مجلة الرسالة/العدد 88/محاورات أفلاطون
مجلة الرسالة/العدد 88/محاورات أفلاطون
16 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- وإذن فلنعد الآن إلى حوارنا السابق - هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نعرفه في سياق الكلام، بأنه كنه الوجود الحقيقي - سواء في ذلك كنه المساواة، أو الجمال، أو أي شيءٍ آخر - أقول هل تتعرض هذه الجواهر، على مر الزمن، إلى شيء من التغير؟ أم كلاً منها يبقي هو ما هو دائماً، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغبر، ولا تقبل التحول بتاتاً، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟
فأجاب سيبيس - إنها لابد أن تكون دائماً كما هي يا سقراط،
- وماذا أنت قائل في تعدد الجميل - سواء أكان أناساً، أم لباساً، أم جياداً، أم أي شيء آخر يمكن أن يسمى متساوياً أو جميلاً - أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائماً، أم أنها نقيض ذلك تماماً؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبداً كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟
فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائماً في حالة من التغير
- وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وان تدركها بالحواس، فأما الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل - إنها تخفي على الأبصار فلا تُرى
فقال هذا جد صحيح
فأضاف - حسناً، لنفرض إذن أن ثمت ضربين من الوجود: وجوداً مرئياً، ووجوداً خفياً
- لنفرضهما
والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت
- يمكن فرض ذلك أيضاً
- أليس الجسد، فضلاً عن ذلك، جزءاً منا، وما يبقى هو الروح؟
- ليس في ذلك شك - تُرى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟
- ظاهر أنهما أشبه بالمرئي: إن أحداً لا يشك في ذلك
- وهل الروح مرئية أم خفية؟
- لم يرها إنسان يا سقراط
- وهل نقصد (بالمرئي) و (الخفي) ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟
- نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان
- وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟
- إنها لا تُرى
- هي خفية إذن؟
- نعم
وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟
- إن ذلك مؤكد جداً يا سقراط
- ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك، أعني حين تستخدم حاسة الأبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس) - ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجر الروح أيضا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فان الدنيا عندئذ تضرب حولها نسيجاً، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أئملته الخمر؟
- جد صحيح
- ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فأنها تفكر، وبعدئذ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها وهي تعيش معها أبداً، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة؛ فأنها إذا خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتسمى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة
أجاب: هذا صحيح، فحق ما قلت يا سقراط
- وبأي نوع ترى الروح أشد شبهاً وقربى؟ آستنتاجاً من هذا التدليل ومن سابقه؟
- أني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون قريبة الشبه بالثابت قرباً لا نهاية له - ولن ينكر هذا حتى أشد الناس غباء
- والجسم أقرب شبهاً بالمتغير؟
- نعم
- انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئاً بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعةُ الروح أن تحكم وأن تسيطر، والجسدَ أن يطيع وأن يعمل، فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟
- حقاً
- وأيهما تشبه الروح؟
إن الروح تشبه الإلهي، أما الجسد فيشبه الفاني - ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط
- إذن فانظر يا سيبيس أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصور المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول؟ هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟
لا ولا ريب
- ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعاً؟
- يقيناً
- وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الأنسان، لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمداً طويلاً إذا كان قوى البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تسمى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؟ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبداً لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فان بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي على التحلل بطبيعتها. هل تسلم بهذا؟
- نعم
- وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه، إن شاء الله، بعد حين - أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها وذاك أصلها، تتبدد وتفنى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس وأولى أن تكون الحقيقة أن الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قط بالجسد اختياراً، بل إنها لتتجنبه دائماً، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيف تموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة هي مرانا على الموت؟
- يقيناً
أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي - إلى الإلهي، والخالد، والعاقل، فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس، وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعاً، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يروي عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحاً يا سيبيس؟
- فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل
(يتبع)
زكي نجيب محمود