انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 865/الفونس دوديه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 865/الفونس دوديه

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 01 - 1950



الأديب الضاحك

للأستاذ أنور لوقا

منذ قرون ثلاثة، تساءل (لابروبير) وساءل قراءه لماذا تخجل من البكاء في المسرح إذا شهدنا قصة محزنة، على حين أننا ننفجر بالضحك إذا شهدنا قصة هازلة؟ لماذا لا نرسل الدمع كما نطلق الضحك؟ أو لماذا لا نكتم الضحك كما نحبس الدمع؟ أهي طبيعتنا أميل بنا إلى الضجيج بالفكاهة منها إلى التفجع للحزن؟ أم أننا نخشى أن تختلط قسمات وجوهنا ونشوه صورتنا أمام الناس إذا بكينا؟ فإن منظر الواجم المنتحب أروع وأجلّ من منظر الماجن المقهقه! لعله تحرج إذن من الظهور بمظهر التأثر والحنان والضعف، لا سيما إزاء موضوع خيالي غير واقعي يسوؤنا أن نعترف لسوانا بأنه يخلبنا ويخدعنا. ولكن المرء لا يتأثر على أي حال إلا لأن الحقيقة قد مست قلبه، أو تمثيل الحقيقة، وما يقاوم البكاء والضحك جميعاً، ولا يسفه (المخدوعين) بالقصة إلا شرذمة من المتحذلقين. لقد كان علنيا إذن أن نذرف الدمع في الملعب على مرأى من الناس، وأن نسمع جمهور المسارح يموج أحياناً بالنواح كما يجلجل أحيانا بالضحك!. . .

وأكبر الظن في تعليل هذه الملاحظة الطريفة أن الضحك - كما يقول برجسون - ظاهرة اجتماعية، تنشأ بين عدد من الناس، أما البكاء - ولا ندري ما رأي برجسون في البكاء - فظاهرة فردية تنبع من صميم قلب المرء، أي أن الفكاهة (اتجاه إلى الخارج) والحزن (اتجاه إلى الداخل) إذا صح فهم هذا التعبير:

من أين يأتيك الضحك ومن أين يأتيك البكاء؟. . . أنت لا تضحك من تلقاء نفسك، هيهات، ولكنك قد تحزن وقد تبكي إذا خلوت إلى نفسك. وأنت لا تكاد تمسك عن الضحك والتندر والمزاح كلما ضمك مجلس أو لقبك صديق، ولكنك لا تجرؤ على أن تبسط أشجانك أمام جماعة من الناس، لا سيما إذا ضحكت الألفة بينك وبينهم. فأنت تريد بالتضاحك أن تشرك الآخرين في ملاحظة ساخرة لاحظتها، ولاستهزائك برذيلة أو عيب وظيفة اجتماعية هي عقاب تلك الرذيلة أو تقويم هذا العيب. أما الحزن الذي يستولي عليك حين ترى مشهداً فاجعاً، فما هو إلا تأثرك بالمأساة، واستقبالك لها، واستئثارك بشطر منها لنفسك. الحزن إذ شيء تأخذه لنفسك لا لغيرك، وتحتفظ به لك وحدك ولا تعرضه على سواك. وكثيراً ما يبيت سراً من أسرارك تجتره في ضميرك وتدفعه في وجدانك ويمنعك الحياء من أن تبوح به للآخرين، فإذا ناجيت به خلاً حميماً فلأنك تجد في هذا الخل مرآتك أو بقيتك، أي أن حزنك لا يخرج عن نطاقك الخاص على كل حال. ومن هنا قلنا إن الحزن اتجاه إلى الداخل بمعنى أنه شعور داخلي، باطني، خاص لا تكلف فيه ولا عناية، ويكون في أنقى حالاته عند المنطوي على نفسه، والضحك واتجاه إلى الخارج بمعنى أنه تهريج مع الناس، وانبساط هو ضد الانطواء لفظاً ومعنى، وسخرية ترمي أهدافاً قريبة أو بعيدة، وتكلف اجتماعي ميدانه العالم الخارجي قبل كل شيء.

وقد كان ألفونس دوديه رجلاً رقيق الشعور عميق التأثر، لا يفصل الأدب لحظوة عن الحياة (راجع العدد 846 من الرسالة: الشاعر في الشارع).

كان في أدبه كما كان في حياته، قيثارة مرهفة الأوتار. ها هو ذا، تهز نفسه مأساة صغيرة أو كبيرة، فيأتي إلينا والدمع يجول في أجفانه، ويفتح لنا قلبه يناجينا بها مناجاة إلف صادق، ثم يحس عبراته تنسجم كلما أفاض في قصته، فينظر حوله بمقلتيه البليلتين، ويرنا متأثرين، فيفيق، ويغمره لون من الحياء، ويكاد يخجل ويندم، ولكي يستر ضعفه يبادر إلى إلقاء نكتة سريعة والابتسام لها. . . على أن هذا كله يتم في لحظة قصيرة، فيلتقي الحزن والمرح في عبارة واحدة، وتمتزج الدمعة والابتسامة في حديثه دائماً.

هذه الفكاهة الخفيفة اللاذعة في أدب دوديه هي قناع الحنان وستار الإحسان، لأن كاتبنا الساحر حبي، يتجنب أن يستمطر مآقي جلسائه أنهار الدمع إعلاناً عن رحمته بالأشقياء وبره بالبائسين. أنه يكره التكلف والإسراف. وقد أغرق أتباع روسو فجر القرن التاسع عشر في سيل من الدموع، وأصبح الكاتب لا يبكي إلا ضماناً لرواج كتابه، والممثل لا ينتحب إلا استغلالاً لمشاعر النظارة، حتى لقد نفر الفرنسيون منذ ضحى القرن التاسع عشر من إظهار العاطفة وأمسوا يعتبرون البكاء نفاقاً والعويل أضحوكة واستدرار الدمع فناً بالياً مبتذلاً. لهذا كانت لابتسامة دودية قيمة الوقاية من وباء. وهي وقاية طبيعية تشهرها السجية الخالصة ويشهرها الحياء الجم في وجه التكلف البغيض. بل إن شعشعة الحزن بشيء من المرح فن عميق، بعيد المرمى، خليق بأن يمد من تردد الحزن في نفس القارئ، إذ يتركه مختلجاً بالتأثر بدلاً من أن يذيبه حسرات ويسحقه بالكمد.

وهذا هو الفرق بين حزن دوديه وحزن معاصريه من أدباء المدرسة الطبيعية المادية - أمثال إميل زولا. فهؤلاء يستنبطون مشاهد عنيفة، ويصفون آلاما قاسية، ويفعموننا ما استطاعوا بشعور بارد كثيف من التشاؤم الأسود الحالك. نقرأ قصصهم فتؤزنا وتثيرنا، وتظل تقيمنا وتقعدنا، حتى ترهقنا بالألم والثورة، وتكتم أنفاسنا في آخر الأمر تحت كلكل القدر الغشوم الذي يذهب البطل ضحيته. على أننا لا نكاد نرثى للبطل ولا نكاد نشفق على أصحابه، فهم قوم جبابرة ملاعين، كأنهم قُدوا من صخر، وكأنهم خلقوا للعذاب، وإنما تروعنا بشاعة البؤس، وتفزعنا رهبة المصير، فننسى الأشخاص جميعاً، ونفكر فيما ورائهم، وتنتهي أفكارنا إلى سخط على الحياة وحقد على القدر ويأس وقنوط. ولا كذلك عاطفة دوديه؛ فإنها نقيض هذا الشعور الجائع الناقم الممض. إنها نزعة مستبشرة إلى الخير، إنها نظرة عين وامقة تفتقد الصغار وترفق بهم، إنها إخاء وحنان، إنها أحضان رحيبة مفتوحة، عزاء للبائسين والمساكين، بكاء معهم وابتسام لهم. فليس يحرك عطفنا إلا شقاء يحيق برجل شبيه بنا، نستطيع أن نتعرف فيه أنفسنا دون أن ننفر من موقفنا وسلوكنا إذا قمنا مقامه، ويشتد عطفنا وتزداد شفقتنا حين يعبر عن هذا الشقاء رجل شبيه بنا يحس الإحساس ويحسن التعبير عما يحس، باللفظ أو الإيماء أو الصمت. ويا لمناهل الشعور الإنساني الكريم التي تتدفق في أقاصيص دوديه! بيد أن دوديه يعرف كيف يشجينا دون أن يجلل الحياة أمامنا بالسواد والشؤم واللعنة. أنه غني عن المشاهد العنيفة والمواقف المثيرة. وأين حياتنا التي نحياها من تلك النوازل الهائلة التي لا تبقي ولا تذر؟ وأما هذه التوافه التي يهملها الكبار والمتكبرون، والتي تعج بها أيامنا وليالينا، فهي بعينها ما يلتمسه دوديه وما يعني بتقديمه لنا (راجع العدد 809 من الرسالة: الشيء الصغير).

أمن دمع هذا الكاتب تنبع ابتسامته؟ فإن ابتسامته بدورها لا تغيض ليست سخرية دوديه بالشائكة ولا الحادة ولا الخبيثة ولا المريرة. ليس كسخرية لابروبير أو فولتير أو أناتول فرانس. ولا هي هزل أجوف عماده بديع اللغة والتلاعب بالألفاظ، وإنما هي تهكم حي، عذب، خصب، ينالى المعاني والمواقف والأشخاص. بل إننا نبالغ في إطلاق كلمة السخرية على فكاهة دوديه، إنها مزاح برئ، ميل إلى العبث من طفل كبير يلمح عيباً في بعض الناس أو ضعفاً في بعض النفوس فيضحك فمه ملء فيه ويضحكنا معه، ولكن هذا الطفل الكبير يرى في نفس الوقت وراء الكلمة أو الحركة التي كشفت له ذلك العيب المضحك أو ذلك الضعف المضحك وجه إنسان دائما، وجه أخ مسكين ألمه من آلامنا وبؤسه من بؤسنا ومصيره كمصيرنا، ومن هنا تجتمع الدمعة والابتسامة في وجه الفونس دوديه، وتأتلقان، ولا تفترقان قط، وهل حياتنا إلا مزاج متصل من هذه وتلك؟

ولقد سأل ليون دوديه أباه ذات يوم عن سر قدرته وبراعته في ولوج قلوب الآخرين والتعبير عنها، فأجابه إجابة ضافية، قال: (لست يا ولدي ميتاً فيزيقيا كما تعلم، ولكن يبدو لي، من خلال جميع المذاهب، أن الفلسفة وإن كانت نافذة النظر في مشاكل العقل والفكر والذكاء، إلا أنها أولية بدائية قاصرة في كل ما يتصل بالشعور.

مازال الشعور يا بنيّ عالماً غامضاً مجهولاً مليئاً بالهوَّات السحيقة. ألم يكن كل مجهود ديكارت وسبينوزا مجرد محاولة إرجاع الشعور إلى العقل، والتماس حلول منطقية جافة للمسائل العاطفية.

أما أنا فليس لي إلا خبرتي، تدعمها بعض الأحلام. بيد أن خبرة شخص واحد هي خبرة الناس جميعاً، ما دمنا أفراداً يمتاز كل منا عن صاحبه بنظم دقيق خاص من ملكات عامة.

والشعور الإنساني يبدو لي ضرباً من محيط دائرة، كل عنصر فيه إنما هو صورة مختصرة للمجموع، وما الرحمة الفردية والألم الفردي والإحسان الفردي إلا انعكاس للرحمة الجامعة والألم الجامع والإحسان الجامع. . .

إن علينا نحن القصاصين واجبات وأوزاراً: علينا أن نشرك الناس دائماً في شعور واحد، وأن نرمي بكل ما نملك من جهد إلى غاية مثالية هي حفز دوافع الخير والكرم في النفوس، وعطف هذه النفوس بعضها على بعض، وتوجيهها وجهة سامية تكون قبلة الجميع وملتقى إرادتهم. وعلينا نحن القصاصين يقع وزر ما ننشر من شر ومن قبح سواء صدرنا في ذلك عن إهمال أو قضينا به حاجة وأصبنا رزقا. وعلينا يقع أيضاً وزر القعود عن إسداء العون، وترك الضعاف للفشل واليأس، وازدياد آلام الإنسانية وخبثها. . .)

وتلك لعمري فلسفة الشعور التي تزري بالفلسفة. فلسفة صادقة ساذجة نزيهة، فلسفة الإنسانية الصريحة التي تأبى أن يخنقها المنطق والتحذلق، وتحيا قريرة في النفوس المؤمنة بالخير، والقلوب الخافقة بالحب، والأيدي الممتدة بالإحسان، والعيون الدامعة والشفاه الباسمة.

أنور لوفا