مجلة الرسالة/العدد 849/من كتاب قصور العرب:
مجلة الرسالة/العدد 849/من كتاب قصور العرب:
غُمْدانُ
للأستاذ كاظم المظفر
(بقية ما نشر في العدد الماضى)
وقد وصف الشعراء غُمداناً وصفاً يكاد القارئ أن يتوهم لأول وهلة أنه بعيد عن الحقيقة، أو هو من نسخ أخيلة الشعراء؛ ولكن عند التأمل والإمعان لا يرى فيه غرابة، ولاسيما وإن كثيراً من المؤرخين الباحثين (المستشرقين) الذين أخذوا على عاتقهم إحياء آثار العرب القديمة، شاهدوا بعض أنقاض تلكم القصور العظيمة، وتحدثوا عن عظمة الأسلاف، وما كانوا عليه من قديم العصور من رقي وتقدم في مضمار الحضارة.
وفي غمدان وملوك اليمن يقول دعبل بن علي الخزاعي:
منازل الحي من غمدان فالنضد ... فمأرب فظفار الملك فالَجَند
أرى التبابع والأقيال من يَمن ... أهل الجياد وأهل البيض والزَّرد
ما دخلوا قرية إلا وقد كتبوا ... بها كتاباً فلم يُدرس ولم يبد
بالقيروان وباب الصين قد زبروا ... وباب مرو وباب الهند والصُّغد
وقال أبو الصلَّت يمدح ذا يزَن:
أرسلتَ أسداً على بُقع الكلاب فقد ... أضحى شريدهم فيالأرضفلاَّلا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا
قصر بناه أبوك القيل ذوشرح ... فهل يُرى أحد نال الذي نالا
منطق بالرخام المستزاد له ... ترى على كل ركن منه تمثالا
تلك المكارم لا قَعبان من لبن ... شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
وأنشد لعصابة اَلجرْجرَاى:
الدار داران إيوان وغُمدان ... والملك ملكان ساسان وقحطان
وقال علقمة بن ذى يزن:
أبعد غُمدان حين أسنى ... يسفى به المور والرَّياح ياعين سلحين فإندبيه ... إذا هاض من أهله الجناح
وقال أيضاً:
لاتهلكن جزعاً في إثر من ماتا ... فإنه لا يردُّ الدَّهر ما فاتا
أبعد غمدان لا عين ولا أثر ... أم بعد بينون يبنى الناس أبياتا
وقال أيضاً:
فذاك غُمدان محزئلاً ... كأنهُ جبلُ منيفُ
يسكنهُ ماجدُ أبىُّ ... تُرغمُ قُدَّامهُ الأنوفُ
وقال أيضاً:
هذاك غُمدان مُحزئلاً ... بناؤهُ العجبُ العجيب
أعلاهُ مبهمة رخام ... عالٍِ وأسفله جروب
وقال أيضاً:
وتكوَّرت غُمدانُ من صرف الرّدى ... من بعد مملكة وبعد تنكير
القيل من قحطان أبهم صخرها ... وعمادها والقطر خير الأقطر
وقال أيضاً:
قد كان حسان في ذؤابة غمدان ... قريراً يعيش من رغدا
وقال أيضاً:
ولم يخلد الحدثانبان ... بني غمدان تتهمه التهوم
وقال ابن أبى عاصية السُّلي:
فهل ناظر من بطن غمدان مبصر ... قفا أُحد رمُمت المدى المتراخيا
ولو أن داء اليأس بي فأعانني ... طبيب بأرواح العقيق شفانيا
وقد ذكر الهمداني في بعض مخاطباته لأهل العراق، وقد كانوا وصفوا بغداد في مخاطبتهم له؛ حيث يقول:
أرض تخيرها سام وأوطانها ... وأسَّ غمدان فيها بعدما احتفرا
وقال الهمداني أيضاً:
مازال سام يرودالأرض مطلباً ... للطيب غير بقاع الأرض بينهما حتى تبوَّأ غمدانا وشيدها ... عشرين سقفاً يناغى النجم عاليها
فإن تكن جنة الفردوس عاليةً=فوق السماء فغمدان يحاذيها
وقال ذو جدن الهمداني:
وهذا المال ينفد كل يوم ... لنزل الضيف أوصلة الحقوق
وغمدان الذي حدثت عنه ... بناء مشيداً في رأس نيق
بمرمرة وأعلاهُ رخام ... تحام لا يغيب بالشقوق
مصابيح السليط يلحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
فأضحى بعد جدته رماداً ... وغيَّر حُسنه لهب الحريق
وقد يقال عنى غمدان بمأرب وفيه يقول الهمداني:
من بعد غمدان المنيف وأهله ... وهو الشفاء لقلب من يتفكر
يسمو إلى كبد السماء مصعَّداً ... عشرين سقفاً سمكها لا يقصر
ومن السحاب معصب بعمامة ... ومن الرُّخام منطق ومُؤزر
متلاصقاً بالقطر منه صخرة ... والجزع بين صروحه والمرمر
وبكل ركن رأس نسر طائر ... أو رأس ليث من نحاس يزأر
متضمناً في صدره قطارة ... لحساب أجزاء النهار تقطر
والطير واقفة عليه وفودها ... ومياهه قنواتها تتهدَّر
ينبوع عين لا يصردُ شربها ... وبرأسه من فوق ذلك منظر
برخامة مبهومة فمتى ترد ... أربابه مدخولة لم يعسر
وقال الأعشى:
وأهل غُمدانُ حيثُ كانوا ... أجمع ما يجمع الخيار
فصيحتهم من الدواهي ... نائحة عقبها الدّمار
وقال آخر من حمير:
وكان لنا غمدان أرضاً نحاها ... وقاعاً وفيها ربن الخير مرثد
وقال ثعلبة بن عمر العبقسي بن سلمة وقيل بل هما لعبد القيس الأزدي:
ولو كنت في غمدان تحرس بابه ... علىّ أراجيل كميّ وسانف إذاً لأتتني حيث كنت منيتي ... لعبء مخب لا يرى وهو قائف
وقال مالك بن عمرو بن قضاعة:
وفي الفرع من غمدان لوح عزنا ... يمسي وفيه بالفلاح يصيح
وقال الربيع بن ضبع بن ذبيان:
أجار مجير النمل من عزَّملكه ... وأنزلَ سيفَ البأس مِن رأس غُمدان
وقال النعمان بن الأسود بن عمرو بن يعفر الحميري يرثى بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل من قصيدة:
هدهد من طيور أرضبشام ... فرمى في الهوا على العرش نور
باقتضاء الهدى على ملك بلقي ... س بغمدان إذا أتاها النذير
وأنشد أسعد تبع بن ملكي كرب من قصيدة:
جدَّي المتوَّج عبد شمس ذو العلا ... شيخ الملوك ومحتوى غُمدان
وقال أسعد تبَّع أيضاً:
وغمدان قصر لنا مشرق ... مآجله حوله تُزهر
وكان معسكرنا دائماً ... أزال وعسكره عسكر
وذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد في باب وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد طرده للحبشة قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي ﷺ أتته وفود العرب وأشرافها وشعرائها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزي وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غُمدان وقال النويري: ويقال أن آثار غُمدان باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء.
وقال الهمداني: وقد بقى من خدَّ غمدان القديم قطعة ذات خراب متلاحك عجيب، فهي قبالة الباب الأول والثاني من أبواب الجامع الشرقية، وباقي غمدان تلُّ عظيم كالجبل وكثير مما حوله من منازل الصفانيين.
وقال الواسعي اليماني عند ذكره لدخول الجيوش التركية لبلاد اليمن: (وقد استولى قسم من الجيش على بقية المعاقل نحو قصر غمدان وأبواب صنعاء وهي عشرة)
وقال الأستاذ أمين الريحاني: قصر غمدان القديم دُرس والبناء قائم مكانه اليوم يدعى باسمه، ويختصرونه في صنعاء فيقولون: القصر، وفيه معمل الخرطوش، والسكة، والسجن.
وقالأيضاً عند ذكره للأمام يحيى ملك اليمن وما لديه من الأخصائيين الذين يستشيرهم في أعماله ويستعين بهم في تمشية أموره: (وهذا السيد محمد زيارة أمير القصر، قصر غمدان، ومدير السكة والسجن فيه.
ويستنتج من هذا القول الذي ذكره الأستاذ الريحاني أن معالم غمدان لم يبق لها أي مشهد معروف، وأن آثاره التي قال فيها الهمداني أنها قطعة خربة بينة الأثر، والتي قال فيها النويري أنها تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء. لم تكن كتلك الحال الأول، وإنما جرى عليها الاضمحلال، وتغيرت رسومها، واستبدلت مكانها بناية أخرى تابعة لحكومة الإمام يحيى، إلا أنها لازالت تحتفظ بذلك الاسم القديم (غمدان) الذي فاخرت الأجيال بعظمة بنائه، وجمال صنعه.