انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 879/العقل. . . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 879/العقل. . . .

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1950



للأستاذ محمد محمود زيتون

ما أكثر ما يعرف الإنسان! ولكن ما أقل ما يعرف عن نفسه. ولعل حكمة سقراط (اعرف نفسك بنفسك) لم تتغلغل في الأجيال المتصاعدة كما كان ينبغي لها. ولئن صح أن معرفة الإنسان يبدأ بما حوله ثم تنتهي به إلى نفسه، فمعنى ذلك أن الإنسان لما يفرغ بعد من معرفته الخارجية حتى يخلص لمعرفته الداخلية. فلحياة تنمو وتتسع، وتستطيل وتستعرض، وما يزال هو هو المتعجب من أحوالها. ومهما يكن من تقلبات الحياة، فإنه لا بد له من أن يعرف نفسه ليتابع سير القوافل الإنسانية تخب في صحراء الزمان متعبة كليلة. . إذن ليعرف الإنسان نفسه بنفسه.

حقا لقد شغلت الإنسان حياته، فعرف منها ما عرف، وأبقى ما لم يكن يعرف، وظل مرتبطاً بهذه الحياة ينمو معها وتنمو معه، تعلمه وتعمل له، وهو بدوره يعلمها ويعمل لها، غير أنها كانت قبله شيئاً آخر غير ما صارت إليه، بعد أن ملكته عليها طوعاً أو كرها، فقد كانت فوضى لا تجاوب ولا انسجام. غابات ودياج، صواعق وجبال، أمواج وأمطار، كلها رهيب، وكلها غريب. وهل حياة مع الغربة والرهبة؟ وهل حياة مع الوحشة والفوضى؟ لا بد إذن من (عقل) يؤلف بين هذه الكائنات أحياء وأمواتاً. لا بد من عقل يتفهم غايتها ورسالتها. لا بد من عقل للحياة. لا بد من (إنسان).

شرف الإنسان يوم أصبح عقل الحياة، وازداد شرفاً يوم صار عقلاً لنفسه، وإذن فقد مر بتاريخ طويل عريض، وتاريخ الحياة جزء من الحياة. مرت الإنسانية في نظر (كونت بمراحل ثلاث: اللاهوتية، والميتافيزيقية، والعلمية. وهذا التطور - وإن كان غير صحيح إلا أنه غير باطل، لأن اللاهوتية والميتافيزيقيا والعلمية مظاهر تبدي فيها العقل الإنساني حيناً وأحياناً، ومظاهر الإنسانية لا تحصى، إذ لم يكن العقل من زجاج حتى يحطمه التفكير العنيف، بل لم تعهد فيه الوقوف إزاء الحواجز والموانع صاغراً راهباً. وإنما اعتد بنفسه، وكان لا بدله من هذا الاعتداد ليكون تفاوتت درجة الاعتداد بالذات فهبط إلى حد التواضع والتوقف عن العمل والعلم في ثوبي التصرف والشك وبلغ هذا الاعتداد حد الاعتداد على الذات كما عند نيتشه. وابتغى العقل أحباناً طريقاً وسطا بين هذين الطرفين فلنحاول الوقوف على شتى أنظار الإنسان إلى العقل، ومدى ما وصلت إليه الدوائر الفكرية من تحديد نطاقه. . سواء في ذلك الفلاسفة والمناطقة، ورجال الدين والمتصوفة. والأخلاقيون ورجال الاجتماع والسياسة، وعلماء النفس والحياة، وأصحاب الرياضة والطبيعة وأهل الفن.

أما الفلاسفة فقد تنالوا أعمال العقل، وتأملوا الإحساس كأول مظهر لهذه الأعمال يقول هرقليطس: (الحمار يفضل العلف على الذهب. والكلب ينبح كل ما لا يعرفه) فما سبب هذا؟ السبب هو أن الحواس شهود غير عدول حينما تعمل في النفوس غير العاقلة، فلا يستطيع الحيوان أن يميز بين المحسوس والمعقول لأنه ليس مزوداً بما به يستطيع ذلك.

والإنسان - في بدء حياته - لم يكن يستطيع هذا التمييز، لأنه امتزج بالحياة امتزاجاً كلياً انتهى به إلى التوحيد بين الموجود والفكر توحيداً ناماً. فهو صورة للحياة، والحياة صورة له. أو كما يقول (فردريك رتزل الإنسان روح في الطبيعية، والطبيعة روح في الإنسان:

وأنبا ذو فليس يفسر الإحساس بأنه تقابل الأشباه، وإدراك الشبيه للشبيه. ويقول إن مركز الفكر هو القلب، قد سبقه ألفميون زعيم مدرسة أقروطونا الطبية في سقلية بأن المخ مركز الفكر.

وعلى العموم فإن أنبادوقليس وديمقريطس وأنكاغوراس كانت عندهم المعرفة العقلية هي الحسية، وهم إن ميزوا بين العقل والحس فإنما كان هذا من حيث محتويات كل منهما إذ كلاهما وظيفة عضوية

وكانت تلك أول خطوة نقدية خطاها اللاهوتيون والطبيعيون القدامى نحو المعرفة العقلية أعقبتها موجة السفسطائيين الذين أدوا للعقل أكبر خدمة كان سقراط أول وارث لها.

اتجه سقراط نحو العقل في ذاته بقصد الكشف عن شرائط المعرفة الحقيقية: دعا إلى أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، بأن يكتشف من معرفته بنفسه جهله بها، ذلك الجهل الحافز على الفكر والذي ينتهي إلى العلم بخصائص العقل الرئيسية التي هي التعريف والاستقرار. ولما كان الحق هو الخير وكلاهما في العقل أو هما العقل فإن العلم فضيلة، والجهل رذيلة.

وتبنى أفلاطون نظرية أستاذه في فطرية المعرفة، وقال بوجود معرفة لأهل الكهف كانت لهم قبل أن تغشى عيونهم بنور الشمس رمز الحق والخير والجمال. فلن تزكو النفس إلا بتذكر ماضيها المجيد، ولن تبلغ سموها بالعلوم التجريبية البالية وإنما بالحساب والموسيقى والهندسة والفلك تتيقظ على عالم المثل الباقية الخالدة والتي هي أسباب المعرفة والوجود جميعاً، التي تذكرها علم، ونسيانها جهل. ويقول في (فيدروس) و (عندما تعجز النفس عن طلب الحق وتفشل في الحصول عليه، يسقط منها الجناحان، وتهوى إلى الأرض. . أما النفس التي لم تر الحق قبلاً فلن تأخذ الصورة البشرية، لأنه لا بد للإنسان من معرفة بالكليات وقدرة على الانتقال من الجزئيات الحسية إلى المعنى العقلي، وذلك هو استجماع هذه الأشياء التي كانت النفس قد رأنها من قبل في سبيلها إلى الله عندما رفعت رأسها تستشرق الموجود الحق).

لم يستطع أفلاطون أن يتعرف خصائص العقل في ذاته، فولى وجهه شطر مصدره الأسمى وهو الله مثال المثل. وإن كان في طريق النفس إلى المثل صاعدة ومنها نازلة قد رسم أفلاطون سبيل الخلاص بالتزكية النفسية وهو سبيل إن كان حظ الحقيقة فيه أقل من حظ المثال إلا أن المثال نفسه من خلق العقل وابتكاره.

أما أر سطو فقد نظر إلى العقل. فعنده العقل المنطقي في (البرهان)، والعقل الأخلاقي في (الأخلاق) والعقل الاجتماعي في (السياسة) والعقل السيكولوجي في (النفس)، والعقل من حيث هو عقل في (الميتافيزيقيا) حيث قسمه إلى أربعة: عقل بالقوة، عقل بالفعل، عقل مستفاد، عقل نعال. وسار بنظرية العقل، بنظرية العقل حتى وصل بها إلى الله (عقل العقل) الذي يتأمل ذاته لأنها أشرف ذات. وشرف العقل إنما جاء من شرف موضوع لعقله، والموجودات تنزع إلى كمالها بالاشتياق إلى الله. وبذلك تفادى أر سطو مشكلة، كيف يتصل آلا حسي بالحسي؟

وبهذا المجهود العنيف كان أر سطو جديراً بأن يخلع عليه لقب (العقل) أو (عقل المدرسة). ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى تطور فكرة العقل الأرسططاليسي عند تلاميذ أر سطو وشرحه وأنصاره وخصومه من المسلمين وغيرهم في القديم والوسيط والحديث. وذلك لاختلاف الأنظار في فهم عقل أر سطو اختلافاً لم نشهد له مثيلا في تاريخ المسائل الفلسيفة.

ولقد اطرد التيار الأرسططاليسي الواقعي، وإلى جانبه التيار الأفلاطوني المثالي، وتراوح المفكرون بينهما، فمن جانب أفلاطون انحاز إلى أر سطو، ومن جانب أر سطو انحاز إلى أفلاطون.

وتبلبلت الأفكار في عصر السقارطة الصغار كرد فعل للحياة ومستلزماتها حتى لقد خلط إقليدس الميغاري بين الله والعناية والعقل وكلها أسماء للخير عنده. وظهر العقل عند الرواقعية في ثوب أخلاقي: إذ العقل هو أكمل الطرق لتحقيق أسمي الغايات، وبالعقل يدرك الحكيم أنه جزء من الطبيعة الكلية، والله عندهم هو (العقل) منبثاً في العالم، هو روحه المادية اللطيفة، وعليه تتوقف الغاية والضرورة المطلقة وقوانين الواجب.

أما الأبيقوريون فقد تحرروا من كل عقل، وانهمكوا في الملدات دون وعي بواجب أو قانون، وانحدرت المثالية الواقعية جنبا إلى جنب نحو الأفلاطونية الحديثة، وفيها لم يخلف ما لأفلاطون وما لأر سطو. فالعقل والمعقول شيء واحد، والعقل هو التفكير صار فعلاً محضاً، وكما ينطوي على عدد من النفوس الفردية تهبط إلى الأجسام (كما لو كان صوت منادي ناد بها) ولكنها في هبوطها قد تذكر سرورها في حال أصلها، ناسية إياها الذي في السماء، وهي إن خرجت من الجسد لتعود إلى الله لا تفصلها قط عن النفس الكلية، مقامها دائماً في العقل، ولترجع النفس إلى الله يلزمها أن تخرج عن نفسها بالزكاة النفسية والتأمل في المثل أولاً وأخيراً،

وإدمان النظر في الحياة، واضطراب مجرياتها في الوجدان أدى إلى الشك؛ فالحواس خادعة، وليس لدى العقل ضمان للحقيقة واليقين فتوقف الشكاك عن السلب والإيجاب وآثروا تعليق الحكم، واستمرءوا الحيدة في السلوك.

وانطوى القديس أوغسطين على نفسه حين أراد أن يعرف ربه، لا بالميزيقيا الحقيرة، وإنما بالوجدان والعلم الباطني، فمتى عرف العقل الإنساني أنه متغير، وفي نفسه لو عرف أن لديه فكرة عن الحق الثابت الباقي، فليس على العقل إلا أن يسمو على نفسه ليرقى إلى منبع كل نور وأصل كل خير، إلى العقل الذي ينيرنا إلى الله، وهو المبدأ الباقي لكل التقاويم التي يظهر فيها حلقه

ولا بد من لإشارة إلى الجدال العريض الذي دار حول أسبقية الكليات بين الواقعيين والاسميين من فلاسفة المسيحية في القرون الوسطى. قال (القديس أنسلم) وهو من الواقعيين الأفلاطونيين (الكليات أسبق من الموجودات) وقال (كما أن الفكر هو الواصل بين المرء نفسه، فكذلك المثل هي الواصلة بين الله وذاته) الله مصدر كل معرفة هو الحق الأسمى الذي يخلق كل حق، وهو الطيب الذي يمنح كل طيب، والمطلق الذي منه وحده ندرك النسبي الذي لابد لنا من نماذج سابقة عليه نتمثلها حتى توازن أو نحكم. وهكذا بإدراك النسبي اتخذ أنسلم برهاناً مباشراً على المطلق وهو الله.

وعارض هذه النزعة جماعة الواقعيين الأرسططاليين من أشهرهم (ألبرت الأكبر) و (توماس الأكويني) و (دنز سكوتس) وقالوا بأن ليس للكليات وجود جوهري خارج الأشياء، بل هي - كما يقول أر سطو - لا توجد قبل الأشياء وإنما في الأشياء , وبذا لانهار القول بالمثال. والقديس (توماس الأكويني) يميز العقل والنفس التي هي الملكة العليا للمعرفة والحدس، وإن كان أصلها في طيعة النفس واحداً.

أما الأسميون فقد رفضوا المعاني العامة، وقالوا بأن العقل ما دام بالقوة فلا يمكن أن يفضي إلى الإيمان. منهم (وليام الأخامي) الإنجليزي (القرن 14)، وعنده أن العالم في العقل لا في الأشياء، وأن ليس للمعاني وجود في عقل الله، ولا سبيل إلى المعرفة إلا الحدس بنوعية الحسي والوجداني. ولما كان الحق نسبياً وقائماً على الحدس الشخصي فليس للعقل إذن وجود مطلقاً.

ولقد اهتم فلاسفة الإسلام بنظرية العقل متأخرين، فتح الباب لهم (الكندي) في رسالة (معنى العقل عند الأقدمين) وتبعه (الفارابي) في (مقالة في معاني العقل) وعالجها (ابن سينا) في الصدور أو الفيض، وكذلك (الغزالي) في معظم كتبه وأهما في هذا الباب (معارج القدس في معرفة مدارج النفس) وكذلك (ابن رشد) في (منهاج الأدلة).

وهؤلاء جميعاً حولوا عقل أر سطو إلى عقل إسلامي، جانبه الفلسفي معروف، أما جانبه الإسلامي فأصله الديث المروي (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز إلى منك، بك أعز وبك أدل، وبك أعطي وبك أمنع). وقد ذكر الشهر ستأتي أن الحايطية - أصحاب أحمد بن حايط المعتزلي - أولت حديث رؤية الله يوم القيامة بأنه العقل الفعال أو العقل الأول الذي يعنيه الحديث.

(للكلام بقية)

محمد محمود زيتون