انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 836/صور من الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 836/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 07 - 1949



رجُلٌ!. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا رجل! لست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.

عرفتك يا صاحبي - أول مرة - فتى في مقبل العمر وزهرة الشباب تتأنق في لباسك وتتألق في زينتك حسن الهيئة والشارة يتضوع العطر من جوانبك وتفوح رائحة الأنوثة من أعطافك، فأنت متكسر الرجولة لين العود فاتر الهمة، وعجبت - أول ما عجبت - أن أراك في زي ذوي الثراء والغنى وأنت موظف حكومة لم يبلغ راتبك إلا تسعة جنيهات، وأن تبذل في بذخ وإسراف وأنت لا تملك شيئاً غير راتبك، وإن الموظف - وإن علت درجته - ليعاني الجدب والإمحال من شدة الغلاء ويقاسي الضيق والعنت من قلة الدخل، فهو يأكل التافه بقدر ويلبس الخلق البالي، ويحمل نفسه على شظف العيش ويصبر على بؤس الحياة. وراعني أن أرى زملاءك في المكتب يقابلونك في ابتسامة ساخرة وأفزعني أن أجد أترابك في الديوان يتهامسون فتطوف همساتهم حولك بسوء، فجلست إلى زميل لك استشف خبرك وأستجلي قصتك، فقال:

هو فتى - كما ترى - واهي الرجولة صغرت نفسه من الشهامة، يتهاوى ضعفاً وأنوثة، فهو بيننا أحدوثة قذرة تمجها الألسن وتعانقها الأنفس، وهو يحس منا فنوناً من الازدراء ويلمس ألوناً من الاحتقار، ولكنه لا يرعوي ولا يرتدع كأنما استمرأ حياة الذلة والضعة حين جعل المالمنتهى غايته.

قلت: وماذا يضير المرء إن جعل المال بعض همه لينفذ منه إلى متعة نفسه وسعادة قلبه وهدوء باله.

قال: ولكنه يتخذ إلى المال سبيلاً معوجاً يتنافى مع الكرامة والشرف. . . أما قصة الفتى فهي:

عشت أنا وهو حيناً من الزمان زميلين يربطنا عنت العمل وقسوة الرئيس وتضمنا أ الأخوة ونزوات الشباب، فكنت أقضي إلى جانبه ساعات الفراغ ننشق معاً أريج الحياة وهي تتفتح لنا رويداًرويداً، ونبسم للصبا وهو يرف علينا رفيفاً حلواً، ونستمتع بالعافية وهي تنشر علينا جناحاً رفيقاً، ونسعد بالهدوء وهو غاية قصدنا. لا يبهرنا زيف المدينة وهو فوق طاقنا، ولا يسحرنا بهرج الحياة وإنا لنحس ضيق اليد، ولا نندفع إلى شهوة وإنا لنشعر بالحياء والخجل. وغبرنا زماناً نجد اللذة والسعادة في حيات الهدوء والاستقامة. ثم جاءت الحرب فصفعت الموظف صفعة قوية طار لهالبه وزلزلزت كيانه وشغلته شدة الحياة عن نفسه وأن لي أخوة صغاراً أحمل ثقلهم فأكاد أنوء به في الرخاء فما بالي وقد ضربني الغلاء وعركتني الفاقة، فعشت دهراً لا ألقي صديقي إلا في الديوان ولا أجلس إليه إلا في المكتب، وصمت هو فلا يحدثني بأمر ولا يكشف لي عن حادثه. ثم جاء ذات صباح ثائراً ضيق النفس مضطرب الخاطر. وأرادني على أن أجلس إليه في خلوة ليقص لي قصة أخته، وهي فتاة في العشرين من سني حياتها تتنزى شباباً وتتوثب جمالاً، وأن دلالها ليعصف باللب ويخلب الفؤاد، وأنها لتتأرج بهاءً وإشراقاً، تشع من عينيها معاني الأنوثة والجاذبية وتنفث ابتسامتها في القلب هزات الكهرباء. . .

آه، يا صاحبي، لقد كنت أخشى نظراتها الجذابة وأغضى عن بسماتها العاصفة وأغمض عن أنوثتها العنيفة خيفة أن ينفرط فؤادي أو أن ينقد قلبي على حين أن نفسي كانت تنازعني إليها، ولكني لا أستطيع أن أنفض على عيني أخيها خلجات قلبي، فما كمان لي أن اصبح زوجاً وبين يدي أخوة أخاف أن يستشعروا - بفقدي - اليتم والضياع. فكنت أنصرف من لدن زميلي وقد شاع الأسى في أوصالي وأفعمني الحزن وسيطر علي الضجر، ولكن لا سبيل. . وعاشت الفتاة إلى جانب أخيها الموظف عيش الكفاف والشرف، ثم أقبلت الحرب والغلاء معاً فأحست بأنوثتها وهي تتكامل رويداً رويداً ولكن الضيق يوشك أن يعصف بها، وشعرت بجمالها الوضاء يشرق حيناً بعد حين غير أن الفاقة تحاول أن تستله منها، وعز عليها أن تنطفئ فيها شعلة الشباب والدلال من أثر الحاجة والفقر فراحت تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية منحطة، فتعرفت على فتى ثري من أبناء الذوات. وأبناء الذوات فئة من الناس أتلفهم الثراء وأبلاهم التعطل فغدو زبداً لا ينفع الناس وعاشوا عيالأ على الجماعة، لا يقيمونة وزناً لمقاييس الأخلاق السيامية من خور التربية، ولا يتمسكون بالشرف من انفراط عقد الأسرة ولا يؤمنون بالعفة من اثر الاستهتار والتبذل، وهم داء الامة العضال وعظامها النخرة.

وترامى إلى زميلي أن أخته قد حادت عن الطريق المستقيم وأشكت أن ترتدغ في هاوية مالها من قرار فأخذ يتأثر خطاها ويضيق عليها السبل0

ولكن الفتاة كانت ذات مكر ودهاء فسلكت إلى قلب أخيها مسلك براقة فغمرته بالطيب من الطعام والغالي من الثياب وحبته بسبل من الهدايا ما ينضب معينه، فوهي ما اشتد من قوته وانحلت عقدت عزيمته فأغضى عن زلاتها وأرخى لها العنان، فاندفعت الطائشة لا تلوى على شيء، وعاش هو لا يهمه إلا أن يبدو في زي الثراء والغنى، لا يشغله إلا أن يبذل في بذخ وإسراف. . . ثم تاقت نفس صاحبنا إلى أن يكون زوجاً ورب أسرة فجلس إلى أخته يكشف لها عن ذات نفسه فما صرفته عن رأيه ولا ردته عن غايته، ثم راحت تمهد له السبيل من مالها وهي تذكره - في لباقة - بأنه موظف حكومة يجب ألا ينسى أن راتبه لم يبلغ بعد إلا تسعة جنيهات.

وانطوت الأيام فإذا الفتى زوج لفتاة جميلة آسرة رغم أنها من أسرة رقيقة الحال تقنع بالتافه وتجتزئ بالضئيل لا ترنو إلى المال ولا تطمع في الترف. ولقد راع الزوجة أن ترى بيت زوجها يموج بالطنافس والصور ويفهق بالأثاث والزغرف، ولكنها عاشت إلى جانب زوجها سعيدة تنظر إلى ما حولها ولا تتكلم وترى ولا تتحدث وخشيت أن تكون ضحية حماقتها أن هي ثرثرت بكلمات تؤذي زوجها أو تنال من كرامة أخته، وخُيل إليها أن زوجها في عمى عن نزوات أخته فانضمت على أذى في نفسها ووقفت على حيد الطريق في صمت وضيق، ومرت أيام وأيام.

وأرادت الفتاة أن توسوس لزوج أخيها بأمر لتجتذبها من وحدتها فجلست إليها تحدثها قائلة (أريت ما أفعل؟) قالت الزوجة (وماذا تفعلين، يا أختي) قالت (أرأيت الشاب الذي يطوف بسيارته حول دارنا فلا يقر له قرار إلا أن أرافقه فأملأ فراغ وقته وفراغ قلبه في وقت معاً) فقالت الزوجة (ما رأيت شيئاً) فقالت الفتاة في إصرار وصراحة (لا تنكري، لقد سمعت ورأيت، ولا عليك فنحن الآن في خلوة لا يسمعني أحد ولا يرى) فأجابت الزوجة (نعم، لقد رأيت وسمعت، ولكن مالي أنا ولذلك الشاب) قالت الفتاة (أن له لأخاً في مثل شبابه ورونقه وثرائه، وهو يطمع في أن تكوني شغل فراغه وشغل قلبه) فأجابت الزوجة في ذعر (أنا؟ لا، لن أكون شيئاً من ذلك! فقالت) الفتاة (لا بد أن تكوني، لعلك من الحمق والغباء بحيث تطمعين في أن أبذل من نفسي لأوفر لك السعادة والهناء!) فأجابت الزوجة في غيض (إنني أجد السعادة إلى جانب زوجي فأقنع بإخلاصه وأقنع براتبه الضئيل) وثارت الفتاة في وجه الزوجة قائلة (إذن لا معدى لك عن أحد آمرين: إما أن تكوني كما أريد وإما أن تبرحي هذه الدار حالاً) فصاحت الزوجة (وزوجي. . وزوجي. .!) فقالت الفتاة (لا زوج لك هنا. . . أنا هن صاحبة الدار وصاحبة الرأي وصاحبة الأمر).

وران الأسى على قلب الزوجة لما سمعت فقضت ليلتها تتململ في فراشها لم يغمض لها جفن ولا قر لها قرار، وإن الخواطر السود لتضطرب في خيالها فتفزعها عن هدوئها وراحتها، وإن الخوف ليسد أمامها الطريق فهي تخشى لأن تزل قدمها فتفقد كرامتها وشرفها وتخشى أن تبوح لزوجها بما سمعت من أخته فيرميها بالفتنة والنميمة، فكتمت أتراحها لا تبدي عن شيء منها.

وآدها أن تصبر على حديث الفتاة وهي تلاحقها تريد أن تدفعها إلى الجريمة، فانطلقت - بعد لأي - إلى زوجها تنفض أمامه جملة الخبر فما أحست فيه الإباء ولا الترفع ولكنه انطوى عنها وعلى شفتيه ابتسامة. . ابتسامة الذئب يوشك أن يغرر بالفريسة، فعاودها الأسى والضيق وتراءت أمامها فوهة الرذيلة تنفرج في غير رحمة ولا شفقة تكاد تبتلعها فأصابها الذعر والخوف، فطارت إلى أمها العجوز الفقيرة علها تجد هنا متنفساً0 وترفعت الأم العجوز الفقيرة عن أن تبيع شرف ابنتها الطاهرة بثمن بخس دراهم معدودة، وأخذتها العزة بالإثم فآثرت أن تبيت ابنتها على الطوى تقاسي المخمصة والشعب على أن ينثلم شرفها أو تنخدش كرامتها.

أما أنت يا رجل، فلست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء وإلا أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.

كامل محمود حبيب