انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 854/باحثة البادية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 854/باحثة البادية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1949



لمناسبة ذكراها الثاني والثلاثين

للأستاذ عبد الجواد سليمان

أول ما توحي به إلينا ذكرى باحثة البادية (ملك حفني ناصف) من معان وعبر، إنما هو النهضة النسائية في مصر في معناها الوطني الصادق.

فلقد كانت رحمها الله، أول فتاة مصرية حصلت على شهادة الابتدائية سنة 1900 وعمرها إذ ذاك لا يتجاوز الثالثة عشرة، ثم انتقلت إلى القسم العالمي بالمدرسة السنية، وحصلت على شهادته العالية، وعملت مدرسة بالمدارس الأميرية.

لقد كانت باحثة البادية مثالا صادقاً ونموذجا كاملاً للفتاة المصرية في طباعها ووطنيتها! فالظرف المصري أصيل في طبعها، إذ كان يتمثل في كتابتها وفي نكتها اللاذعة التي تسعفها بها بديهتها الحاضرة وسرعة خاطرها، والتي يزينها تهكم لا مرارة فيه في مثل قولها (فما أقدر زوج الضرتين على التفنن، ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسياً أو ناظراً للمستعمرات! ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات) وفي مثل قولها (يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري أي الفرمان صدر بذلك من عند الله؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا، لما عيرونا بأنا قليلات النبوغ، وأنه لم يسمع بأن إحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد: فنحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع (خريستوف كلومب) لما تعذر على أنا أيضاً أن اكتشف أمريكا).

أما وطنيتها فتتمثل في حبها لكل ما هو مصري ورفضها أن تأخذ من مدينة الغرب إلا ما هو ضروري، وبشرط أن يصبغ بالصيغة المصرية ويطبع بطابعها. كقولها: (ما أحلىالسمرة الجاذبة، ولو فهمنا معناها، إنها جميلة لأنها مصرية، ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى).

وكقولها: (إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا إلا نقتبس من المدنية الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائماً لعاداتنا وطبيعة بلادنا، نقتبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل، نقتبس منها أساليب التعليم والتربية. . وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضي على ما بقي لنا مهن القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة).

لقد تأثرت باحثة البادية ببيئتها تأثراً بعيداً فتخرجت كاتبة وشاعرة وناقدة وخطيبة ومصلحة! فأبوها المرحوم (حفني بك ناصف) العالم اللغوي والكاتب الضليع والشاعر الفكه كبير مفتشي اللغة العربية بمصر، وزوجها العربي الصميم المرحوم (عبد الستار بك الباسل) من بيت مجد أثيل وحسب عربي عريق وهو من وجهاء قبيلة الرماح بالفيوم.

وقد دبجت براعتها كثيراً من المقالات البليغة والبحوث العميقة والرسائل الممتعة التي امتازت بالسلاسة والوضوح والتي خصت بها صحيفتي: (المؤيد) و (المحروسة)، وحسبها دليلاً على بلاغتها، أن يشهد لها أمراء البيان في مصر، من هؤلاء أحمد لطفي السيد باشا بقوله فيها (أما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر).

والشيخ عبد الكريم سلمان بقوله (إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها) وأحمد زكي باشا بقوله (إنها أعادت لنا لك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة).

وحافظ بك إبراهيم بقوله:

لله درَّك أن نثرت ... ودرّ حفني أن نثر

ولقد توفرت لها شروط النقد من سلامة الفطرة وقوة الملاحظة وسعة الاطلاع، فكان نقدها ينصب على المجتمع المصري الذي ظلم المرأة وسلبها حقوقها من قولها في ذلك (المرأة المصرية مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها، نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة).

وقولها في استبداد الرجال بالنساء: (بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون، ويذكر لهن الزواج إرهاباً، فأي الأمرين تختار الزوجة البائسة؟ المرأة مظلومة دائماً، إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها، والوارثة مظلومة أيضاً، فإما ألا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا).

وقولها ساخطة على سياسة بعض الآباء (لا أحب الرجل يتكبر على أهله وأولاده فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة وهو لا يعلم بما يشعرون، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل ثم الاستبداد متى كبر).

والإصلاح عادة وليد النقد، وباحثة البادية قد حاولت الإصلاح عن طريق النقد، فرأيناها تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة بقلبها ولسانها! فمن خطبها في نادي حزب الأمة (والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا ونزيل سوء التفاهم والتحزب لنحل بدلهما الثقة والإنصاف ولنبحث أولاً في نقط الخلاف).

أما شعرها فهو عصارة روحها وذوب نفسها، إذ تغلب عليه خفة الروح تارة وتهكم الشديد تارة أخرى! هذا إلى بعده عن العقيد وذخره بالمعاني ودلالته على نضوج الفكر، ومنه في رثاء عائشة التيمورية:

إلا يا موت ويحك لم تراع ... حقوقاً للطروس ولا اليراع

تركت الكتب باكية ... بكاء يشيب الطفل في عهد الرضاع

فذب يا قلب لا تك في جمود ... وزد يا دمع لا تك في امتناع

سنبقى بعد عائشة حيارى ... كسرب في الفلاة بغير راع

ومنه في الفتاة:

إن الفتاة حديقة وحياؤها ... كالماء موقوفاً عليه بقاؤها

بفروعها جري الحياة فتكتسي ... حللاً يروق الناظرين رواؤها

لا خير في حسن الفتاة وعلمها ... إن كان في غير الصلاح رضاؤها

فجمالها وقف عليها إنما ... للناس فيها دينها ووفاؤها

وفي الفتاة تقول:

مجد الفتاة مقامها ... في البيت لا في المعمل

والمرء يعمل في الحقول ... وعرسه في المنزل

ومن قولها في السفور والحجاب ترد على شوقي بك: أما السفور فحكمه ... في الشرع ليس بمعضل

ذهب الأئمة فيه ... بين محرم ومحلل

ويجوز بالإجماع منهم ... عند قصد تأهل

ليس النقاب هو الحجا - ب فقصري أو طولي

فإذا جهلت الفرق بينهما ... فدونك فاسألي

لا أبتغي غير الفضيلة ... للنساء فأجملي

التحقت باحثة البادية بالرفيق الأعلى ليلة الخميس الموافق 17 من أكتوبر سنة 1918 بعد أن أدت رسالتها أحسن الأداء، وقدمت للمرأة المصرية أجل الخدمات، ومهدت السبيل لمن أتين بعدها فسرن في طريق معبدة، ونلن بعض ما لهن من حقوق في الحياة الاجتماعية، فمن حقها عليهن أن يخلدن ذكراها ولو بالاكتتاب في مشروع نسوي نافع باسمها أو إحياء آثارها الأدبية. . .

عبد الجواد سليمان

المدرس بمصلحات سوهاج