مجلة الرسالة/العدد 850/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 850/البريد الأدبي
الأمانة العلمية في الجامعة:
قرأت ما أثاره الزميل الصديق الدكتور جمال الدين الشيال في عدد الرسالة الغراء الصادر في 10 أكتوبر سنة 1949 حول الأمانة العلمية في الجامعة، ولم أعجب لما جاء به الزميل، فقد عادت بي الذكريات إلى أيام تلمذتي بالجامعة، فتذكرت ذلك الأستاذ المعمم وقد جاءنا يرفل في جبته وقفطانه، حتى إذا عدنا من عطلة العيد وجدناه قد ارتدى زي المطربشين، وإن كانت ملامحه وسحنته تدل على أنه من الشيوخ المعممين. . . ذكرت ذلك الشيخ وهو يطلب منا أبحاثا علمية ليقرأها ويصححها ثم يعيدها إلينا، وكنا في ذلك الوقت حريصين أشد الحرص على أن نرضي الأساتذة بهذه الأبحاث العلمية، فكنا نسعى إلى المكتبات ونبحث في أمهات الكتب حتى نفوز برضى الأستاذ عن البحث الذي نقدمه له، ولكن ذلك الأستاذ - حفظه الله - بخل علينا بأبحاثنا ولم يشأ أن يردها إلينا، ولم نلبث أن رأينا هذه الأبحاث قد ضمت بعضها إلى بعض وقسمت إلى أبواب وفصول، وأصبحت كتابا يحمل اسم الأستاذ العزيز، وإن كنا نحمد للأستاذ أنه غير أسلوب هذه الأبحاث وجعلها بأسلوب واحد. أما الآراء، فقد بقيت كما هي آراؤنا والنصوص التي استندنا إليها في أبحاثنا بمراجعها لم يتغير شئ منها. . .
وذكرت أيضاً ذلك البحث الذي صدرت به مجلة إحدى الهيئات العلمية، وكيف قام أحد الطلاب يصيح في وجه أستاذه الذي نشر البحث باسمه قائلا: إني أعطيتك هذا البحث منذ شهر، فلم يسع الأستاذ إلا أن يعترف أمام الطلاب أنه استفاد من البحث الذي قدم له، ولكنه أصر الأمر في نفسه، وانتقم من الطالب في آخر العام فرسب الطالب المسكين!
وهذه زميلة تتقدم برسالة ماجستير وتعطي بحثها لأستاذها المشرف، ومكث البحث زهاء ستة أشهر عند الأستاذ، وأخيرا أخذته منه، فإذا به يفاجئنا بأن آراءها تتفق تمام الاتفاق مع آرائه، فلما سألته: أين نشرت آراؤه هذه؟ أجاب باسما: إن كتابي سيظهر هذا الأسبوع وفيه هذه الآراء! فأجابته ساخرة: الحمد لله أنك أطلعت على آرائي ولم أطلع على آرائك!
وذكرت ذلك الأستاذ الذي كان عضوا في لجنة امتحان إحدى رسائل الدكتوراه، فإنه بعد المناقشة احتفظ بنسخة الرسالة لنفسه، فإذا تقدم طالب آخر يعطف عليه أشد العطف، أعطاه الرسالة الأولى التي لم تكن طبعت بعد، فإذا بالطالب يستعين بهذه الرسالة استعانة كلية دون أن يشير إلى ذلك، وأكبر دليل نلمسه أن الرسالة الأولى كان الاعتماد الأكبر فيها على مخطوطات لم يرها أحد في مصر لأنها في حوزته، ولم يطلع عليها أحد، ولا توجد هذه المخطوطات عند أحد سواه، فإذا بالرسالة الثانية قد امتلأت بنصوص أخذت من هذه المخطوطات. . . ونذكر كيف حضر صاحب الرسالة الأولى مناقشة الرسالة الثانية، فلما رأى هذا السطو تحدث مع أعضاء لجنة الامتحان في ذلك، فكانت النتيجة أن هدده الأستاذ قائلا: أتريد أن تعمل على فشل الامتحان؟!
ولعله من المؤلم أن تحدث هذه المهزلة أمام اثنين من كبار المستشرقين، ومن الطريف أن أحد أعضاء لجنة الامتحان أستفهم عن هذه المشادة، ومع ذلك لم يفعل شيئا!
واذكر أيضاً أن أستاذا سافر إلى أحد الأقطار فدعي لإلقاء عدة محاضرات في الإذاعة، فأرسل برقية إلى أحد المعيدين ليكتب له سلسلة هذه المحاضرات ويرسلها له بالبريد الجوي، وتقاضى الأستاذ مكافئته من الإذاعة في حين أن المعيد قد لقي بعد عودته جزاء سنمار!
واذكر هذا الأستاذ المشرف على بعض رسائل الماجستير يصرح في مجلس الكلية أنه لم يقرأ هذه الرسائل ولكنه يوافق عليها. . . واذكر ذلك الأستاذ الذي سطا على أحد أعداد سلسلة (اقرأ) وأخذ يملي منه محاضرات على الطلاب دون أن يشير إلى الكتاب زاعما أنها له، ولم يفطن إلى أن الطلبة كانوا اسبق منه إلى قراءة هذا العدد!
ولعل أهم هذه الأحداث التي تتعلق بالأمانة العلمية في الجامعة أن أحد المدرسين إذ ذاك ألقى محاضرة بدار الجمعية الجغرافية الملكية عن رأي جديد في النحو، فإذا بهذا الرأي يظهر في كتاب لزميل له دون الإشارة إلى صاحبه، وإذا بهذا الأستاذ النحوي يغضب ويخاصم زميله ويستشهد بالآية القرآنية: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة). . . يشير بذلك إلى كثرة كتب زميله. . .
ولا ينسى الزميل الصديق الدكتور الشيال قصة هذه الكتب التي يوضع عليها اسم أستاذ من الأساتذة ومعه اسم تلميذ من تلاميذه على أنهما اشتركا في تأليف هذا الكتاب أو ذاك، فنحن نعلم من الذي ألف الكتاب ومن الذي استفاد منه. . .
هذه كلها ذكريات يعرف بعضها الدكتور الشيال، ويعرف بعضها زملاء الدكتور الشيال، لعل فيها ما يخفف عنه ثورته للأمانة العلمية في الجامعة. . .
(أبو رشيق)
إلى الأستاذ أنور المعداوي:
نحن نتعقبك في تعقيباتك المتعة، ويعجبنا فيك عاطفة متأججة، وإيمان بما تكتب، وصدق فني في تعبيرك، ونكبر فيك صراحة واضحة، وقلما قويا تقذف به في صدر الزيف والبهرج والباطل، فنزداد تعلقا بك، وحبا لقلمك ونشعر بهزة عنيفة تنفذ إلى مسامع القلب، ومسارب الروح.
ومقاييس الشعر التي تحدثت عنها، هي مقاييس صحيحة، ومعايير صادقة، ودراسة قصيرة (إيليا أبو ماضي) على ضوئها كانت دراسة جميلة، وأسلوبا في النقد والتعليق يعد أسلوبا طريفا لأنه ينصب على القيم والمعاني والأحاسيس والتجارب والظلال، ولا يحفل بالشعوذة اللفظية، والبهرج الزائف؛ ولكني لا أوافقك بل أعتب عليك عتبا كثيرا حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على الزمن هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو أن تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك مرة أخرى، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك، أن تسم الشعر العربي بهذه السمات (شعر السطوح الخارجية) شعر يشعرك بوجود (الفراغ الداخلي) إن الشعراء كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية).
لا لا يا أخي. ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات فتراه شعرا منبثقا من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيرا. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ. ولست الآن بسبيل الاستقصاء، وضرب الأمثال من شعر الشعراء، وكلام النقاد؛ فإنما هي كلمة عابرة اكسر عليها قلمي حتى اسمع رأيك مفصلا واضحا.
هذا شئ، وهناك شئ آخر، لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور وفي الفن، وجعلته قرينا لشاعر آخر.
والمعروف أن المدرستين مختلفتان في الكثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي).
والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك.
ولصديق الروح تحية ملؤها الحب والإعجاب والتقدير. . .
(دمياط)
عبد المنعم سلمان مسلم
أليس هذا مصريا؟
كثيرا ما سمعت هذه الجملة تلوكها ألسنة الشبان وغيرهم عندما يعرض لهم شخصا تزل قدمه في الخطأ، وترى الواحد منهم يرسلها بكل بساطة كأنه يعتبر بذلك المصري علما على الأخطاء.
هذا الأمر ليس شيئا تافها، إنما هو خطب جلل يأسف له كل وطني يدرك ما ينطوي عليه من معنى في نفوس الكثيرين من أبناء هذا الوطن.
إن ذلك معناه الشعور بالنقص بل معناه الإيمان بهذا النقص، معناه فقدان الكرامة الشخصية والاعتزاز القومي وانحطاط النزعة القومية إلى حد تصل معه إلى هذه الدرجة من الضعة.
إننا لو افترضنا جدلا وجود بعض النقائص في المصري فليس لنا مطلقا أن نتخذها مبعثا للسخرية والتهكم؛ لأن ذلك يعني إيماننا بوجودها؛ وأن مجرد إيمان كهذا يعتبر أخطر وانكى من العيب نفسه أن لم يكن هو عين العيب. . . إن الوهم في ذاته من أخطر أسباب المرض، فالواهم يخلق لنفسه المرض وهو صحيح. وهو بذلك يضاعف من مرضه بالوهم إن كان مريضا، ولعل معظم الأمراض العقلية والعصبية ترجع إلى ذلك الوهم الذي لا أساس له في الواقع، والمصري إذ يتوهم في نفسه النقص والضعة لا شك أنه بذلك سيخلق في نفسه النقص إن كان منزها عنه وسوف يضاعفه إن كان مشوبا بالرشاش منه.
إن الفلاسفة الألمان يوم أعلنوا أن (ألمانيا فوق الجميع) وإن الإنجليز يوم اعتبروا عنصرهم أسمى العناصر، وكمال أتاتورك يوم جعل شعبه يؤمن بأن التركي اطهر الأجناس، كل أولئك لم يكونوا داعين إلى عصبية قومية عمياء ولم يعتبروا قط أنهم أسمى البشر فعلا، إنما كانت غايتهم أن يبثوا في نفوس مواطنيهم الشعور بالكرامة والعزة ليصلوا من ذلك الشعور إلى مراتب الكرامة والعزة الحقيقتين.
وإن الله تعالى حين أعلن في القرآن الكريم مبدأ (كنتم خير أمة أخرجت للناس) لم يكن - سبحانه وتعالى - بالطبع يدعو إلى عصبية دينية لأن القرآن نفسه قد حوى أسمى مبدأ في المساواة تامة بين البشر جميعا، والقرآن في ذلك يبتغي أن يجعل المسلم يعتز بنفسه ودينه ويشعر بالكمال والقوة فوق سائر الناس فيدفعه ذلك الشعور إلى العمل الذي يتفق معه ويؤدي إلى جعله حقيقة واقعة.
وهكذا تخلق الأمة القوية من مجرد الشعور القوي بالقوة والأنفة بينما تنحط الأمم مهما كانت قيمتها يوم يستولي عليها الشعور بالنقص ويبتليها الله بانحطاط الروح المعنوية وضياع العزة القومية.
أخي المصري. . . إننا لم نصل بعد إلى هذه الدرجة المنحطة من الضعة والتفاهة حتى نوهم أنفسنا بذلك، ومن الجرم أن يعتقد المصري في نفسه ذلك النقص، فنحن بخير ويحق لنا أن نعتز بقوميتنا، فإننا مهما بالغنا في ذلك الاعتزاز فنحن أهل له. نحن شعب ناهض بلا شك، وإن كان الاحتلال لا زال يعوق نهضتنا فليكن لنا من ثقتنا في أنفسنا السلاح الذي نحطم به ذلك العائق حتى نحقق ما نراه في أنفسنا من عزة وكرامة وقوة سجلها لنا تاريخنا الغابر وهي في سبيل أن يسجلها لنا التاريخ الراهن، إذا كنت ناقصا في بعض الشيء يا أخي فلتعمل لتكمل في نفسك ذلك النقص، ولا تستشعر النقص في نفسك، فالشعور بالنقص هو النقص عينه، بل قل (مصرنا فوق الجميع) ولسوف تصبح كذلك إن آجلا أو عاجلا فليس سبيل السيادة بمقصور على أمة أو شعب إنما هو مشاع للعاملين.
السيد علي الشوربجي كلية الحقوق