تساير التيار الجارف المكتسح من الصحافة التافهة الرخيصة، وما تحول منها إلى أداة لهو وسخف ظل منتظم الصدور دائم (التقدم)

وعندما نقارن بين صحف كهذه كانت تصدر منذ ربع قرن وبين ما كانت تعني به وتنشره، وما ينشر الآن في بعض الصحف لوجدنا تفاوتاً بينا ليس مما يرضى عنه من يرى أن التفكير الأدبي والثقافي يجب أن يساير التقدم العام.

في تاريخنا الأدبي لهذه الفترة - قبل أن تتجه بعض الصحف المصرية هذا الاتجاه الأخير ويشاركها فيه كثير من الكتاب أو ينساقون معا إليه - في تاريخنا الأدبي هذا نجد عشرات الكتب لمؤلفين من الطبقة الأولى جمعت وكانت معيناً للنهضة الأدبية والثقافية في مصر والشرق، وهي في الأصل بحوث نشرت في الصحف وكانت في وقتهاأيضاً من الدوافع المحركة لهذه النهضة. فكم نجد الآن بين ما ينشر في بعض الصحف المصرية مما يمكن أن يجمع في كتاب يقرؤه ويفيد منه مثقف ممتاز الثقافة أو متوسطها. . .؟

ومن الأنصاف أن أذكر بعض الصحف القليلة - كالرسالة والثقافة - بقيت على عهدها لم تنحرف ولم تساير وظلت محافظة على رعاية ما أنشئت له من العناية بالأدب الخالص على طريقتها الخاصة، ومنهجها الذي لم تتحول عنه يوماً.

إني - كما ذكرت - أشعر بالحرج حين أكتب هذا الذي أكتبه، فإني أحترم حق الزمالة، ولكني من ناحية أخرى أريد أن يحترم حق الفكر.

وناحية أخرى من نواحي الحرج أشعر بها فيما أكتب، فإني إذا قلت إن صحيفة واحدة، هي الأهرام، ظلت - وأكاد أقول وحدها - لم تشارك في الاتجاه الذي ذكرناه، وبقيت كما كانت يجد فيها قارئها كثيراً مما يشغل الذهن بالتفكير والعقل بالتأمل والإفادة، ومما يفيد الذوق بالترفيه والإحساس بالتهذيب والبهجة، ولم تنحرف إلى ناحية التسلية و (قتل الوقت) وتملق الغرائز، إذا قلت إن (الأهرام) بقيت هكذا فقد يقال إني أجامل وأمدح، والله ما إلى هذا قصدت، بل قصدت أن أضرب مثلاً.

وماذا يضرني بعد ذلك لو أني مدحت من أعتقد أني أنا صادق في مدحه. . .؟

محمود الشرقاوي