مجلة الرسالة/العدد 844/جيوفاني بوكاشيو
مجلة الرسالة/العدد 844/جيوفاني بوكاشيو
للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي
1313 - 1375
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أن المقارنة بين الكتابين تدفعنا إلى المقارنة بين الفن الأدبي في اللغة اللاتينية وبينه في اللغة الإنجليزية. يقوم الفن في اللاتينية على التصميم في القصة وعلى رسم حوادثها وعدم الاهتمام بأشخاصها.
أما في اللغة الإنجليزية فيعتمد على الأشخاص وجعل الفن متصلاً بهم وموسوماً بما في نفوسهم وطبائعهم من خير أو شر وتعاسة ونعيم. وعلى هذا الأساس يجد القارىء ما يبعث السأم في نفسه وهو يقرأ قصص كانتبارى، ولكن أشخاصها يبعثون في سأمه ما فيهم من حياة وحركة. أما في قصص دى كامرون، فإن القصص رائعة والأشخاص أموات لا يتحركون. فالأشخاص في دى كارمون غير مسؤولين مطلقاً عما يدور على ألسنتهم من حوار وقصص قد لا يتفق في كثير أو قليل مع احتشام الفتاة التي تقصها، حينما تتصل المعاني بالأدب الجنسي المكشوف الذي ضرب بوكاشيو بسهم وآفر. وليس في استطاعة وليس في استطاعة الناقد إلا أن يسقط هذه الشخصيات من اعتباراتها الشكلية التي وضعت مرغمة فيها وعلى وجهها أقنعة مستعارة لا تتصل بها ولا تمثلها. . . وناقل الكفر ليس بكافر، إذا أراد أن ينصفها ويدلل على مكانها من الحقيقة. . .
لكن هذه الشخصيات في بعض أحاديثها خارج القصص تصور لنا المناظر الجميلة حول فلورنسا، والقصور المترفة، والمروج التي تجري فيها الأنهار تصويراً رائعا. . .
لم تقع حوادث القصص المائة في مكان واحد، وإنما وقعت في ثلاثة أماكن: أولهما يبعد ميلين عن فلورنسا، وهو قصر باذخ تقوم على أطرافه حدائق غناء، وسواقي جارية، وحقول خضر، وتلال مغطاة بأشجار الفاكهة، وموقعه الآن على مقربة من قرية ستجنانو التي تصلها طريقة ضيقة تبعد ميلين عن ضاحية بورنالا كروز، وكان هذا القصر يقع في مزرعة تدعى بوجيوجراردو وهي حصة مارجريتا زوجة أبيه من إرثها من أسرتها.
في نهاية اليوم الثاني بعد أن تم اختيار نيفيل ملكة لليوم الثالث اقترحت عليهم أن يزوروا مكاناً جديداً بالغت في مدحه، وهو قصر فخم على سفوح تلال الفيزول ويسمى فيلا بالميرى. . .
وفي مساء اليوم السادس، وكان يوماً من أيام الربيع، وبعد الانتهاء من القصص، وكانت قصيرة، وبينما كان الرجال الثلاثة منهمكين في لعبة النرد، أشارت أليسا من طرف خفي إلى صواحبها الست، فتجمعن واقترحت عليهن الذهاب إلى مكان جميل جداً يدعى لافلا ويلدون. وبعد مسيرة ميل واحد وصلن إلى مجرى يسيل منه ماء عذب رقراق كالبور، وكان السهل الذي يجري فيه ذلك المجرى عبارة عن دائرة قطرها نصف ميل تحيط بها ستة تلال وينبع من بين تلين، ويكون في طرف السهل بركة لا يزيد عمقها عن بضعة أقدام وقد أغراهن صمت المكان والماء فنزعهن ملابسهن وابتدأن في الاستحمام، ولا تزال هذه البقعة تدعى بالاسم نفسه حتى الآن. . .
ونعود الآن إلى القصص نفسها فنرى أنها تعود في أصولها إلى المصرين القدامى والعرب والفرس والفرنسيين. ومن المحقق أن بوكاشيو لم يعرف مصادرها، وإنما سمعها في نابولي وأنحاء إيطاليا، ولعل ثلثها يعود في أصوله إلى المصادر الفرنسية وقسما إلى الهنود والفرس، والقليل إلى المصادر اللاتينية. إننا نستطيع توجيه التهمة نفسها إلى شكسبير وتشوسر ونتهمهما بالنقل وعدم الإبداع. ولكننا حين نوجه التهمة نفسها إلى بوكاشيو نقول واثقين إنه لم يعرف تلك الصادر، وإنما رأى فيها عملا إبداعياً أصيلاً. . .
إنه كتاب يتصل بالناس كما تتصل بهم الحياة، يتصل بهم في الجد واللهو، في الفضيلة والرذيلة، في الشر والخير، في التهكم والمجون، وهو إلى جانب ذلك مفعم بالمجازفات والمآسي والأفراح والنهايات التي يلعب الحظ فيها دوراً كبيراً، وهو في تفصيله مجموعات من الحقائق الصحيحة أضفت عليها عين الفنان اليقظة ثوباً قشيباً تراءت فيه أعمال الناس وعاداتهم وطبائعهم في ذلك العصر واضحة جلية. . . أنه البؤرة التي انعكست عليها الحياة بكل ما فيها من مظاهر. . . فهو كتاب قريب إلى الإنسانية أكثر من أي كتاب آخر لدانتى أو تبرارك، حتى قصص شوسر، فإن الإنسانية فيها غير كاملة حينما تتصل بالحب وما يدور وراء النفس الإنسانية من شعور مكبوت. . .
وتتسم هذه القصص بتنوع صور الحياة التي عبرت عنها، فهي تكشف لنا القناع عن عدد من المتهورين المجازفين، وعن الحياة الخاصة التي يحياها وراء الستار عدد آخر من الناس تعرفهم على حقيقتهم المعرفة الصحيحة، وهذا هو فن بوكاشيو، لأن هذه القصص لم تكن عملا إبداعياً ولا دراسة للأخلاق، وإنما هي قصص تختلف في طولها وقصرها باختلاف الموضوع الذي تتصل به عن مجازفات، أو حب غير مشروع، أو راهب، أو امرأة؛ إما للتسلية أو إثارة الضحك وإشاعة السرور، أو جواب مختصر لتوبيخ شخص، أو لدفع خطر جسيم. ومهما كان نوع هذه القصص، على روعتها وشهرتها فإنها ليست الدافع الوحيد الذي يدفع المولعين بديكامرون إلى قراءتها المرة بعد الأخرى في رغبة وسرور.
إن سر خلود هذا الكتاب هو الجماهير الحية التي تتحرك فيه. هنالك شخصيات أخرجتها فنه فيه حية وبقيت كذلك وستبقى إلى يوم يبعثون تثير في قرائها الدهشة الإعجاب إثارة لا تقل عما تفعله شخصيات شكسبير الخالدة فينا. . . لقد عاشت للأبد لأن الفن الخالد حملها إلى عالم الخلود. . .
أنه صورة مصغرة للدنيا، ومرآة انعكست عليها حياة الناس في ذلك الزمن، إلا أن المثالية والهدف السامي يرفع الأعين إلى النور، ة ويجعل للعمل الفني قيمته التي لا ينكرها أحد، لا توجدان فيه.
أما الأدب المكشوف والتعابير الجنسية الساخرة التي تفيض بها القصص فمرده إلى الأصول الفرنسية التي نقل عنها وهذبها كثيراً. . . ومن المحقق أن التعبير عن الأدب الجنسي المكشوف في ذلك الوقت، كما هو الآن غير مألوف ولا مستساغ. . . لكن بوكاشيو جعل منه فناً أبدع فيه أيما إبداع، وأخرجه من مكانه المستور من حياة الأفراد والجماعات ورجال الدين إلى الحياة اليومية وجعله ملموساً مألوفاً يتحدث عنه متهكما كأنه يتحدث عن شئ لا يتعارض مع قيم المجتمع الروحية والخلقية.
إن كل ما في الكتاب مبالغ فيه، وخصوماً الموضوع الجنسي الذي أسرف فيه إسرافاً عظيماً، فصور الشبان والشابات غارقين في الإثم والفجور والخلاعة إلى أبعد الحدود، وصور الزوجة تلهو ما شاء لها اللهو والزوج غير مكترث بما يدور حوله، وصور رجال الدين لا يعلمون شيئاً عدا الانقياد للشهوات والسير وراء مطالب الجسد. . . يصور كل ذلك في تهكم لاذع وقسوة متناهية. . .!
والدافع الأساسي الخفي الذي دفعه إلى ذلك - كما اعتقد - هو طفولته الأولى، فعند ما فتح عينيه في الحياة ووجد أنه بن غير شرعي لأبيه. . . وحينما فهم ما يدور حوله من حقائق، وأدرك قيود الكنيسة والمجتمع، وإنه غير مسؤول عن خطأ أبيه، جرد القلم لينتقم لأمه جان، فجعل نساء عصره ساقطات، وتلفت إلى رجال الدين فتأثر منهم بما يضطرم في قلبه من ألم وحقد وحرمان.
وعلى هذا الأساس، لا يجمل بنا أن نحكم على نساء عصره بالحكم الجائر الذي أصدره عليهن في قصصه، ولا يصح كذلك أن نتصور رجال الدين من الرهبان والقاسية غارقين في الفجور كما أرادهم أن يكونوا، ومع ذلك فلا يعني أننا ننفي نفياً باتاً عن المجتمع في عصره بعض الصور المخجلة التي صور فيها الرهبان والنساء. . . لقد كان فناناً لا يشق له غبار في (الكوميديا)، وتربة صالحة من هذا النوع تنمو فيها بذور التهكم والمجون والعبث.
ويجدر بنا أن نشك كثيراً في صحة هذه القصص. إن الرذائل تثير عادة ضجة أكثر من الفضائل، ورجال الدين في القرن الرابع عشر في إيطاليا كانوا يمدون أنحاء الكرة الأرضية بالمبشرين الذين تلهبهم الحماسة والعقيدة لنشر دينهم بين الشعوب، وإيطالياً نفسها كانت المكان الوحيد الذي اشتهر بالقديسين، فلا يعقل - والحالة هذه - أن يسوء يلوك رجال الدين إلى هذا الحد دون أن يكون له رد فعل سيئ على الكنيسة في إيطاليا وخارجها. ولكن هذا لا يمنع من وجود طبقة غير نقية السمعة اختلطت برجال الدين فشوهت سمعتها لأنه لم يسبق لأحد أن يشك في أخلاق الناس في القرن الثالث عشر بسبب جحيم دانتي، وتماشياً مع ذلك، لا يجوز أن نحكم على أخلاق الناس في القرن الرابع عشر بسبب قصص ديكامرون.
إن هذا الكتاب والكوميديا الإلهية يعبران تعبيراً صادقاً بحكم ما فيهما من قوة وحيوية ونشاط عن العصر الذي ولدا فيه، وعلى ما كان عليه ذلك العصر من حركة ووعي.
إن انتشار دي كامرون وحماس الناس له، لم يحولا دون النقد الشديد الذي وجه إليه في ذلك الزمان، ونجد دليلا على ذلك في مقدمة اليوم الرابع وفي نهاية الكتاب. لقد قاومته الكنيسة مقاومة عنيفة، لكن سلطانه غلب سلطانها، فكان ينتشر في أوربا وإنجلترا، كما تنتشر النار في الهشيم. ويعتبر في نظر النقد أعظم أثر نثري كتب في اللسان التسكاني، وأسلوبه غاية في الجمال وغاية في التعقيد. . . ولكن من يستطيع أن يهاجمه؟ لقد مكن لنفسه في عصور التاريخ في نفوس البشر، لأنه صرخة مدوية من أعماق الإنسانية على ممر العصور!
إن مخطوطات الكتاب الأصلية قد نفذت، وإن أقدم مخطوطاته تلك التي كتبها فرنسسكو مانيلي في سنة 1368. والنسخة الخطية المحفوظة في برلين باسم هملتن هي المعتمد عليها.
لقد أعيد طبع هذا الكتاب عشر مرات في القرن الخامس عشر وسبعة وسبعين طبعة في القرن في القرن السادس عشر، ولم ينشأ أديب في إيطاليا إلا وتتلمذ على هذا الكتاب في عصور أدب هذه اللغة. . .
أما نصيبه من الذيوع خارج إيطاليا فكان عظيماً جداً، فقد تتلمذ عليه موليير ولافونتين وهانس ساكس ولوب دي فيجا. أما في إنجلترا، فقد نقل عنه كثير من الأدباء والشعراء، وكان الموحى الذي استوحوا منه أدبهم الخالد، منهم تشوسر وسدني وشكسبير ودريدن وكيتس وتتسون، الأمر الذي يظهر مقدار ما تدين به إنجلترا لبوكاشيو!
إن أدب اللغة الإنكليزية لا يعرف كتاباً نثرياً أصيلا، ويرجع ذلك إلى أن التوراة قد أصبحت جزءاً من الأدب المنثور في هذه اللغة، ولكن (إشام) يقول: (إن كثيراً من قصص ديكامرون كانت تنتشر بين الناس أكثر من قصص التوراة نفسها).
لقد ظهرت كثير من قصص ديكامرون مترجمة إلى الإنجليزية في القرن السادس عشر. وفي عام 1620 ظهرت الترجمة الكاملة لهذا الكتاب منقولة عن اللغة الفرنسية ترجمة أنطيون لاماكون، لكنها لم تكن دقيقة كما يجب، وقد قام الناشر إسحاق جكارد بطبع هذه الترجمة في مجلدين، ولم تكن تحمل اسم المترجم، وأعيد طبع هذه الترجمة خمس مرات في القرن السابع عشر.
ولم تظهر الترجمة الدقيقة الوافية لهذا الكتاب إلا عام 1886، فقد نقلها المستر جون بن لجمعية فلون.
أما الترجمة التي تتداولها الأيدي وانتشرت في الأسواق، فقد قام بها المستر (ج. م. رج)، وهي دقيقة، ولعلها أقرب الترجمات إلى روح هذا الكتاب القيم.
(بغداد)
ماهرة النقشبندي