انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 847/برلمان الأقلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 847/برلمان الأقلام

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1949



للأستاذ عمر عودة الخطيب

بعد أن امتحن العرب تلك المحنة القاسية بفلسطين، فكانت لهم - وا أسفاه - نكبة ومأساة، شطرت الأمة العربية اشطاراً متناحرة، ودولاً متنافرة، وقضت على شعب كريم بالتشريد والفناء، وألقت به منبوذاً بالعراء، يقاسي مرارة المهانة وألم الحرمان، وينتظر رحمة الضمير الأوربي في مؤتمر (لوزان)، بعد هذا كله انصرفت الأقلام عن الكتابة في موضوع فلسطين، وآثرت أن تجنح إلى الراحة، وتثاءبت على أوراق الكتاب، أو عاد بعضها سيرته الأولى، يكتب ما لا غناء فيه، ولا طائل تحته، ولا جدوى منه مما لا يمس أدواء الأمة الخطيرة، أو يصور مآسيها الدامية، ونكبتها الماحقة. . . وكأن فلسطين - إبان المعارك فيها - كانت لبعض الأقلام الفاترة، رفداً أنقذها من مسغبة، وأحياها من موات، ذلك لأن من خطل الرأي وفساد الذوق - ولا شك - أن تشغل (فلسطين) الدنيا كلها، والعالم العربي خاصة، ثم لا تشارك أقلامهم الناس فيما هم فيه، ولا تبض - على الأقل - ببعض كلمات، تنير السبيل، وتبصّر الضال، وتهدي الحائر. . . وكأني بهؤلاء كانوا يضيقون ذرعاً بهذا الموضوع الذي طال الكلام فيه، والجدل حوله، فكانوا - كما أحسب - يتلمسون منه خلاصاً، فلا يجدون منه مناصاً، حتى إذا ما انقطع زئير المدافع، ودوي النسور، وأذعن العرب لهذه (الهدنة) الممقوتة، هادنت أقلامهم هذه الموضوعات ورجعت إلى الشواطئ والحانات، تصف الأجساد العارية، والأقداح الدافقة، والرقص والابتذال، ومسابقات الجمال. . . ولولا أن (الرسالة) الغراء تنقل إلينا بين فترة وأخرى، بعض المقالات الرائعة في هذه الموضوعات الحية، من كتاب مجيدين، وأدباء يقظين، لأوشك القارئ العربي أن تعظم محنته، وتكبر بليته، فيرى اسم (فلسطين) يحتضر - الآن - على أسنة الأقلام، كما احتضر - من قبل - على ألسنة بعض الحكام.

ذكرت هذا حين قرأت ذلك المقال الرائع (البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع اليهود) للأستاذ نقولا الحداد، عاد إلى مقالات مضت، وأبحاث غبرت، وكلمات قيمة نشرت، للأستاذ الفاضل، ولأستاذنا الجليل (الزيات) ولغيرهما من أعلام البيان، ورجال الفكر. . . وعلى الرغم قارنت بين الأمس واليوم فألفيت بالأمس شعوراً دافقاً، وحماساً لاهباً، أحيا العزائم، وأيقظ المشاعر، وكان له - فيما أرى - أثر بالغ في توجيه الأنظار، وتنبيه الأفكار.

أما اليوم فأننا - نحن شعوب العرب - بحاجة إلى أن نضم إلى إعدادنا الحربي والسياسي، وإعدادنا فكرياً شعورياً آخر، يصور لنا - بصراحة تامة - عوامل تخاذلنا، وأسباب انهزامنا، كما يصف لنا عدونا كما هو بشره المستطير، وخطره الوبيل، ومكائده وأجابيله ومطامعه من الفرات إلى النيل، حتى يدرك كل عربي معركة الغد، فيأخذ لها أهبتها، ويعدلها عدتها، لئلا يقع في المستقبل، - كما وقع بالأمس - صريع الغفلة والجهالة، والضعف والاستسلام.

إذا أبى علينا - فيما معنى - طغيان أعدائنا من أوربيين وأمريكيين، واستسلام إخواننا وأبناء عمنا من السادة اليعربيين، أن نمضي في جهادنا، ونثابر على نضالنا، ونتيح للشباب الظامئ المتوئب، أن يروي ظمأه من دماء اليهود، وينقع غلته في الأرض المقدسة، فلن يصل طغيان أولئك واستسلام هؤلاء، إلى الأقلام الحرة، فعليها أن تجدد حملتها، وتعيد كرتها، فتوقظ النائمين، وتفضح الخائنين، وتحيي في نفوس الشباب تلك العزيمة التي أوهتها الصدمة، وتذكي بين جوانحهم تلك الجذوة التي أخمدتها النكبة، وذلك الحماس الذي أذهله مكر الماكرين وشعله بغي الباغين. نعم نريد من هذه الأقلام - وهذه إرادة الشباب - أن ترأب الصدع، وتجمع الشمل، وتلم الشعث، وتدفع في تيار من الحياة جديد، ذي قوة ومراس، ورجولة واحتراس، هذه القافلة التائهة وهذا الموكب الحائر. . . وليس أجدى علينا من أن تكون هذه الأقلام - الأقلام الكبيرة - بريد اليقظة الكاملة، والنهضة الشاملة، لهذه الأمة العاثرة.

وأن لنا في التاريخ، لأمثلة حية من جهاد الأقلام، في إنهاض الأمم، وإيقاظ الهمم، وهذه كتب (روسو ومونتسكيو وفولتير) وغيرهم بين أيدينا، تشهد على ما فعلته في فرنسا أيام غفلتها، وأبان رقدتها.

فإذا لم تسبق فكرة (البرلمان الشعوبي العربي) هذه الهزة الفكرية من (برلمان الأقلام) في مصر وغيرها، وقادة الرأي، وأعلام الفكر في الأمة العربية كلها، حتى تتناجى الأرواح، وتتلقى الأفكار، وتتحدث المشاعر، فلن نجد عند المعركة، الأذن التي تسمع، والقلب الذي يعي، والعقل الذي يفكر، والإرادة التي تعمل، وإذا خسرنا هذه كلها، فلن تنفعنا - حين ذاك - هذه (المؤتمرات) ولا تلك (البرلمانات).

فلعل أدباءنا الأمجاد، يعرفون هذه الحقيقة، فيعطوها نصيباً من أقلامهم، وقليلا من وقتهم، ويسيراً من تفكيرهم، وهم - دون شك - يعلمون بأن دولة الأفكار في حصن مكين، لا تناولها قوة، ولا يصل إليها عدوان. . . ولنذكر أخيراً كلمة شكسبير الخالدة (تستطيع أن تسلبني مالي، وأن تسجنني، وأن تقبض روحي، ولكنك عاجز عن قتل فكرة واحدة من أفكاري. إن الأفكار تستمد وجودها من الله.)

(دمشق - المزه)

عمر عودة الخطيب