انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 85/أصول التحقيق الجنائي في التشريعين الأوربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 85/أصول التحقيق الجنائي في التشريعين الأوربي

مجلة الرسالة - العدد 85
أصول التحقيق الجنائي في التشريعين الأوربي
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935


والاسلامي

للأستاذ بشير الشريقي

إن موضوع (أصول التحقيق الجنائي) أعني الأساليب المتبعة لأثبات الأفعال الجُرمية هو من أهم موضوعات (العلم الجنائي)، هذا العلم الذي ينظم إيقاع العقاب على من يخالف أمر القانون أو نهيه

إن أهمية هذا العلم وخطره يظهران واضحين في نتيجته الضرورية، وهي الحكم بالعقوبة على من ثبتت جريمته، عقوبة تحرم المتهم المقرر تجريمه أقدس حقوقه، من ماله وحريته بل من حياته أيضاً

لقد تعاقب على أصول التحقيق الجنائي في أوربا أسلوبان أصليان يعرف أولهما بالأسلوب (الادعائي) وثانيهما بالأسلوب (التحقيقي). ظل الأسلوب الادعائي سائداً في أوربا حتى القرن الخامس عشر، ومن مقتضاه أن يرجع القاضي عند عدم اقناعه بالشهادات المسرودة أمامه واصرار المتهم على إنكار الجرم إلى ما يسمونه (حكم الله) ليفصل بين المتداعيين. أما حكم الله فقد كان يتجلى للقاضي بالمصارعة، والماء الغلي، والكي بالنار!

ثم أحلوا الأسلوب (التحقيقي) محل الأسلوب الادعائي حوالي القرن الخامس عشر للميلاد، فكان التحقيق يجري فيه بين جدران خرساء وفي خلوات متتابعة، بين حاكم مجرب يميل بحكم العادة المسلكية إلى أن يرى في الظنين مجرماً، وظنين عاجز عن الدفاع مضطهد في السجن ومستعد للإدلاء بإفادات ضارة فاضحة، وكان قضاة هذا الأسلوب، حينما لا يظفرون - بعد صفحات التحقيق المختلفة - بأدلة كافية لأخذ المتهم، وبكلمة أصح، حينما لا يظفرون بشيء ضده؛ يأمرون بسوق المسكين إلى حجرة التعذيب للحصول على اعترافه، وعلى ما في هذا الاسلوب الاستنطاقي من قسوة ووحشية، فقد كان يظهر للاوربيين طبعياً جداً وضرورياً، حتى انهم كانوا يطلقون عليه اسم (المسألة القضائية)!. ويذكر الاستاذ (جارو) هذه الأصول في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 1 فقرة 23) فيقول: (. . . مع أن استعمال التعذيب كان عاماً، فان طرق استعماله كانت مختلفة، باختلاف البلاد والبرلانات، وبينمت كان التعذيب بالماء والآلات المخصصة لتعذيب المتهم في أعضائه السفلى، جارياً ومقبولاً في اجتهاد منطقة برلمان (باريز) فقد كانوا في منطقة (بريطانيا) يستعملون التعذيب بالنار!. .)

ويصور الكاتب الفرنسي الكبير (ميشيل زيفاكو) كيف كان يجري التحقيق الجنائي في عهد فرانسوا الأول (1494 - 1547) فيقول (. . . فاذا عرض إبهام وغموض في إحدى القضايا، أمر القاضيان بأن يساق المتهم إلى حجرة التعذيب، وإذ ذاك لا تنقضي عشر دقائق حتى يقول احد القاضيين: لقد برح الخفاء وظهر المستور، فيقول رفيقه: آمين!! وذلك أن المتهم المسكين إذا ألقي إلى معاناة التعذيب والتنكيل يقر بكل ما يريدون الاقرار به، وقد يعترف بعضهم بذنوب لا يصورها إلا الخيال أو هي فوق الامكان كاقرار المتهمين بأنهم يراسلون الشياطين أو يحمون مردة الجن، أو يطيرون في الهواء!)

ظل هذا التشريع في أصول التحقيق يظلم الأوربيين ويعذبهم أعواماً وقروناً طويلة لم يفكروا خلالها في تغييره أو مقاومته، وكيف يفكرون في ذلك وهم يعتبرون ان قسوته واجحافه من الشدة الضرورية؟!. إلى أن جاءت الثورة الفرنسية 1789 واعلنت حقوق الإنسان، عندها فقط عمد رجال العقل والفكر في الجمعية التأسيسية إلى إصلاح مفاسد الحقوق المرعية بوجه عام، والحقوق الجنائية بوجه خاص، فنجحوا في ذلك نجاحاً عظيماً

تلك هي أصول التحقيق الجنائي في أوربا بقيت حتى الثورة الفرنسية وفيها ما فيها من بشاعة وظلم يوقع في انواع من الفوضى والفساد، واساليب فظة غليظة لا تلائم سياسة الامم بالعدل ولا توافق حال العمران، وانما تكشف عن مبلغ ما كان يسود اوربا حتى سنة 1789 من جهل وغباوة وظلم وفساد

وبعد فلنر كيف كان قضاة العرب المسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً يحكمون بين الناس، واي الاساليب كانوا يتبعون لا ثبات الافعال الجرمية!: جاء في كتاب (الخراج) للأمام ابي يوسف المتوفي سنة 182هـ ص107 ما يأتي:

(. . . ومن ظن أو توهم عليه سرقة أو غير ذلك فلا ينبغي أن يعزر بالضرب والتوعد والتخويف فان من أقر بسرعة أو بحد أو بقتل، قد فعل ذلك به، فليس إقراره بشيء ولا يحل قطعه ولا أخذه بما أقر به)

انه لقضاء عادل ونظر قويم ورأي سديد، يتفق واحدث قواعد العلم الجنائي، ويبرهن أعظم برهان على أن العرب المسلمين كانوا من أعرف الناس بحق المجتمع وحق العدل، ومن أكثرهم فطنة وعراقة في أصول القضاء العادل

يقول الأستاذ (جارو) في موجزه (الأصول الجنائية جزء 2 فقرة 408): (إن التجديد الأعظم في أصول التحقيق كان في قانون 1897 الذي يوجب على المستنطق أن ينذر الظنين ويخبره بأنه يقدر ألا يدلي بشيء من البيانات والإفادات)

ونقول أيضاً إن هذا (التجديد الأعظم) هو عين ما كان يفعله قضاة العرب عند مثول المتهم أمامهم، فقد جاء في كتاب الخراج الذي نبحث عنه ص107 ما يأتي: (وقد كان يبلغ من توفي أصحاب رسول الله (ص) الحدود في غير مواضعها، وما كانوا يرون من الفضل في درئها بالشبهات أن يقولوا لمن أتى به سارقاً: (أسرقت؟ قل لا)

إن هذا لعمر الحق منتهى الدقة والعلم، منتهى الاحتياط في حفظ الحقوق

وإليك ما جاء في كتاب (الطرق الحكيمة) ص4 لمحمد ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 هجرية في موضوع (الأقرار) وهو مما يتصل ببحث التحقيق (. . . إن الاقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت اليه أبداً) (لبينة والاقرار خبران يتطرق اليهما الصدق والكذب) و (الحكام إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية كجزيئات وكليات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم بطلانه، ولا يشكونه فيه اعتماداً منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وسائر أحواله)

هذا ما يقوله ابن القيم في موضوع (الإقرار) ومنه يستدل على ان قضاة العرب لم يكونوا في قضائهم يقفون عند مجرد ظواهر البينات، وإنما يحكمون بقناعتهم ووجدانهم وفراستهم أيضاً، وإن في ذلك لفطنة وذكاء وصدقاً، خصوصاً ومسألة (القناعة الوجدانية) مسألة كبيرة تعتبر من أمهات المسائل في العلم الجنائي الحديث، يلاحظ في إهمالها إضاعة حق كبير وإقامة باطل كثير؛ وقد ذكر الاستاذ (جارو) ذلك في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 2 فقرة 377 فقال: (لا ينبغي الحكم بمجرد وجود الاقرار إذ أن موضوع المحاكمة ليس الفصل في منافع خاصة، وإنما هو إظهار الحقيقة وكشفها، ولذاك يجب التدقيق عما إذا كانت ظروف القضية الاقرار صحيحاً) واستمع أيضاً إلى ابن القيم يشرح في طرقه الحكيمة ص174 - 180 اوفى واوضح شرح؛ موضوع علم القاضي الشخصي: (ما علمه القاضي في زمن ولا يته ومكانها وما علمه في غيرها) هذا الموضوع الدقيق جداً في علم الحقوق. قال رحمه الله:

(ومن النبي أنه قال: (. . . فأقضي له على نحو ما أسمع) واما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فصح عن ابي بكر الصديق انه قال: (لو رأيت رجلاً على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي غيري). وعن عمر بن الخطاب انه قال لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو شرب أو زنى، قال شهادتك شهادة رجل واحد. فقال له عمر صدقت) وعن طريق الضحاك ان عمر اختصم اليه فيمن يعرفه فقال للطالب: (إن شئت شهدت ولم أقض وان شئت قضيت ولم أشهد) وعن علي نحوه، وأما الآثار عن التابعين فصح عن الشعبي أنه قال: (لا أكون قاضياً وشاهداً)

وهم يدللون على صواب هذه المسألة بقولهم: (إن القاضي في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حكام، وشهادة الفرد لا تقبل، قالوا وأما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لانه خصم فيها، لأنه حق الله تعالى وهو نائبه). . . وهل يسوغ للحاكم ان ياتي إلى رجل من الناس غير مشهور بفاحشة وليس عليه شاهد واحد فيرجمه ويقول رأيته يزنى، أو يقتله ويقول سمعته يسب، او يفرق بين الزوجين ويقول سمعته يطلق، وهل هذا غلا محض التهمة، ولو فتح هذا الباب ولاسيما لقضاة هذا الزمان لوجد كل قاض له عدو، السبيل إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه والتفريق بينه وبين امرأته، لاسيما إذا كانت العداوة خفية لا يمكن لعدوه اثباتها)

وقد يحسن بنا بعد هذه المقارنة بين اصول التحقيق الجنائي في التشريعين الاسلامي والاوربي، ان نختم موضوعنا بكلمة جامعة للعلامة جلال الدين السيوطي تدل على سمو الغاية، وكمال المسمى الاسلامي في التشريع القائم على تحقيق العدل وضمان المصالح الإنسانية، وفي هذه الجملة تتجلى حيطة لقاضي النزيه، وخشيته ان يأخذ البريء بعقوبة المذنب. قال رحمه الله: (اعلم انك ان تخطيء في العفو في الف قضية، خير من ان تخطيء في العقوبة في قضية واحدة)

شرق الاردن بشير الشريقي المحامي