انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 847/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 847/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1949



يوم وليلة

تأليف الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل

بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

ليس الطريف في هذا الكتاب عنوانه المشوق، وإنما الطريف فيه حقاً أسلوبه القصصي التاريخي الممتع الذي وصف به مؤلفه الفاضل الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل خلافة ابن المعتز التي ضرب بها المثل في القصر.

وأحسب أن لو كان مؤلف هذه القصة التاريخية كاتباً معروفاً أو أديباً مشهوراً لأسرع النقاد يمدحونه ويتملقونه لتقرن أسماؤهم باسمه، أو يلتمسون عثراته ويخالفونه ليشتهروا بذمه؛ ولكن كتاباً ككتاب (يوم وليلة) وقد وضعه أديب غير مشهور، لا يحظى من تحليل النقاد بحظ وفير!

على أن دار العلم للملايين في بيروت كانت أكثر تقديراً للكاتب الفاضل، إذ تكلفت بكتابه فطبعته آنق طباعة وألطفها، على أصقل ورق وأنعمه، كما نشرت له منذ عام بحثاً طريفاً جامعاً حول (النكتة المصرية) كان له صدى في الأوساط الأدبية اللبنانية. وأريد اليوم لأكون أحد المعترفين بفضل هذا الأستاذ فأظهر الناس على أدبه الرفيع، وأطلعهم على علمه الغزير، وإن كنت لم أجلس إليه في ناد، ولم أقابله في زيارة: فإن قلم الكاتب لسان عقله وتفكيره، ووحي قلبه وشعوره.

لا ريب عندي في أن هذا الكتاب الذي يمكنك أن تقرأه في جلسة واحدة وأنت مستمتع بجمال عرضه، وجزالة أسلوبه، ورصانة تعبيره، قد كلف الأستاذ عبد العزيز عناء طويلاً وجهداً ثقيلاً، فلقد حاولت من قبله أن أعلم شيئاً يغني عن خلافة ابن المعتز، ففتشت بطون الكتب كما فتش؛ واستقصيت في الطلب كما استقصى فلم أجد - كما قال الأستاذ في مقدمته - (كتاباً واحداً ولا كتابين ولا ثلاثة ولا عشرة تسعدني بما تمنيت) وأدركني الملالة فانصرفت عن هذا الموضوع إلى سواه. أما الأستاذ فلم يعرف الضجر، وإنما زاد في الاستطلاع وما انفك يزيد حتى أربى على الستين كتاباً، ثم تتبع الأخبار المبثوثة في طواي هذه الكتب فإذا هي متفرقة متمزقة كأنها الأشلاء المبعثرة بأطراف الصحراء!

وأني لواثق أنه ما كان لقصة ابن المعتز أن تستحكم حلقاتها لولا أن الأستاذ قد غامر فتنقل فعلاً (بين طوائف شتى من كتب التاريخ والطبقات والأدب والفقه والمُلَح والدواوين) فاستطاع بهذا التنقل الفكري المرهق أن يريح قارئ قصته، إذ أوضح له خفيات الأمور، وتطوع بنفض الغبار عن كثير من الحقائق، حتى ليظن أولئك الذين تعودوا أن يقرءوا غير محتكمين إلى العقل والمنطق أن ليس في الكتاب عناء البحث ولا وعورة المسلك، لاتخاذ الكاتب طريق القصص الذي يبدو سهلاً لمن يراه، ولا يعرف صعوبته إلا من عاناه.

ومن المعروف لدى المشتغلين بأدب القصة ونقدها أن الأسلوب القصصي حين يعتمد على الخيال الخالق وحده في تأليف الحوادث وربطها، أو حين يعتمد على التاريخ الصادق وحده في رواية الأخبار وجمعها، لا يعترضه من العقبات ما يعترض القصاصي الذي لا غنى له عن الجميع في آن واحد بين ما ارتضاه من خيال وما صدقه من تاريخ. وأكثر ما يكون ذلك في القصص التاريخية التي تدور حول فتنة حمراء لعب المؤرخين فيها دور الجبناء، خوفاً من سطوة القادر ونفوذ الحاكم وعنت الجبار.

وخلافة ابن المعتز التي تقرأ وصفها في كتاب (يوم وليلة) كانت فتنة اندلعت ألسنتها بسرعة وسكت غضبها بسرعة، لكنها - رغم استحالة جمرها إلى رماد - أخافت كثيرين من التصدي لأخطارها لئلا يحترقوا بنارها، ولتجدن أكثر الذين عاشوا في هذه الفتنة وبلوا أخبارها قد أفضوا بذات أنفسهم إلى معاصريهم لكنهم أبوا أن بدونهم لمن بعدهم شيئاً مذكوراً يكشفون به مسدل الأستار، ويذيعون به خفي الأسرار؛ ولولا كلمات مبثوثة هما وهماك على ألسنة الوزراء والندماء والقواد والقضاة والتجار والسوقة لاندثرت معالم هذه القصة ولما استطاع الخيال أن يرتكز في وصف حوادثها إلا على أسطر قليلة لا تغني من الحق شيئاً.

وهنا تظهر مقدرة الكاتب بوضوح، فلقد عرض القصة عرضاً فنياً، وسبح في جوها سبحاً طويلاً. وقد خاف أن يأخذ عليه النقاد ابتعاده بالقصة عن وجهها الحقيقي فقيد نفسه بقيود كثيرة، وألزم قلمه ألا بنطق إلا فيما تدعو إليه حلقات القصة لتكون قوية التماسك وثيقة الإحكام. . . وأشهد أن الأستاذ كان موفقاً في ما حبس به نفسه وفي ما أطلقها فيه؛ بل إن في ما زاده من حوار بين الأشخاص أو تمهيدات بين يدي الأحداث لبراعةً نادرة تجعل القارئ يظن نفسه أمام قصة محبوكة الأطراف قد وثَّق الزمن ذاته عراها ولم يترك للخيال في نسجها يداً.

وإن كاتباً هذه مقدرته في خلق الحوادث خلقاً يوشك أن يكون طبيعياً حرى أن يخرج لنا كتباً كثيرة عن بعض أدبائنا الأقدمين وعلمائنا السالفين الذين لم يسعدنا طول البحث بالتعرف إلى آرائهم وتحليل نفسياتهم. وإن هذه لخدمة جلى يستطيع الكاتب وأمثاله ممن أوتوا موهبته أن يسدوها إلى عشاق العربية من أبناء هذا الجيل.

وما برحت موقناً بأن جمال العرض وقوة الأسلوب هما عامتا العمل الغني في حياتنا الأدبية؛ فبمقدار ما نُعنَى بهما تعلو قيمة إبحاثنا، وتستحق من الخلود.

وحين أذكر قوة الأسلوب ههنا لا يسعني إلى أن أهنئ الكاتب من صميم قلبي على تعبيره الرصين، وألفاظه الجزلة، وجمله المحكمة، وطول نفسه للاحتفاظ بوحدة الفكر. وتلك مزايا أدبية لا نكاد نجدها مجتمعة حتى في أساليب بعض المشهورين من كتابنا في مصر والشرق العربي؛ ومن خيل إليه أن في حكمي هذا شيئاً من المبالغة فليقرأ الكتاب بنفسه وليطالعني برأيه.

ولقد تأخذ على المؤلف بعض مآخذ فنية، فترى أنه أطال حواراً كان في مكنته اختصاره، أو أنه أوجز في فصل كان يستحسن فيه الأطناب، أو أنه أهتم بعض الشيء بأشخاص ليسوا من أملاذ الفتنة، أو بأحداث ليست في صميم القصة؛ لكن هذه المآخذ - لفتها وضآلتها - لا تغض من قيمة هذا الأثر الفني الرائع الذي ما أشك في أن صاحبه انفق عليه من الليالي الساهرة مثلماً كان ينفق الرسام الذي يبغي الخلود، أمام لوحة يريد أن يبهر بها الوجود.

وأنك لتستطيع أن تقرأ نظرة الكاتب إلى الحياة من خلال الأحاديث التي أنطلق بها أشخاص قصته، فلقد أشفق على أبن المعتز في ضعفه، ولقد شمت به في غروره، ثم عاد يترجم عليه بعد مماته. وحِكَم الكاتب التي زين بها كتابه بدت طبيعة في أحاديث الأشخاص إلا في مواضع قليلة ظهرت فيها مقمحة كأن صاحبها يتكلف الموعظة، ويصطنع أداء الحكمة.

ولكن. . . مهما يكن من شيء فهذا الكتاب الصغير الحجم عظيم الفائدة، حتى لا أظن متأدباً ولا أدبياً يستغني عن اقتنائه إذا كان يريد أن يعلم معظم ما يمكن أن يُعلَم عن خلافة ابن المعتز.

ولا بد لي - قبل أن أختم مقالي - من الإشارة إلى هفوة نحوية لم أقع على سواها في سائر الكتاب رغم إمعاني في قراءته: فقد قال الأستاذ في ص79 (وهرب بعضهم إلى دار ابن المعتز لعلو أمره، الأمونس الحاجب وخاصة رجاله وغريب خال المقتدر) وواضح أن هذا سهو أو سبق قلم، وإن الصواب أن يقال: ألا مؤنساً. . . وخاصةَ. . وغريباً. . لأن المستثنى بالا يجب نصبه إذا كان ما قبلها تاماً مثبتاً.

واغتنم هذه الفرصة لافتتح - صفحات الرسالة الزهراء - صداقة أدبية خالصة مع الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل مؤلف هذه القصة التاريخية، مهنئاً وزارة المعارف المصرية بمبعوثها الفاضل، راجياً من حضرته أن يسرع بإتحاف المكتبة العربية بكتابه الجديد (ابن المعتز أدبه وعلمه) الذي وعد بإصداره قريباً وفي انتظار كتابه الموعود لي كبير الأمل في إقبال قراء الرسالة على (يوم وليلة) ليعرفوا الأشخاص بالأدب، لا الأدب بالأشخاص.

(طرابلس الشام)

صبحي إبراهيم الصالح