مجلة الرسالة/العدد 848/من كتاب قصور العرب:
مجلة الرسالة/العدد 848/من كتاب قصور العرب:
غُمْدَانُ
للأستاذ كاظم المظفر
يظنُّ الكثير أن العرب في الجاهلية كانوا بدوا لم تكن لهم حضارة ولم يُؤسسوا الدول والممالك، ولم يُقيموا الشرائع والأنظمة. ولكنا إذا درسنا تاريخ اليمن فقط، نجد الأمر بخلاف ذلك، لأن العرب في اليمن كانوا أصحاب دول منظمة، حكومتها بيد ملوك يتمتعون بالسلطة المطلقة. لهم جيوش للتعمير وليست للتخريب. يجمعون الرجال لبناء المدن والقصور، وإنشاء السدود، وحكومتهم وراثية لها نقود رسمية مزينة بالنقوش والصور كرأس الثور رمز الزراعة أو صور الهلال أو البقر، وعلى نقودهم كتابة عربية بالخط المسند.
واليمن من أقدم الأقطار التي نشأت فيها حضارة، فلو قام علماء العاديات بالحفر في أنحاء اليمن لأطلعوا العلم على آثار تلك الحضارة. وحضارة اليمن العربية القديمة بادية في بناء أسداد الري، وتشييد القصور، وتأسيس القصبات والمدن؛ ففي اليمن حضارة عربية قديمة، وخزانة الأقوام العربية المتدفقة.
وكان اليمانيون طبقات، منهم الجنود والفلاحون والصناع والتجار؛ غير أن التجارة غلبت على البلاد لوقوعها على الطرق. وقد اشتغلوا بالزراعة لخصب تربة البلاد؛ واشتهرت اليمن بمعادنها من الذهب والفضة والحجارة الكريمة. وهذا ما زاد في ثروة البلاد، فأصبح أهلها أغنياء. بنو القصور العالية، وشيدوا المدن الكبيرة، والقلاع العظيمة. . . وأشهر قُصورها قصر غُمدان في مدينة صنعاء. ذكر الهمداني وياقوت أن بانيه اليشرح يحصب؛ فإذا صحَّ قولهما كان بناؤه في القرن الأول للميلاد، وظل باقياً إلى أيام عثمان بن عفان في أوائل القرن الأول للهجرة فيكون قد عاش نحو (620) سنة.
وقد شاهد الهمداني بقاياه تلاً عظيماً كالجبل؛ وقال في وصفه أنه كان عشرين سقفاً غرفاً بعضها فوق بعض أي عشرين طبقة مثل أبنية العالم المتمدن وأعلاها. بين كل سقفين عشرة أذرع
وفي الإكليل أن محمد بن خالد رفع حديثاً إلى وهب، فقال: لما بني غُمدان صاحب غمدان، وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة، وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر به الطائر فيعرف الغراب من الحدأة وهو تحت الرخام. وكانت حروفه أربعة تماثيل أُسود من نحاس مجوفة، رجلا الأسد في الدار، ورأسه وصدره خارجان من القصر، وما بين فمه إلى مؤخره حركات مدبرة. فإذا هبت الريح دخلت أجوافها، فيسمع زئير كزئير الأسد. وكان يُصبح فيها بالقناديل، فترى من رأس عجيب. وذلك حين تُسرج المصابيح في بُيوت الرخام إلى الصبح؛ فكان القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق. فإذا أشرف الإنسان ليلاً قال أرى بصنعاء برقاً شديداً كثيراً، وهو لا يعلم أن ذلك من ضوء السُرج. وكانت غرفة الرأس العليا مجلس الملك أثنى عشر ذراعاً. وكان للغرفة أربعة أبواب قبالة الصبا والدبور والشمال والجنوب؛ وعند كل باب منها تمثال من نحاس إذا هبت الريح زأر؛ وفيها مقيل من الساج والآبنوس وكان فيها ستور لها أجراس إذا ضربت الريح تلك الستور تسمع الأصوات عن بُعد.
وكان غمدان على يبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً، وهذا لا يمكن؛ لأن أربعين ذراعاً بين كل سقفين كثير، والثبت ما ذكرناه أنه عشرون سقفاً كل سقف على عشر أذرع، فذلك مائتا ذراع، ولن يتعذَّر لقدرتهم على كل معجز من البناء. وأن أبا شرح كان ملك غمدان، وقد بناه على سبعة أسقف كل سقف منها على أربعين ذراعاً. وكانت له أربعة أوجه في ترابيعه: وجهٌ مبني بحجارة بيض، ووجه بحجارة سود، ووجه بحجارة خضر، ووجه بحجارة حُمر. وكان في أعلاه غُرفة لها لجٌّ وهي الكوى. كل موَّة منها بناء رخام في مقيل من الساج والآبنوس، وسقف الغرفة رخامة واحدة صفيحة. وقال آخر: كانت الغرفة تحت بيضة رخام من ثماني قطع مؤلفة؛ وذلك أحرى لأنهم كانوا يثقبون فيها السرُج فترى من رأس عجيب، ولا ترى فيها حُمرة النار مع الرُّخامة المبسوطة، ويؤيد ذلك قول علقمة:
مصابيح السليط يلحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
ويقال: إن غمدان أول قصر بني باليمن، ووجد فيه حجر في بعض زواياه فيه مكتوب بالخط المسند: (بناه غمدان). وإنه البناء الذي ذكره الله عز وجل بقوله: (لا يزَالُ بنيانهمُ الذي بنوْا رِيبَةً في قُلوبهمْ). فلما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله ﷺ فروة بن مُسبك ليهدمه، فلما أراد هدمه لم يقدر عليه، حتى أحرقه بالنار، ولم يهدم إلاّ بعد وفاة رسول الله ﷺ أو عند وفاته. لأنه لم يهدم إلا بعد أن عمل فروة بن مُسبك وقيس بن هُبَيْرة المكشوح في قتل الأسود بن كعب العنسي الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلة الله عليه وسلم، وله خبر طويل؛ وكان في القصر فقتل في السنة التي توفي فيها الرسول ﷺ وقيل هدم في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقيل له: إن كهان اليمن يزعمون أن الذي يهدمه يُقتل؛ فأمر بإعادة بنائه، فقيل له: لو أنفقت عليه خرج الأرض ما أعدته كما كان فتركه. . وقيل أيضاً وجد على خشبة لما خُرِّب وهُدم مكتوب برصاص مصبوب: (أسلم غمدان، هادمُكَ مقتول) فهدمه عثمان رضي الله عنه فقتل. وهناك وجه آخر قال فيه ابن الكلبي: كان على كلِّ ركن من أركان غمدان مكتوب (أسم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان).
وقد اضطربت آراء المؤرخين في بانيه، وتشعبت أقاويلهم في ذلك، وذهبوا مذاهب شتى، نذكر ما استطعنا أن نعثر عليه من أقاويلهم.
1 - سليمان بن داود عليهما السلام، وذلك أنه أمر الشياطين أن يبنوا لزوجته بلقيس أربعةُ قصور: غُمدان، وصِرْواح، وبينين، وسَلحين. وكلها باليمن. ومال إلى هذا القول كثير من المفسرين، ولعلَّ سليمان أقدم من نسب إليه بناء غمدان.
2 - جاء في الروض الأنف: غمدان حصن كان لهوذة بن علي ملك اليمامة.
3 - وجاء فيه أيضاً: ذكر ابن هشام أن غمدان أنشأه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن سبأ بن يعرب، وكان ملكاً مُنوَّجاً كأبيه وجدَّه وله ذكر في حديث سيف ابن ذي يزن.
4 - سام بن نوح.
5 - بيو راسب وقد بناه على اسم الزُّهرة. وهذا القول ضعيف فلم يورده إلا النويري في نهاية الأرب جـ1 ص370
6 - ليشرح ابن الحرث (أو الحارث) بن صيفي. وقد رجح هذا القول جماعة من المؤرخين واعتمده صاحب القاموس.
7 - سيف بن ذي يزن. وقد انفرد بهذا القول الزمخشري. وقد أخطأ فيه لأنه سبق بناؤه قبل وجوده بقرون عديدة.
وقد ذكر الهمداني أن الذي أسس غمدان وابتدأ بناءه واحتفر بئره التي هي اليوم سقاية المسجد الجامع بصنعاء (سام بن نوح) اجتوى بعده السكنى في أرض الشمال، وأقبل طالعاً في الجنوب يرتاد أطيب البلاد. حتى صار إلى الإقليم الأول؛ فوجد اليمن أطيب مسكناً، وارتاد اليمن فوجد حقل صنعاء أطيب ماء بعد المدة الطويلة، فوضع مقرانه؛ وهو الخيط الذي يقدر به البنَّاء ويبني عليه بناءَه إذا مدَّه بموضع الأساس في ناحية فج غمدان، في غربي حقل صنعاء، فبنى الظِّبر، وهو اليوم معروف بصنعاء، فلما ارتفع بعث الله طائراً، واختطف المقرانة، وطار بها، فتبعه سام لينظر أين وقع، فأقام بها إلى جنوب النعيم من سفح نقم، فوضعها بها، فلما رهقه طار بها فطرحها على حرجة غُمدان، فلما قرَّت على حرث غُمدان علم سام أن قد أُمِر بالبناء هناك؛ فأسس غمدان، وأحتفر بئره، وتسمى كرامة وهي: سفاء إلى اليوم ولكنها أجاج.
(يتبع)
كاظم المظفر