مجلة الرسالة/العدد 853/تحية القائد المغربي
مجلة الرسالة/العدد 853/تحية القائد المغربي
الأمير عبد الكريم الخطابي
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقد عجمت تلك الخطوب قناته ... فزاد على عجم الخطوب اعتدالها
وما كان محروماً من النصر في الوغى ... ولكنها الحرب اعتدت وسجالها
ولو شاء إذ ترك المشيئة سؤدد ... لأشوته يوم الهندوان نبالها
غداة يجاريه التقدم في الوغى ... أبو غالب والخيل تترى رعالها
كأنهما من نصرة وترافد ... يمينك أعطتها الوفاء شماله
(البحتري)
بين مدينتي تور وبواتييه حيث المروج الخضراء وفي قلب فرنسا شن الغرب علينا هجومه المضاد سنة 732 هجرية، ومنذ ألف ومائتين وخمسين سنة، والقتال دائم بيننا، لا هوادة فيه ولا حماية ولا تسليم ولا رحمة. . .
ولكنك يوم دخلت مصر آمناً مطمئناً، وعبرت مجمع البحرين: هلّلت العروبة في أفريقيا وآسيا لمقدمك، وقالت اليوم انتهى هجوم شارل مارتل، وانتقلت أمم المغرب والمشرق من خطط المدافعة إلى الهجوم، نعم في الساعة التي نزلت فيها إلى أرض مصر العربية في تلك اللحظة أيها المجاهد المقاتل، تراجعت القرون وانحنت أمام إرادة صامتة وقوة لا تقهر، وبدأنا مرحلة جديدة من الكفاح في سبيل تحرير المغرب ونصرته وعودته إلى حظيرة الوطن الأكبر. فاذكر ذلك اليوم. لأن وراءنا الأزمات تتحدث والنكبات تتوالى، وملاحقة الشعوب الحرة في عقر ديارها في الجزائر وتونس وطرابلس ومصر، لقد انتهى كل هذا بمقدمك، وبدأنا صراعاً آخر نحو الحرية والمجد، لا تراجع فيه ولا يأس وإنما هو دفعة تتبعها وثبةٌ، ووثبةٌ لا يقف أمامها في المعترك حائل. لقد نظرت إلى الشاطئ الأفريقي وقلت من ضفاف قناة السويس من هنا يبدأ يوم الفصل: نعم يبدأ هجومنا نحن، هجوم البطولة والجهاد تحت إعلام الحرية والعروبة والإسلام.
ويوم دخلت القاهرة، قاهرة المعز لدين الله، بلد صلاح الدين وبيبرس، ضحكت واستبشرت، وأتتك الجموع تتري إليك، أتدري لماذا أيها القائد العظيم؟.
لأنها رأت في وجهك بقية من عبد الرحمن الناصر والمنصور ويوسف بن تاشفين وتطلعت لجبينك فتعرفت على وجوه المرابطين والموحدين، وسرت بيننا فإذا بكل منا يحس بنفحة من نفحات الأندلس وأرض الجزيرة الخضراء تغمر نفسه، وخرجت إلينا فإذا بنا نتصور على جنبيك سيوف المجاهدين والركع السجود من أهل المغرب فكأنك واقف ومئات السنين تنحني أمام قوتك ونظرتك، وكأنك تمثل شهداء معاركنا الخالدة في ألف سنة مضت.
عجباً اكلما مددت اليد إليك تمثلتك قائدا في رداء الماضي؟ رأيتك في رداء أهل المغرب الذين انتصروا في يوم الجمعة لثاني عشر خلت من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، رأيت أعلام النصر في الزلاقة وكأنها ترفرف على رأسك: يوم صلى قائدنا ابن تاشفين صلاة الصبح في ذلك السهل الذي شهد آيات البطولة والقوة والبطش في قلب أسبانيا.
ورأيتك يوماً في لباس الموحدين من أهل المغرب، وهم الذين أسسوا الملك وقادوا الجحافل ودانت لهم الدنيا، مررت أمام ناظري وكأن الأعلام التي طويت يوم تور وبواتييه، قد اخترقت ما وراء عالم الغيب والشهادة، فإذا بها تنشر من جديد وعلى رأسك ترفع، وكأن أصوات التكبير والتهليل التي ملأت جبال البرانس وصاحبت المسلمين في معاركهم وملاحمهم بالأندلس، قد تجمعت بقدرة القادر جل وعلا، وعاد صداها يرن في أذني ويعيد على أرض مصر ذكرى تلك الأيام الخالدة.
لقد أمضينا بأرض الأندلس ثمانية قرون من الزمن، كانت الحرب سجالا والدنيا قائمة علينا، تلك عوائدها فهل عرفناها يوماً من الأيام على غير عادتها، لا لم نعرف للراحة ولا للاطمئنان طعماً، بل عشناها قروناً والسهام على الأقواس مسددة، والدماء جارية، والصدور تتلقى الطعنات، والنصال تتكسر على النصال.
وتمثلتك يوماً في موقف عبد القادر وهو يدفع المغتصب عن أرض الجزائر، فقمت أحي بطولته في شخصك، وأتمنى لو كنت جندياً أتلقى الأوامر منه.
وأعرض صدري لرصاص الخصم العاتي، في سبيل هذا الركن الخالد من أرض العروبة، تُرى أكنت تدعوني لحمل السلاح كجندي من جنود المغرب، فانضم لصفوف كتائبك على بطاح الريف؟
إذن لوقفت على ربوة عالية أتحدى الأخطار والمهالك والحياة والموت، لأحيي فيك البطل العظيم والقائد المنتصر رغم أنف المستعمر. . . ستذكر القاهرة يوم قدمت إليها وحللت ضيفاً معززاً مكرماً فيها، كيوم من أيامها التي لا تنساها.
والقاهرة لا تنسى من أحبها، لأن العواطف المتدفقة في قلوب أهلها ثابتة راسخة منذ أيام الفتح الإسلامي الأول، منذ دخلها عمرو بن العاص. فهي حريصة على صداقتها ومعزتها، بقدر ما هي قوية في البأساء والضراء والشدائد. . .
ولذلك سميت القاهرة: لأنها قهرت الحوادث والزمن، وخرجت ظافرة من المعارك والمواقع الفاصلة، منصورة في المنصورة وحطين وعين جالوت. . . ولذا تعرفت من أول يوم عليك، وقرأت نفحاتها وروحها مرتسمة على جبينك وأصبح سكانها اهلك وعشيرتك
فإذا خطرت ببالك سنوات الغربة في جزائر المحيط، فخفف عنك هذا، وذكر الخصوم أن أبناء القاهرة أسروا لهم ملكا يوم المنصورة. بالله سر في قاهرة المعز، وارفع ناظريك إلى قلعة الجبل، وتأمل حجارتها: تحدثك أن اثنا عشر ألفاً من أسرى العدو في المعارك والحروب التي انتصر فيها جند مصر الإسلامية، قطعوا هذه الصخور ورفعوا هذه الحجارة. كانت مواكبهم تمر تحت بابي النصر والفتوح، وأعلامهم منكسة وأيديهم في السلاسل وأعناقهم في الأغلال. أما أنت فقد جعلت لموطنك مراكش حديثاً له دوي في القرن العشرين اهتزت له الدنيا، فقد هزمت دولتين وحاربت على جبهتين، وكنت موفقاً في الهجوم والدفاع وبرهنت على أن قلوب أهل الريف أقوى وأثبت في مقاعد القتال من قلوب أعداء الريف.
بل أشهدت العالم أجمع انهم بحق سلالة المرابطين والموحدين وأبناء أولئك الذين كتب أجدادهم ملامح الأندلس وأيامها.
أيها الأمير القائد!
من يحلق مثلك فوق شوامخ الجبال وقممها العالية تصغر الدنيا أمام عينيه فتتضاءل الصعاب، ويبدو الجهاد أمراً سهلاً لأنك بطل من أبطال العروبة والإسلام ونفحة من نفحات بدر.
أحمد رمزي