مجلة الرسالة/العدد 861/الخدمة الاجتماعية في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 861/الخدمة الاجتماعية في الإسلام
للأستاذ لبيب السعيد
ألقت مصر بالها أخيراً إلى الخدمة الاجتماعية، وشرعت تستعينها في الطب لأدواء الأفراد والجماعات، وقد استجدت لهذا الفن في مصر معاهد ودراسات يلاحظ من يراقبها أنها مكبة على إنتاج الغرب في هذه الناحية تنقل منه وتترجم عنه. ولا حرج في هذا لو أنه كان مصحوباً بلفتات جادة غير بعيدة إلى أصول تلك الخدمة في ديننا وفي تاريخنا، حتى تكسب الخدمة الاجتماعية نفسها حياة قوية تمدها بها المبادئ الإسلامية الصريحة، وحتى لا يستقر في ضمير الشباب خطأ أن هذا الفن مستورد أيضاً من الخارج، وحتى نتفادى نتيجة مرجحة هي أن يتنكر لتاريخنا الاجتماعي أو لا يثق به من وقفوا على تفوق الخدمة الاجتماعية الحديثة في الغرب، وجهلوا في الوقت نفسه أو لم يفهموا ما في الإسلام من المبادئ الاجتماعية السامية.
لم يقف الإسلام عند تقرير التوحيد وبث الإيمان وتنقية العقائد وفرض العبادات وسن الأحكام، ولكنه عالج النظم الاجتماعية كلها، فأعلى شأن الكرامة الإنسانية، وأرسى القواعد للحياة البيتية الصالحة، ووصل الأرحام، وبسط يد الحنان للصغير وغمر اليتامى والضعفاء والمرضى بزاخر من الرحمة والرعاية، وسن التأسية والتسلية، وكان بتعاليمه وسير رجاله دعوة دائبة إلى تلمس القوة والجمال للنفس والعقل والبدن على السواء، وأولى الشؤون الاقتصادية عنايته المسددة وتنظيمه الراشد، ودعا إلى كل فضيلة وعادى كل رذيلة.
فعل الإسلام كل هذا بنصوص صريحة يظاهر بعضها بعضاً وتصدقها أفعال الرسول وصحبه، فاستطاع المسلمون الأولون في نور هذه النصوص والأعمال وفي كريم نهجها أن يوفوا على الغاية من النجاح الاجتماعي بقدر ما سمح لهم زمانهم.
لم يتناول التنزيل كل مبادئ الخدمة الاجتماعية بالبيان المفصل ولكن المبادئ التي وردت فيه مجملة لم تقصر عن مدى التفصيل وقد تناولت السنة بأنواعها القولية والفعلية والتقريرية بالشرح والإتمام هذه المبادئ، كما هو الشأن في كثير من أمور الدين ثم كان التطبيق الرائع لتلك المبادئ على أيدي المسلمين في عصور مختلفة، فأصبحت بعض أخلاقهم بل بعض حياتهم، وبدت في تاريخهم وضاءة، لها نورها ولونها المتميز.
ولقد نجد أسماء خدمات اجتماعية تؤدى في زماننا ولا يعرف بعضنا لها نظيراً في النظم الإسلامية، ومثل هذه الخدمات في الأغلب موجودة في هذه النظم بالروح والجوهر وإن لم توجد بالاسم والسمات العصرية. وفي الوسع إذا درسنا الأصول والنظم التي وضع الإسلام أساسها، وإذا عرفنا الأشباه، وقسنا الأمور بنظائرها وانتفعنا بما لفقهاء المسلمين من تفصيلات مبينة واستدلالات صائبة وتفريعات منطقية، في الوسع عندئذ أن نقرر أن أنفع وأحدث ما استجد من فنون الخدمة الاجتماعية هو أصيل في الإسلام كل الأصالة.
يقول القرآن في اختصار: (إنما المؤمنون أخوة) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فتجمل كلتا الآيتين الوجيزتين أمهات مبادئ الخدمة الاجتماعية من تكافل ورفاه ورحمة ومعاونة شاملة.
ويؤكد الرسول هذا المعنى في لفظ قليل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) فلا يبقى في معرض الخدمات التي يبذلها المؤمن للمؤمن معنى من معاني الخدمة إلا تزاحم على عقل المتفكر
ومن كلام النبوة: (ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون بضعفائكم) فلا يبقى ضعيف سواء في حاله أو بدنه أو في نفسه إلا ويتجه إليه كل مقتف أثر النبوة بالخدمة الاجتماعية بمعناها الرحيب، يتفقد حاله ويحفظ حقوقه ويحسن إليه ما وسعه الإحسان.
والمسلمون حين يتفهمون أصول الدين تتفطن طبائعهم لهذه الخدمة ومن الأمثلة أن النبي يقول: (الدين النصيحة) فيقول بعض أصحابه: لمن؟ فيقول: (لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فيرى أحد الشراح أن نصيحة عامة المسلمين تنتظم (تعليمهم ما يجهلون من دينهم وعونهم عليه بالقول وبالفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع، إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، برفق وإخلاص والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب المرء لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات. . . الخ).
وسير كثير من الشخصيات الإسلامية تملأ من الناحية الاجتماعية صحائف تنطق بأنهم كانوا خداماً اجتماعيين من الطراز الأمثل.
فعمر بن الخطاب مثلاً إذ يعلم الناس في أماكنهم ويخلف الغزاة في أهلهم، وإذ يتعاهد العجوز العمياء المقعدة فيأتيها في بيتها بما يصلحها ويخرج عنها الأذى، وإذ يسمع بكاء الطفل في الليل فيتوجه نحوه غير مرة، ويسأل أمه أن تتقي الله وتحسن إليه وإذ يكتشف الأرملة وأبناءها الجياع، فيحمل إليهم الدقيق والشحم ويطبخ لهم ويطعمهم، عمر إذ يفعل هذا خادم اجتماعي يفهم واجباته ويؤديها في غير سطحية ولا قصور.
وإذا لم تكن قامت في الإسلام بصفة مطردة ودائمة هيئات اجتماعية تقصر رسالتها على الخدمة الاجتماعية على النحو المتبع الآن فإن الإسلام جعل هذه الخدمة ضمن الواجبات الدينية العامة التي تضيق عنها الجمعيات المحدودة وإنما تقومبها الأمة كلها متكافلة متضامنة: ولهذا ليس من حق أحد أن يقول إذا سيقت له شواهد في الخدمة الاجتماعية الإسلامية مصدرها فرد أو أفراد إن الأمر مخصوص بهم.
ولو قد درست وثائق الأوقاف الإسلامية لوجدنا أفانين متى الخدمة الاجتماعية تجل عن الإحصاء وكلها تستهدف الإحسان إلى الفقراء والضعفاء، لأنها بمقتضى الفقه لا تجوز إن كانت على الأغنياء وحدهم. والكثير من اتجاهات الواقفين المسلمين هو آية إدراك اجتماعي عال. وما أجدر تلك الوثائق بدراستنا على نحو عميق لنستوعب كل غاياتها وندرك كل دلالاتها الاجتماعية.
والحق أن على المختصين أن يجلوا ما أنبهم من تاريخ الخدمة الاجتماعية في الإسلام، فيبسطوا القول في كيف كافح هذا الدين الفقر ودرأ أسبابه ومسبباته، وكيف سبق إلى جعل الزكاة من قواعده قبل عشرة قرون ونصف قرن من قانون الفقر في إنجلترا الذي جعل البر واجباً ينظمه التشريع. وكيف سبق المسلمون إلى تعيين الموظفين وإنشاء (ديوان البر والصدقات) وهو بمثابة وزارة الشؤون الاجتماعية الآن؛ و (ديوان الحبوس) الذي كان ينهض بأعمال وزارة الأوقاف، فنظم الإحسان على نحو لم تصل إليه النظم الحديثة إلا متأخراً، وكيف أن نبي الإسلام سبق إلى نظام بحث حالة السائل الذي هو أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة. وكيف يدق الإسلام ويعلو في تعريف المسكين وكيف يحفظ الوجوه عن المسألة؛ وكذلك كيف يكافح التسول أشد كفاح، ويحبب في العمل، ويعمل على إتاحته للمتعطلين، ويرى تنشيطاً للحياة الاقتصادية عدم حبس المال عن الاستغلال، فيسوغ إقراض مال الوقف والغائب واللقطة بل مال اليتيم ومال المسجد، وكيف كان تخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية الراسخة وكيف استولى المسلمون على الأمد من فضيلة إكرام الغرباء، وكيف عنوا بإقامة السبل والأحواض لسقاية العطشان، وسبقوا إلى إقامة المطاعم للفقراء، فمن كان من هؤلاء يمنعه الحياء من الجلوس إلى الموائد العامة أرسل الطعام إليه في داره.
ومن حق الدراسات الاجتماعية الحديثة أن تعي أن الإسلام في عطفه على الضعفاء يلتفت إلى الصانع لفتة بر ورحمة، فيوصي بمعاونته. وكذلك يفعل مع الأخرق فيثبت عطفاً مبصراً.
أما اليتامى فبره بهم يجول في أسمى الآفاق إذ يمنحهم عناية بالغة الرقة والحرارة. ثم هو بعد ذلك يرى أن يزول اسم اليتيم عمن بلغ الحلم. ولعل من مقاصد هذا حكمة تربوية هي إلا يظل اليتيم يتلقى عطف الناس فيعجزه في مستقبل أيامه أن يواجه الحياة من غير سناد.
والخدمة الاجتماعية التي تهدف إلى خدمة الزواج تبذل في النظم الإسلامية إلى أبعد مدى. والمسلمون يمدون يد العون لراغبي الزواج بعامة والعوانس بخاصة. وقد كان عمر بن عبد العزيز يعدل الحاجة إلى الزواج بحاجة المدين إلى سداد دينه وحاجة المسكين وحاجة اليتيم. ومن الأوقاف الإسلامية أوقاف تعنى بتجهيز العرائس الفقيرات إلى أزواجهن.
وعني الإسلام بلأيم، فدعا إلى الزواج منها، وحبب في السعي على الأرملة صيانة لها في حيائها وشرفها.
وكفل الإسلام اللقطاء، وصان لهم كل حقوقهم، وسهر على إنباتهم نباتاً حسناً.
والإسلام يمنح المدين رحمته، بأنظاره إن كان معسراً، ويحبب في التصدق عليه وبجعله من المصارف المحددة للزكاة.
وتهب النظم الإسلامية التفاتها وعطفها للذين لا أهل لهم ولا عائل، ولا طاقة لهم بعمل، فالزوايا والرباطات والخانقاهات كان يقيمها أغنياء المسلمين مثابة لهؤلاء، وقد كان بعض الرباطات (للنساء المنقطعات أو المطلقات أو العجائز الأرامل والعابدات).
وتجهيز الموتى ودفنهم من أعمال البر المقدمة عند المسلمين.
وفي ميدان الخدمة الاجتماعية الطبية، سبق الإسلام المدنية الحديثة إلى الحمل على أساليب العلاج التي لا سند لها من المعرفة، وقرر مسؤولية الطبيب الجاهل.
والنظافة عند المسلمين عبادة، بل هي فاتحة عدة عبادات لهم وهي بالضرورة من قوانين حياتهم اليومية. وقد دعت السنة إلى نظافة طرق الناس وكل مكان يرودونه أو يأوون إليه، وحفلت البلاد الإسلامية بالحمامات على نحو لافت، فمصر الفسطاط مثلاً كان بها ألف ومائة وسبعون حماماً، وبغداد كانت عدة الحمامات بها في وقت ما نحو ألفي حمام، وقرطبة كان فيها تسعمائة حمام.
ومما يصح أن يهدى إلى دراساتنا الاجتماعية أن النظم الإسلامية توقي الناس الأمراض المعدية، وأنها تولي ذوي العاهات التفاتاً خاصاً، فالعميان أجرت عليهم الأرزاق وعينت لهم من يقودهم والمقعدون خصصت لكل منهم خادماً.
ومن دلائل النضج الاجتماعي أن تظفر السجون في البلاد الإسلامية في زمان مبكر بعناية طبية فيخصص لها الأطباء.
والعناية الطبية في المحيط الإسلامي لا تقف عند الأجساد، بل تقدر الأثر البيئي وتقدر حالات النفس، قالوا في التطبيب: (وإن الأجساد الحيوانية تتغير بالأهوية المحيطة بها وبالحركة والسكون والأغذية من المأكول والمشروب والنوم واليقظة واستفراغ ما يخرج من الجسد واحتباسه من الأعراض النفسانية من الغم والحزن والهم. . . الخ).
ولقد سبقت المستشفيات الإسلامية إلى العناية بالمريض نفسانياً وهي الغاية التي تحفل بها الخدمة الاجتماعية الحديثة، سبقت تلك المستشفيات إلى ذلك على نحو متفوق، فمثلاً كان المؤرقون من المرضى بمارستان قلاوون بالقاهرة يتسلون بسماع الموسيقى والغناء والقصص ليطرحوا الهموم والأوصاب، وكان الرقص والروايات المضحكة تعرض على بعض المرضى لعلها تفيء عليهم في محنتهم المتعة والإيناس.
وتغذية المرضى وكسوتهم في المستشفيات الإسلامية كانتا تظفران بأوفى عناية.
والفقه الإسلامي لا يغفل عن أثر الاستجمام والراحة في تحقيق الصحة. فهو يتيحهما لكل عامل بل يجعلهما حقاً لا ينبغي أن يتره صاحب العمل ولو كان أجيره من دين آخر.
وقد سبق المسلمون إلى العناية بالفاقة، فكان يعطي مالاً ينفق منه ريثما يقوى على العمل، فضلاً عن كسوته. وقد عرف المسلمون الإسعاف الطبي الاحتياطي.
وخدمة الفرد عن طريق الجماعة كانت مما عرف المسلمون. والطرق الصوفية في بعض مناهجها تستهدف تلك الخدمة.
وقد مارس المسلمون الرياضة البدنية وأعظموها. يقول ابن طباطبا مثلاً عن فوائد الصيد: (. . . ومنها أن حركة الصيد حركة رياضية تعين على الهضم وتحفظ صحة المزاج).
وقد عرفت للمسلمين ألعاب جمعية خاصة، ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه - كما يبدو من استقراء أخباره - كان رياضي السيرة.
والإسلام يتيح لأهله التسلية البريئة، ويروى عن النبي أنه قال: (الهوا والعبوا فإني أكره أن يرى في دينكم غلظة)، ولذلك عرف المسلمون ألعاباً متعددة للتسلية. على أن الإسلام في حرصه على أهله ومروءتهم ووقتهم يكره لهم بعض الألعاب كالقمار مثلاً.
وعبء الخدمة الاجتماعية الجليل الذي تتصدى اليوم بعض السيدات لحمله حملته المرأة المسلمة منذ قديم، فقد كانت تتعهد المريض والجريح بالمداواة والعناية والعون، وفي الحرب كانت تصنع للمحاربين طعامهم وتحرس رحالهم.
هذه إشارة عابرة لا يتحمل المقام تعزيزها بالنصوص والأسانيد، ولكنها حرية أن تنبه إلى ذلك التراث الفخم الذي يعيبنا ألا نوليه دراسة باحثة صابرة وأن ندعه صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم، والذي لا تعدو الاتجاهات الغربية الحديثة أن تكون ضرباً على بعض قوالبه.
ليت حماستنا لديننا وتاريخنا تتوقد. . . وليت إمامتنا للعالم تتجدد.
لبيب السعيد