انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 864/سلسلة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (3):

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 864/سلسلة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (3):

مجلة الرسالة - العدد 864
سلسلة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (3):
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1950



غاية الأخلاق عند أرسطو

للأستاذ كمال دسوقي

لنشرع الآن. . . على ضوء ما قدمنا - في تحليل الكتاب الأول من الأخلاق النيقوماخية المطلوب إليكم دراسته تحليلا مفصلا. وفيه يتناول أرسطو بالحديث غاية الحياة على النحو الذي قلت في المقال السابق إنه يبدأ به بحثه في كل علم وفن أعني عرض مختلف الآراء والنظريات ومناقشتها ونقدها قبل الشروع في الإدلاء بنظريته هو التي تجدونها - ويجب أن تطلعوا عليها. . . الكتاب العاشر (الأخير) من الأخلاق النيفوماخية في المجلد الثاني.

وإنما بدأ بدراسة الغاية وكل شيء في الحياة من علم أو عمل فإنما له غاية يرمي إليها، وبتحديد هذه الغاية تحديداً واضحاً منذ البدء يتضح السبيل أو الوسيلة إليها. بل إن الغاية نفسها هي التي كثيراً ما تعين الوسيلة المؤدية إليها، كالحصة في الطب، والانتصار في الحرب، والثروة في الاقتصاد. وقد تبرر الغاية الوسيلة كما في بعض المذاهب الأخلاقية المتطرفة مما يعبر عنه مبدأ مكيافيلي المعروف: الغاية تبرر الوسيلة أي تشفع لها وتستبيح في سبيل تحقيقها أية وسيلة مشروعة كانت أو غير مشروعة. فالغاية وإن كنا تصل إليها آخر الأمر - وقد لا تستطيع الوصول إليها لعدم توفر أسبابها ووسائلها. . . إنما تحدد بادئ الأمر ومن هنا لزم وجود علم (أو علوم) وفن (أو فنون) تختص بدراسة كل غاية من هذه الغايات، وتنتهي من تعرف طبيعتها إلى وصف الطريق المؤدية إليها.

وما أكثر ما تتعدد الغايات وتتعقد - على خلاف بينها في درجة التعقيد. فمن الوصائل ما تحمل في طيها قيمتها بحيث تصبح هي الغاية. بمعنى أن تكون مصورة لذاتها (فقرة 2 سطر 2) كمن يتلقى العلم لذات العلم، أو يزاول نوعاً من الفنون كالرسم أو التصوير أو الشعر حباً في الفن، من غير أن تكون له غاية أخرى من حب الشهرة أو الثروة أو نحوهما. وأحياناً ما يكون العمل وسيلة لغاية مرسومة، كما في أغلب أفعالنا الإنسانية التي هي في معظمها وصولية نفعية حتى لينكر المعاصرون وجود العلم للعلم، وحي الفن للفن، إيماناً منهم بأن كل شيء لابد له من غاية تستتر وراءه وتكمن فيه. والأمر أشد عسراً حين تدرك أن من هذه الغايات ذاتها ما يكون وسيلة لغاية أسمى، فلا يقصد لذاته، وقد يكون لهذ الغاية الثانية غاية أبعد وهكذا. ويردد أرسطو هنا ما سبق أن قال به في برهان وجود الله (العلة الأولى) من أن هذا التسلسل في الغائبة. . . كما كان في العلية. . . لا يمكن أن يكون إلى غير نهاية بل لابد أن يقف عند حد يكون هو العلة الأولى أو علة العلل التي ليس وراءها علة، والخير الأسمى الذي ليس بعده خير، والذي هو موضوع جميع الآمال على اختلاف مذاهبها إليه.

فمن الغايات إذن ما هو جزئي وما هو كلي، كما أن من العلوم التي تدرس هذه الفايات ما هو جزئي وما هو كلي. وإذا كان الخير غاية العلوم العملية على النحو الذي بينت في تقسيم العلوم عند أرسطو في المقال السابق، فيكون من الخير إذن ما هو جزئي وما هو كلي. الجزئي هو الأخص الذي يتعلق بالفروع - والكلي هو الأسمى الذي يتعلق بالأصل. وهو عند أرسطو علم السياسة الذي يتعلق بتدبير أمر الدولة أو المدينة (واسمها في اليونانية وإذا تذكرتم الملحوظة الثالثة التي ذكرت لكم في التعليق على لوحة العلوم الأرسطية في المقال السابق الخاصة بتدرج العلوم العملية في أهميتها نحو الكثرة، سهل عليكم أن تدفعوا ببطلان اعتراض المترجم الفرنسي (الفقرة التاسعة ص 71، هامش) على أرسطو في جعل علم السياسة قمة العلوم العملية. فلما كان الفرد وحدة المجتمع، والخلية الأولى في تكوينه، وكان البحث في خيره وسعادته يجب ألا يتعارض مع بحث خير الدولة وسعادتها، فقد رأى أرسطو يحق أن يخضع الأخلاق (علم تدبير الفرد) والتدبير المنزلي (تدبير الأسرة) لعلم السياسة (تدبير الدولة) حتى يكون للمجموع الهيمنة على الفرد فلا يدعه ينشد سعادته ولذاته أينما شاء ومهما تعارض مع سعادة الآخرين، وفي ذلك الفوضى والاضطراب خصوصاً وأن ما يراه هذا العلم خيراً على الجماعة فإنه يفرضه على كل أفراد هذه الجماعة باسم القانون أو العرب أو التقاليد التي يستحق من يحيد عنها جزاء من جنس عمله. ومتى كان القانون الخلقي يكفي وحده لضبط سلوك الأفراد. . . وليس للضمير سلطان على الكثير منهم - إلا أن يظاهره القانون الوضعي (أو المدني)، والقانون السماوي (أو الدين)؟ إن الفرد في نظر أرسطو حيوان اجتماعي لا وجود له منعزلا. وهي وجهة نظر الاجتماعيين وبعض علماء النفس المحدثين.

وإذ وضح أن الخير الحقيقي الأسمى للإنسان هو موضوع الأخلاق التي هي فرع من علم سياسة الدولة، فإن أرسطو يريد أن ندرس هذا الخير من وجهة نظر عامة لا في أمثلة فردية ربما كانت نتائجها شاذة - والشاذ لا حكم له ولا يقاس عليه (فقرات 14 إلى 16) خصوصاً وأن الحكم على الأشياء الجزئية يتطلب معرفة خاصة بها كما أن الحكم بطريقة عامة كلية يتطلب خبرة أوسع وتجربة أشمل، ومن هنا جاءت عدم صلاحية الشباب. . . شباب السن الأحداث وشباب العقل الذين باتباعهم الهوى يعطلون ملكة العقل فتصدأ وتطيش ولا تصلح للتفكير السليم - نقول عدم صلاحيتهم لتعاطي هذا العلم والبحث فيه , فليست غاية الأخلاق مجرد العلم بالخير، بل رياضته ومزاولته عملياً وقبل كل شيء (ف 18 - 20)

وفي الفصل الثاني يناقش أرسطو فكرة الخير من حيث ما ينظر الناس إليها. هم مجمعون على أن الخير الأسمى هو السعادة، والسعادة يريدون بها رغد العيش وحسن الفعل. ولما كان هذا التعريف عاماً وغير محدد، فإنه يتسع لكثير من التفريعات تختلف وجهات النظر وبتباعد الناس. ولما كانت الآراء هنا من الكثيرة والنسبية (الغني بالنسبة للفقير، والصحة للمريض.) بحيث لا تحصر فإن أرسطو يقتصر على ذكر أكثرها شيوعاً وأدناها إلى الصحة. وهنا يثير أرسطو مسألة المنهج الذي سيسير عليه في استقراء أنواع السعادة هذه. فيحمد لأفلاطون تفكيره في البدء من الأشياء الجزئية إلى المثل الكلية أو العكس مرجحاً هو طريقة الانتقال من الحالات الجزئية إلى قانونها العام، ومن الأشياء الشائعة الموجودة في الواقع بوضوح إلى ما عسى أن يكون لها من علة. وبمعنى آخر من المعلومات إلى العلة، والمسببات إلى السبب. وهذا هو منهج الاستقراء الذي لا نزال نأخذ به حتى اليوم بوصفه أصح منهج لدراسة الأخلاق.

وعلى أساس هذا المنهج القويم يصنف أرسطو السعادة عند الناس من حيث هي الحياة الهنيئة إلى حياة اللذة، فالمجد والشهرة، وأخيراً حياة الحكمة والتأمل: الأولى هي الحظ الدهماء والعامة و ' ن شاركهم فيها بعض ذوي السلطان المترفين الناعمين - وهي على أي أحوالها تجعل من أصحابها بهائم أولى منهم أناسي. والثانية (حياة المجد والشرف) أرفع شيئاً، ولكنها توهب ولا تؤخذ، يعني أنها ملك لواهبها لا لطالبها - إن شاء أعطى وإن شاء سلب - هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي ألا نطلبها لما يدل عليه السعي إليها من تهافت وضعة ورغبة في التكمل بما ليس فينا؛ أو على الأقل التثبت والاستيقان من وجوده فينا - وكلاهما شر أقل ما يدل عليه أن ما نريد أن ننسبه لأنفسنا - أو ينسبه لنا الناس - (وهو الفضيلة) هو أولى بالسعي والاكتساب. والفضلة ذاتها لا تصلح وحدها غرضاً للحياة وإلا كانت مملة - بل شراً أحياناً (ويتناولها أرسطو في الكتاب الثاني). أما الحياة الثالثة فحياة الفكر والتأمل (وهي موضوع الكتاب الأخير من الأخلاق الأرسطية) ويعالجها أرسطو بعد أن يكون قد فرغ من تحديد الفضائل والإرادة الخلقية - لأنها أساسها.

هذا عدا حياة الثروة، والثراء لا يمكن أن يكون غاية؛ بل هو وسيلة تقصد لغيرها لا لذاتها - كما سيتضح أن اللذة هي عمل الحواس والأعضاء؛ ولا تُراد لذاتها.

ويعود أرسطو إلى تناول الخير بمعناه العام الدقيق في الفصل الثالث، فلا يجد حرجاً في أن يتعارض مع أستاذه أفلاطون في هذا الصدد ما دام يسعى للوصول إلى الحقيقة. بل هو يأخذ على نظرية المثل الأفلاطونية هنا مآخذ كثيرة ترمي في جملتها إلى إبطال نظرية الخير الكلي أو مثال الخير الأفلاطوني يمكن تلخصيها فيما يلي:

(1) من الأمور التي تتميز فيها سلسلة من سابق ولاحق - كالأعداد - لم يستطع أصحاب المثل أنفسهم أن يقولوا يُمثل لها، لأنها تستمر إلى ما لا نهاية - وأرسطو هنا يشيد بالفيثاغوريين.

(2) ومثل هذا يقال في ما يسميه أرسطو المقولات وهي عشرة: جوهر وتسعة أعراض؛ الجوهر سابق على الأعراض لأنه الموضوع، وهي محمولة عليه كما يقال في المنطق وما دام الجوهر سابقاً على أعراضه التسعة (الكم والكيف. والزمان والمكان، والإضافة والملك والوضع، والفعل والانفعال) فنحن بازاء خيرات كثيرة بمقدار ما يكون للجوهر الواحد من صور وأعراض، وهذه الخيرات منها ما هو سابق وما هو لاحق ولا يمكن أن يوجد بينها خير مشترك.

(3) ولو كانت نظرية المثل الكلية صحيحة فيما يتعلق بالخير، لوجب أن يوجد علم واحد يختص بدراسة الخيرات كلها من حيث هي تتدرج تحت خير كلي، والواقع لا يؤيد ذلك، بل يقوم لكل خير جزئي علم خاص به (ف4).

(4) وقول أفلاطون بالمثل يجعلنا بازاء ثلاثة أشياء بدلاً ممن اثنين - كما في الإنسان، فهناك الإنسان الجزئي المسمى زيد أو عمرو - يليه الصفات المشتركة بن عامة الناس - أي الحد الكلي والماهية في الذهن - فمثال الإنسان الكامل أو الصورة المثالية المفارقة التي تنزع إلى محاكاتها ولا تبلغ إليها الكائناتُ الإنسانية الموجودة في عالم المثل.

(5) وفي هذه الحالة لن يكون الخير الكلي - أي الخير في ذاته أو مثال الخير - أكثر حيراً من الجزئي - إذ الفق بين المثال الكلي والشيء الجزئي المشارك فيه هو أبدية المثال وأزليته - أي أنه لا أو له ولا آخر زمانياً - وليس من شأن التقدم في الزمان أو الخلود فيه أن يجعل للشيء زيادة في كم الصفة أو كيفها (ف6).

(6) وحتى لو قيل إننا لا نقصد أن يكون لكل نوع من الخيرات مثاله؛ بل إن نوعاً معيناً منها هو المثالي أو الحقيقي الذي تشارك فيه بقية مُثل الخيرات، وبمشاركة الأشياء فيه نكتسب صفة الخير، فيكون لدينا حينئذ على الأقل نوعان من الخيرات: خيرات بذاتها وأخرى بغيرها، ويتعذر علينا بالتالي أن نميز أيها الخير الحقيقي: الخير المثالي المجرد في عالم المثل أم الخير الواقعي في الأشياء والأفعال. فإذا أثبتنا الخير للمثال وحده دون الأشياء المشاركة فيه فما فائدته إذن؟ (ف10) وإذا أثبتناه للأشياء المتعددة لزم أن تكون مشتركة في حد واحد هو الخير. ولكنا نرى تعدد الخيرات بحيث لا يجمعها مثال واحد، فمن أين إذن اتفق لها الاسم على اختلافها؟ أيا الشبه؟ أم المصادفة؟ أم وحدة المصدر؟ أم الغاية؟ هنا يتهرب أرسطو ويقتطع الجدل دون أن يتم (ف13) بل يعود إلى صدد المثال الواحد المجرد للخير فيقول أنه لو صح وجوده قائماً بذاته لما أمكن إحرازه أو تعاطيه ويمتنع بذلك السعي أو البحث عنه.

وأرسطو حتى نهاية هذا الفصل يؤكد وجوب عن الخير الجزئي لا الكلي؛ النسبي الذي له علاقة بغيره لا المطلق القائم برأسه في علياء المثل؛ الخير المحسوس في الأشياء والأفعال والعلوم الواقعية لا المجرد المعقول الذي لا سبيل إلى إدراكه أو تحصيله. وهذه جملة اعتراضا على نظرية الخير الكلي كما تريد المثل الأفلاطونية أن تكون - أوردناها لك بتفصيل وتوسع - ولك أن تقبل منها ما تؤيده الحجة الناصعة والدليل القاطع - فليست كلها من الوجاهة والإنصاف بحيث تؤخذ مسلماً بها - ولكنها على أي حال جزء من النقد العام لأرسطو على نظرية المثل الأفلاطونية، وعليك أن تكمل هذا النقد في ميدان المثل الأخلاقية بنقد المثل الطبيعية في مطلع كتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة لأرسطو - مما تجد شرحاً وافياً له في المراجع العربية التي زودتك بها في المقال الأول - فارجع إليها وأدرسها - فان نقد المثل الأفلاطونية يُعدَّ حجر الأساس في كل علم من العلوم الفلسفية التي تناولها أرسطو

كمال دسوقي