مجلة الرسالة/العدد 877/صور من الحياة
مجلة الرسالة/العدد 877/صور من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
هبت نسمات الربيع تدفعني إلى الماضي الجميل، فحن الفؤاد إلى مراتع الطفولة، وصبا القلب إلى ملاهي الصبا، ونزعت الروح إلى ملاهي الذكرى، هناك في القرية حيث الربيع الغض يمد سحره الرفاف، فينشر على البر بحرا سندسي الحواشي، مرح الاعطاف، يبسم لهبات النسيم في رقة، ويصافحها في لين، ويعانقها في شوق، حيث الغدير العذب ينساب إلى غير غاية، يترنم بأناشيد الهوى ويشدو بألحان الغرام، وهو يضم بين حبات قلبه صفية الحبيب: شعاع الشمس الذهبي الذي يدفىء حناياه بزفرات الشوق والحنين؛ حيث فيء شجره التوت يتهادى ليهدهد من أنات الثور المعنى ونواح الساقية الشجي؛ حيث أهلي الذين أتشوف إليهم برغم أن شواغل المال قد جرفتهم فجف فيهم الحنان وذوى العطف ونضب الصفاء؛ حيث الفلاح الذي يئن تحت وقرين من ضنى العمل ورقة الحال. . .
وجذبتني نوازع النفس إلى القرية فطرت إليها أستجم من عناء وأتدع من كلال وأهدأ من صخب، فخلت أول شيء لباس المدينة وهو ضيق يرهق الجسم ويحبس الدم ويخنق الحركة، ثم انطلقت وحدي إلى مكان ذي ظل وهدوء، على أجد نفسي وخواطري معا.
وتكبكب الفلاحون يحيون الضيف الذي حل ديارهم على حين فجأة بعد سنوات من نأي كادت تمحو ورته من الذهن، وتمسح سماته من الخاطر، وتطوي تاريخه من الوعي. . . الضعيف الذي نقض عنه - في لمحة واحدة - أثر المدينة فلبس ثوب الفلاح في غير تمنع، واستلقى على ثرى أرضه في غير تحفظ، وأكل طعامه في غسير تفزز، وشرب شرابه في تكمش. ومستنى روعة المكان وروعة الاخلاص المتدفق من أغوار النفوس الطيبة الزكيه التي ترفل في دثارين من الرضا والقناعة؛ فأخذت معهم في حديث راح يتشقق فنونا، وإن فيه العذوبة والذكرى. ومضت ساعة من زمان وأنا أرقب رجلا منهم نفر من الجماعة فانتحي ناحية فما شارك في الحديث ولا هش للمجلس، ولكن ظل في منأى عنا منطويا على نفسه وعليه آثار الأسى وفيه علامات الحزن؛ وتراءى لي كأنه يحمل على عاتقه أعباء السنين العجاف، وراعني أن ينقض السامر ولما أكشف عن طوايا نفسه أو أنقذ إلى أعماق قلبه، وإني لأعرفه فتى طروب النفس خفيف الحركة قوي العضل. . . أعرفه منذ أن كان أبي رب هذه الارض وصاحب هذا الغيظ وسيد هذا الناس، ومنذ أن كنت أنا صبيا أرفل في عبث الطفولة وحماقة الصبا.
وناديته فلبى وجاء يتوكأ على عصا0 وقد حطمته السنون فبدا هيكلا يتداعى من وهن وضعف، ثم سألته (ما لك لا تنغمر في الحديث ولا تندفع في السمر ولا تهتز للطرب؟)
فقال (يا بني إن أبناء المدينة لا يفهمون لغة الريف ولا يستمرئون شكوى المظلوم)
قلت (وي كأنك نسيت أنني ابن الريف وربيته، لم تصرفني عنه إلا نوازع العيش ولا تدعني عنه إلا دواعي الوظيفة!)
قال (ولكنك جئت ترفه عن نفسك وللذة الهادئة، وتلتمس السكون والراحة من صخب المدينة، فما كان لي أن أعكر صفو المتعة بشوائب الشكوى، ولا أدنس سعادة المرح بأنات الاسي
قلت (لا بأس عليك! هات حديثك عسى أن أجد لك فرجة من ضيق أو برءاً من سقام)
فقال في صوت شاع في نبراته الاسى وافحم رناته الحزن: (أما قصتي فهي قصة الضعف تعصف به القوة العارمة، قصة الفقر يعبث به الغنى الجارف.
(لعلك، يا بني، لا تذكر يوم أن تركت غيط أبيك إلى ضيعة سعادة البك! لقد فعلت وإنه ليتراءى لي أنني أفر من ضيق إلى سعة ومن شظف إلى خفض. وكنت - إذ ذاك - فتى في الطمع والطموح في وقت معا) ونسيت أن الثراء العريض لا يرقق القلوب القاسية، وأن النعمة السابقة لا تداوى الانفس الشح، وأن المال الوفير لا يلين العقول الجافة؛ ولكنني طرت إلى عزبة البك
(وتقبلني سعادة البك ورجالة بقبول حسن، وتقبلت أنا العمل بشوق وأمل، وانطوت الايام فاذا أنا أقرب الناس إلى قلب البك، يسبغ على من نعمته ويحبوني بفضل رعايته، ثم يقيمني رئيسا على عماله
(ووجدت في عملي الجديد معاني السيطرة والسلطان، وأنا - حينذاك - رجل صقلتني التجارب وشذبتني الحياة، فرحت أبذل غاية الجهد وأستنفذ وسع الطاقة لاكون أهلا لثقة البك، وعشت بين العمال أخا وصديقا وصاحباً، وعشت في الغيط أمينا ومخلصا، وعشت في دار سعادة البك خادماً وعبداً؛ لا أتطاول إلى طمع ولا أتشوف إلى جشع، ورضيت ورضى أهلي، وأحس أولادي بالخفض والسعة، فاطمأنت نفسي وسكنت جأشتي واستنامت خواطري، ولكن الحوادث لم تنم. . .
(وعلى حين غفلة أصاب ابني ألاكبر داء عضال، فتفزع قلبي واضطربت حياتي لانه عوني وساعدي ولأنه أبني. . .
(وطرت إلى الطبيب أستشيره وأستعينه على أمري، وتحث الطبيب حديثاً ثلج به صدري وتطمئنت له لوعتي، ثم بدأ يطب لمرض المريض وأنا أدفع الأجر من عرق الجبين وأجزل العطاء من عناء العمل
(ليت شعري هل كان الطبيب يسخر من غفلتي ويهزأ من جهلي حين راح يمد لي في الأمل ويفسح لي في الرجاء ليخدعني عن مالي ويستلبني من كد العمر. آه، يا بني، لقد ظل أبني بين يدي الطبيب شهوراً لا يجد الراحة ولا الشفاء والطبيب يمكر بي ليستنفذ طاقتي حتى لصقت يدي بالتراب ولم يبق في داري سوى صابة تشوك أن تنضب، ولكن الامل. . . ومرت الايام فاذا انا لا اجد قوت يومي، وإذا الطبيب ينذرني في جفاء وغلظة. . . ينذرني بأن يقذف أبني إلى عرض الشارع إن أنا لم أشبع نهمه أو أرد غلته
(يا لقلبي ما أغلظ أكباد قوم سيطر عليهم سعار المال فصرفهم عن معاني الانسانية الساميه ودفعهم عن رقة الرحمة والشققة
(وانطلقت إلى سعادة البك - سيدي - أقص قصة أبني المريض وهو يقاسي برحاه المرض عند الطبيب، وأنا أعاني مس الفاقة هنا بين يديه، وطلبت إليه أن يعينني ببعض ماله. . . بخمسة جنيهات.
(وحدجني ألبك بنظرات قاسية ثائرة ثم قال (وإذن فقد شغلك أبنك عن عملي شهورا. لا بأس فهذا أمر أستطيع أن أغفره لك. أما الجنيهات، فمن ذا الذي أوهمك بأن داري هي بعض التكايا فتطمع أن تجد فيها مالا غير أجرك الذي تستحق).
(وأنكشف لي قلب سعادة ألبك عن حجر لا ينبض برحمة ولا يخفق بشفه فقلت له في توسل (ولكنني خادمك منذ زمان وهذا أبني بين يدي طبيب غلط الكبد قاسي الطبع خدعني عن كل مالي وهو ألان يوشك أن يقذف به مريضاً إلى عرض الشارع لأنني لا أجد ثمن العلاج ولا ثمن الدواء).
فقال في قسوة (لا عجب أن تمن علي بعمل نلت أجره مرتين. أما الطبيب، أما أبنك فلا شأن لي بهما، فأخرج وإلا. . .)
(وخرجت من لدن سعادة ألبك وأنا أذرف عبارات الأسى واليأس وقد ضاقت على نفسي وضاقت على الارض بما رحبت، وحدثتني شجوني بأن ألقي بنفسي في أليم لأخلص من حياة لا أحس فيها إلا قلوبا قدت من حجر فما امسكني إلا أبني المريض الذي يترجى عودتي)
(وأنفت نفسي - منذ تلك الساعة - أن أعيش في كنف البك الذي تكشف لي عن وحش مفترس يتأنق في مسلاخ إنسان، وترامى الخبر إلى البك فأقام حارسا) على داري، ثم طردني وحبس قوتي وقوت عيالي فما استطعت أن أحمل معي الذرة ولا القمح. . . ولا العيش. وتركت الدار التي كنت أسكن في عزبة البك. . . تركتها يوم أن مات أبني)
(وأحر كبدي لقد عشت ساعة على قارعة الطريق أذرف لوعة قلبي وحرقة فؤادي أمام جثة أبني المسجاة في أسمال لان سعادة البك رفض أن ندخله في داره، وأني في قسوة أن يمد لي يده في ساعة العسرة، ولكن عماله أعانوني في الشدة وساعدوني في الضيق.
(ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!)
كامل محمود حبيب