مجلة الرسالة/العدد 857/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 857/صور من الحياة:
ركن يتداعى
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
لما كتبت القسم الأول من هذه الصورة أسرع إليّ صديق من ذوي الجاه والشأن في وزارة الأوقاف، وحدثني حديثاً فيه الشفقة والعطف، وفيه الرجولة والإنسانية، وطلب إلي مشكوراً أن يعين صاحب هذه الصورة على بلواه بطريقة لا يحس الرجل فيها غضاضة الحاجة ولا ذل السؤال.
آه، ما أسمي رجولتك يا من تهزك الأريحية الجياشة فتمد يدك الرايقة لتمسح على أتراح رجل ضعضعته نكبات الزمن، ولتخفف من آلام إنسان فجعته الأيام في خفضه وسعادته! إنك ولا ريب روح السماء ونسيم الجنة، فدعني أشكر عطفك ورقتك بالسان صديقي الذي دهمته القارعة فاجتاحت قوته وحيلته ورزقه.
(كامل)
ندَّ عني صوابي يوم أن رأيتك - يا صاحبي - أول مرة، تطحنك مرارة الفجيعة في نور عينيك، وطار عني الحجا يوم أن لمست الأسى يتغلغل في أغوار قلبك فيحترم شبابك ونشاطك من أثر الصدمة القاسية، وماتت كلمات العزاء على شفتيَّ يوم أن شهدت الصبية يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاءً وينادونك: (انظر. . . انظر يا أبي)، وهم يتوثبون بهجة وسروراً لأنهم لا يحسون ما أصابك من لوعة وضيق.
وصرفتني عنك شواغل الحياة حيناً، فحز في نفسي أن لا أجد السبيل إليك وأنت تعاني حر المصيبة ووهج البلوى. على حين أني لم أنس أبداً أنك كنت لي ميعة الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش. وأمضَّ قلبي أن أرى حالك تحول فتغيض بشاشتك وتذوي سعادتك وتجدب حياتك ويتداعى ركنك، ولكن روحي كانت دائماً تهفو إليك فتفيض لك نفسي بالهوى والود، ويطفح قلبي بالشفقة والحنان، فأنا ما زلت أذكر حديثك يوم أن قلت لي: (الآن بعد أن نزلت بي هذه الداهية الهوجاء أجدبت حياتي وأقفرت دنياي وانسدت في وجهي سبل العيش، فما عدت ألمس روح الخصب إلا في لقياك، ولا أنشق شذا الإنسانية إلا في مجلسك، ولا أحس نسيم العزاء إلا في حديثك أنت. . . أنت أيها الرجل والصديق والأخ)
قال لي صاحبي: (وأخذت أروِّض نفسي على حياة الظلام الدامس والوحدة الممضة والشظف العاتي، فرقت مشاعري وأُرهفت حواسي، ولبست المنظار الأسود أبغض ما يكون إلي لأداري خلفه لوعة قلبي وضعف نفسي، وليكون حجاباً على أعين أولادي فلا تنفذ أبصارهم إلى علتي. وأحسست بعد حين أن الطبيعة تحبوني بعكف من لدنها علَّها تعوضني بعض ما سلبتني فأصبحت شديد الوعي أحفظ ما يلقي عليَّ لأول مرة؛ حديد السمع والشم أسمع النغمة الخافتة تصدر من مكان قصي، وأعرف القادم من وقع قدميه، وأنشق ريح الرجل فأتبينه مقبلاً أو مدبراً؛ دقيق الحس لا يخطئ حدسي مكان الجدار وهو على خطوات مني، ولا يكذب ظني موضع المنعطف ولما أبلغه بعد؛ نافذ البصيرة أستشف طويا النفوس وهي تختلج بين الضلوع، وأحس نوازع القلب وهي تخفق بين الحنايا. . . فهدأت ثورتي وسكنت جائشتي.
وجاء صغاري - ذات اليوم - يتدافعون ويسألون: أحقاً ما نسمع يا أبي، هل فقدت بصرك ووظيفتك؟ وأنا رجا أقدس المبدأ والعقيدة، وأومن بأن الطفل بريء بطبعه نقي بسليقته، فهو لا يتعلم الكذب والخداع إلا في داره، ولا يتلق اللؤم والمكر ألا من أبويه، ولا يسلك سبيل الضعة والحساسة إلا بقدر ما يجدهما في بيئته. ولقد أخذت على نفسي منذ أن صرت أباً لألا أحدث أولادي حديث الكذب والخداع أبداً. فقلت: (نعم يا أبنائي!) وشعرت إذ ذاك بقسوة الصراحة، فلقد خُيِّل إليَّ أن كلماتي تهبط على هذه الأرواح الصغيرة المرحة مثلما تهبط الصاعقة الجاسية على شيء تافه ضئيل. واستشعروا الصدمة العنيفة فاستخرطوا في بكاء مر طويل فيه الحرارة واللوعة، وفيه الشفقة والحنان. . . استخرطوا في بكاء مرّ طويل وأنا بينهم في حيرة وذهول أهدئ الروع فلا يهدأ، واسكن الثورة فلا تسكن. وجاءت كبرى بناتي وهي صبية جميلة القسمات خلابة السمات رائعة الحسن طيبة القلب رقيقة الزاج مرهفة الحواس، جاءت لتضمني إلى صدرها وهي تذرف عبرات حرى تتدفق مدراراً على وجهي، وتصرخ في غير وعي صرخات مفزعة: (أبي. . . أبي) واندفعت تصرخ في لوثة وجنون، وحار قلبي لما رأيت، وتراءى لي أنني أشهد مأتماً هو مأتمي، وهؤلاء الصبية يشيعون أباهم إلى رمسه، فنازعتني نفسي إلى أن أستسلم لضعفي فأشاطرهم البكاء وأشاركهم النواح عسى أن أسري عن نفسي أو أخفف من شجو أولادي.
(آه، يا صاحبي، لقد كان مشهداً رهيباً مرعباً، كاد يعصف بصبري وإيماني، فسولت لي خواطري أن أفر من داري لأقذف بنفسي في اليم، أو أقدّ قلبي بسكين، أو ألقي بروحي في هاوية مالها من قرار. ولكني خشيت أن أفجع أولادي مرتين، وفي القلب إيمان وأمل؛ فسكت علي أسى يتأجج، وكتمت شجوني على حزن يتوهج، وأطرقت وأنا أربت على كتف هذا، وأضم ذاك إلى صدري، وأقبل تلك في شوق وحنان.
(وعجب الصغار من صمتي وأخذتهم روعة عطفي فهدأت الثورة، وفي النظرات ذهول وحنان. وانطلقنا جميعاً في موكب الحياة؛ ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه. أما أنا فما ظفرت من ميراث أبي بشيء لأن أخي الأكبر كان قد عبث بتجارة أبي وعاث في حساباته فبعثر المال كله بطريقة شيطانية وضيعة.
(انطلقنا جميعاً في موكب الحياة ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه هي الأمل الباسم في ظلمة الحياة، هي الشعاع الدقيق ينفث في القلب الراحة ويبعث في النفس الطمأنينة. وحدثتني نفسي بأن أهجر المدينة إلى القرية خشية أن تعصف بنا طلبات المدينة أو أن ترهقنا حاجات الحضارة. ووجدت في الخاطرة منفذاً ففزعنا إلى هناك عند أول زفرات الهاجرة.
(وفي القرية وجدت الراحة التي تعصف بالنشاط، والخمول الذي يقتل الفكر، والوحدة التي تورث الفناء، والهدوء الذي يثير الأعصاب، والفراغ الذي يشغل البال، والجهل الذي يسخر من الثقافة. فكنت أقضي يومي وحيداً على مصطبة إلى جانب الباب في فيء شجرة، أفتقد الصاحب وأفتقر إلى السمير، فطالت أيامي وقد أفعمها الملل والضيق، ومن حولي أولادي تصرفهم المتعة وتشغلهم الخضرة وتسعدهم الحرية.
(ثم هبت أول نسمات الخريف تحمل معها المشكلة الكبرى. . . مشكلة الصبية تناديهم المدرسة. وأقبلت زوجتي تحدني حديثهم في رفق ولين، فألقيت السمع إلى كلامها غير أني لم أجد الرأي: ترى هل يعيش الصغار وحدهم في المدينة يقاسون الوحدة والضياع، وأظل هنا أحمل نفسي وهم أولادي، أم انطلق فأذر الأفدنه، وهي عدتي على الزمن القاسي ودريئتي من الفاقة العاتية. . . أذرها يتناهبها الفلاحون وما فيهم إيمان ولا أمانة؟ ثم قر قراري فتركت الصبية يسافرون إلى القاهرة. . . تركتهم بين يدي القدر.
وجاءتني رسالاتهم تترى فأحسست كأن كل رسالة تحمل في طياتها أذى نفسي وضنى قلبي، ثم جاءت رسالة تقول: (وقضينا الليلة الماضية في حال من الفزع يفرق له الشجاع، وفي رهبة من الرعب يخشع لها الأيَّد، وفي رعدة من الذعر يرتاع لها الجليد. فلقد أحسسنا باللص يتسلق أنابيب المياه حتى أوشك أن ينقضّ علينا لولا أن ندّت من أختي صيحة مضطربة طار من هولها اللص، وتبدد من شدتها الأمان من قلوبنا، وكانت لفحات القر القاسية تلفحنا فتكاد أطرافنا تتجمد من زمهريرها، والريح رفرافة تئن أنيناً تنخلع له أفئدتنا، فلصق بعضنا ببعض مثلما يلصق أجراء بأمها في ليلة قرة تلتمس الدفء والأمان. وعصف بنا الخوف فما غمضت أجفاننا حتى انطوى الليل وبزغت الشمس. . .
لشد ما أصابني الجزع والذهول مما سمعت من كلام صغاري وهو يخز قلبي وخزات قاسية عنيفة تقضّ مضجعي وتفزعني عن القرار!.
وعند الصباح ودعت القرية لألحق بصغاري، ورضيت بالشظف لأكفل لأفراخي الأمان والهدوء.
وها أنا الآن كما ترى - يا صاحبي - أعاني عنت الحياة وضيق العيش وغلظة الأيام، أتعثر في مهاوي الضياع، تتعاوني نوبات من الألم النفساني فما يمسكني إلاّ حب الولد. . . الولد الذي أطمع أن أراه رجلاً يمسح عني أتراحي بيده الحبيبة ويزيح عني أشجاني بكلماته الرفيقة. . .
وسكت صاحبي، وسكتُّ. وتلاقت خواطرنا وعبراتنا على حرقة وأسى. . .
كامل محمود حبيب