انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 84/بين القاهرة وطوس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 84/بين القاهرة وطوس

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1935


10 - بين القاهرة وطوس

طهران الى قم واصبهان

للدكتور عبد الوهاب عزام

أوى الركب الى الفندق متعباً، وجمعتُ التعب والمرض، وكان وزير المعارف والعلامة بديع الزمان قد كلماني والأستاذ العبادي في إلقاء محاضرة في مدرسة سبهسلار بعد الإياب من مشهد، فعدنا الى طهران وإذا رقاع الدعوة قد أرسلت، وإذا الجرائد تخبر بأني سألقي محاضرة في مدرسة سبسهلار والساعة ست من يوم الخميس. فأصبحت في شغل من هذا الأمر أجهد للوفاء بالوعد، فإذا جسم علل وصوت مبحوح، فكلمت الأستاذ بديع الزمان معتذراً، فجاء الى الفندق هو ورئيس المدرسة وطلبا من الأستاذ العبادي أن يقول كلمة، فوعدهما، ووعدتهما أن أكون طوع أمرهما إن رزقت العافية، وإلا أرسلت كلمة تقرأ على الحاضرين فلما دنا الموعد أجاب الأستاذ العبادي الدعوة، وأرسلت كلمتي مع السيد صالح الشهرستاني مكاتب البلاغ في طهران، فقرأها على الجمع، وكان موضوعها موقف المسلمين من مدينة أوربا، وما يلزمهم من الاستمساك بسنتهم، وأخذ الحذر أن يفتتنوا فيقلدوا فيضلوا. وتكلم الأستاذ العبادي في العلائق التاريخية بين مصر وإيران، وقد قرأت في الجرائد الإيرانية بعد العودة الى مصر وصف الاحتفال وترجمة الكلمتين، وخطبة الأستاذ بديع الزمان في مكانة اللغة العربية بين الفرس. وقد نشرت جريدة البلاغ الخطب الثلاث، كما نشرت بياناً وافياً عن حفلات الفردوسي كلها

وكان في خطة وفود الفردوسي الذهاب الى أطلال مدينة الري وهي على مقربة من طهران، فتخلفت مكرها أسفاً، ويوم الجمعةُ جلنا في المدينة، فاشترينا من الكتب والاسطوانات (والإيرانيون يسمونها الصفحات. وهي تسمية أقرب الى الحقيقة واللغة) وزرنا المفوضية المصرية مودعين ثم خرجنا الى دار على أصغر خان المعروف في طهران باسم المصري، وهو أخو حسن بك اليزدي التاجر الكبير بالقاهرة، وكان يحتفل بختان أنجاله، فجلسنا في جماعة من الفضلاء، واستمعنا للمرة الثانية الى غناء المطربة ملوك خانم، واقترحت أن تسمعنا الأغنية المطربة: (مرغ سحر ناله سركن) لنودع طهران على هذه النغمات الحزينة، ثم تحدثت المغنية، فإذا هي تعرف أم كلثوم ومحمد عبد وتدلي برأيها بينهما، فقلنا هذا كلام ملوك. قالت نعم. وكلام الملوك ملوك الكلام. فانظر كيف يعني الإيرانيون نساء ورجالاً باللغة العربية عناية آبائهم من قبل. ثم استأذنا في القيام لنأخذ أهبتنا للسفر الباكر صباح الغد

برحنا طهران والساعة عشر من صباح السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر) أنا والأستاذ العبادي في سيارة مفردة، وهو أول سفر لنا في إيران منفصلين عن وفود الفردوسي؛ سافر جماعة من طريق الشمال، وآخرون طريق بغداد أدراجهم، وجماعة آثروا المقام في طهران يوماً أو يومين، وكانت نيتنا اصبهان، وبينها وبين طهران تسع ساعات بالسيارة، وقد تقدمنا بمدة يسيرة الشاعر الإنكليزي درينك ووتر

وقفنا بعد أربعين دقيقة على قرية، فرُئيت جوازات السفر، وكذلك طُلبت الجوازات في كل مدينة مررنا بها، حين ندخلها وحين نخرج منها حتى رجعنا إلى همذان على طريقنا الأولى من بغداد إلى طهران. وذلك أن هذه الطريق كانت طريق الوفود في ذهابهم وإيابهم فيُسر لهم السير وأعفوا من مراسم السفر في إيران

وبعد الظهر بقليل نزلنا في محطة على الطريق اسمها منظرية فدخلنا بستاناً فيه أشجار رمان فأكلنا واسترحنا ساعة، ثم سرنا حتى بلغنا مدينة قم والساعة اثنتان وثلث. فدخلنا ونحن نذكر قصة الصاحب بن عباد وقاضي قم. كتب إليه الصاحب

أيها القاضي بقم ... قد عزلناك فقم

فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزول السجع من غير جُرم ولا سبب

قم مدينة في العراق العجمي على الجادة بين طهرن واصبهان وعلى 120 كيلاً إلى الجنوب الغربي من طهران. يشقها نهر يأتي من جُرباذقان قرب همذان. وفاكهتها كثيرة منها الرمان والتين والبطيخ والفستق

قال يا قوت: (وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم بها، وأول من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري) وذلك في عهد الحجاج بن يوسف. والظاهر أنها قديمة كانت قبل الإسلام، ثم عمرت في الإسلام ومصرت

وقد قال دعبل بن علي فيها

تلاشى أهل قم واضمحلوا ... تحل المخزيات بحيث حلوا وكانوا شيدوا في الفقر مجداً ... فلما جاءت الأموال ملوا

ظلت بقم مطيتي يعتادها ... همان: غربتها وبعد المدلجَ

ما بين علج قد تعرب فانتمى ... أو بين آخر معرب مستعلج

وأهلها عرفوا بالتشدد في التشيع قبل أن يعم التشيع إيران؛ وقد روى ياقوت في ذلك حكاية ظريفة قال:

(ومن ظريف ما يحكى أنه ولّيَ عليهم وال، وكان سنياً متشدداً، فبلغه عنهم أنهم لبغضهم الصحابة الكرام لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر قط ولا عمر. فجمعهم يوماً وقال لرؤسائهم: بلغني أنكم تبغضون صحابة رسول الله وإنكم لبغضكم إياهم لا تسمون أولادكم بأسمائهم. وأنا أقسم بالله العظيم لئن لم تجيئوني برجل منكم اسمه أبو بكر أو عمر، ويثبت عندي أنه اسمه لافعلن بكم ولأصنعن. فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتشوا مدينتهم واجتهدوا فلم يروا إلا رجلاً صعلوكاً حافياً عارياً أحول، أقبح خلق الله منظراً، اسمه أبو بكر لأن أباه كان غريباً استوطنها فسماه بذلك، فجاءوا به فشتمهم وقال: جئتموني بأقبح خلق الله تتنادرون علي وأمر بصفعهم: فقال له بعض ظرفائهم: أيها الأمير اصنع ما شئت فان هواء قم لا يجيء منه من اسمه أبو بكر أحسن صورة من هذا. فغلبه الضحك وعفا عنهم.)

وقم تلي المشهد الرضوي بين مزارات الشيعة في إيران، بها حرم السيدة فاطمة بنت موسى الكاظم وأخت علي الرضا، ولذلك دفن فيها كثير من العلماء والصالحين والملوك. وقد روي الشيعة فيها عن جعفر الصادق: ألا إن الله حرماً وهو مكة. ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة. ألا إن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي من بعدي قم. ألا إن قم الكوفة الصغيرة. ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم (تقضي فيها امرأة هي من ولدي واسمها فاطمة بنت موسى. ويدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم) اهـ

لما اقتربنا من المدينة رأينا قبة المعصومة أخت الرضا تبص في الهواء في حلتها الذهبية. ولما دخلنا المدينة على مخفر الشرطة فرأوا جوازات السفر. وقال سائق السيارة لشرطي، هذان من المستشرقين يريدان زيارة الحرم فاصحبهما. فسار الشرطي أمامنا في رحبة تملؤها أنقاض دور مهدمة، وبصرنا بنهر صغير سريع الجرية. قال الشرطي: طغا الماء على المدينة منذ أشهر فخرب مئات من دورها. ثم عبرنا الماء على خشبات ممدودة عليه فرأينا ماء ضحضاحاً يخوض فيه الناس والدواب. وسرنا في شارع به دكاكين وفنادق صغيرة، فانتهينا إلى باب المسجد.

رأينا صحناً رحباً ينتهي إلى بناء عال مقبب. ولقينا شيخ فتقدمنا فدخلنا إلى مرقد السيدة فاطمة، وهو ضريح كبير عليه سياج من الفضة كثير الحلي. فوقف الشيخ يدعو بالعربية دعاء طويلاً ذكر فيه الأئمة العلويين. ثم ملنا ذات اليسار إلى حجرة بها قبر كبير مربع لا سياج له ولا زينة، قال هذا قبر الشاه عباس، ثم ولجنا باباً إلى حجرة أخرى بها قبران أحدهما للشاه حسن آخر الصفويين، والآخر للشاه طهماسب، فيما أذكر، فهؤلاء ثلاثة من الملوك الصفويين دفنوا في جوار المعصومة. ثم خرجنا إلى الصحن فرأينا حجرات فيها قبور لملوك القاجاريين وبنيهم. رأينا فيها قبر محمد قارجار وفتحعلي شاه وعليهما صفيحتان من المرمر الشفاف عليهما صور ملائكة ذات أجنحة، وعلى قبر فتحعلي صورته منحوتة في المرمر. وقد رأينا من قبل في النجف الأشرف في مسجد الإمام على قبرا آخر للقاجاريين على هذه الشاكلة.

ولست أعرف في القبور الإسلامية قبوراً عليها صور غير هذه القبور. وسرنا الى يسار الداخل إلى الصحن فإذا باب يفضي الى صحن آخر فسيح: وهذا المسجد معهد للدراسة الدينية يقيم به الطلاب.

قال الشرطي وهو يحدثنا: في قم أربعة وأربعون وأربعمائة وأربعة آلاف من بني الأئمة الطاهرين قتلهم الظالمون

ركبنا السيارة والساعة ثلاث وعشر نسير صوب الجنوب نؤم أصبهان

وفي المقال الآتي حديث اصفهان الرائعة الجميلة

(يتبع) عبد الوهاب عزام

استدراك

1 - نسيت أن أذكر في حديثي عن مدينة المشهد أني زرت فيها الشيخ الكبير بهاء الدين العاملي الهمداني أحد أعلام المسلمين في القرن الحادي عشر وصاحب المؤلفات الكثيرة في التفسير وألف بها كتاب الكشكول وقال فيها:

يا مصر سقيالك من جنة ... قطوفها يانعة دانية

ترابها كالتبر في لطفه ... وماؤها كالفضة الصافية الخ

توفي بأصفهان سنة إحدى وثلاثين وألف، ونقل إلى المشهد فدفن بها في داره. وقبره اليوم في حجرة في السوق قريبة من أحد أبواب مسجد الإمام الرضا

2 - كان طبيب قافلتنا في الذهاب من طهران إلى المشهد والأياب، الطبيب الحاذق نجم آبادي، وقد عني بي وبغيري ممن توعكوا في السفر. فكان حقاً على أن أذكره بالثناء، وقد جاء إلي ونحن بنيسابور عند قبر الخيام فقال أكتب لي في دفتري تذكاراً. فكتبت:

قد عراني على الطريق سقام ... ولنعم الطبيب نجم آبادي

قد نعمنا بخلقه ودواء ... وشكرنا له جميل الأيادي

عزام