انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 835/فلسفة طاغور الأخلاقية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 835/فلسفة طاغور الأخلاقية:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



حقيقة الموت لا تبعث على التشاؤم

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

إن خوف الهند التقليدي من المرض والشيخوخة والموت خوف قديم قدم حضاراتها الأولى، إذ كانت الهند منذ أن عرفها التاريخ موطن الأمراض المعدية المهلكة التي تحصد الناس حصداً، ومرتعاً خصيبا للأوبئة الفتاكة التي كانت تجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتنزل بأهلها السقام

فأشاع أنين المرض الفزع في النفوس، وعدت الأوبئة من تلك الأحداث الفاجعة التي تحض على كراهية الحياة، وتحث على الهرب منها. ولم يكن للشيخ مكانة محترمة في هيئة اجتماعية مزحومة بالسكان، لعجزه عن القيام بمطالب الحياة الضرورية، واعتماده على غيره في كل شيء. بينما الموت الذي لا يعبر إلا عن نهاية الحياة، كان أشد الأحداث الإنسانية وقعا في نفوس الهنود الذين أفقدهم الموت الأمل في جدوى العيش في كنف عالم لن يفلت فيه أحد من شر المنية.

ولقد كان لهذه الوقائع الثلاث أثر ملحوظ في الحياة الهندية الروحية لوَّنها بلون قاتم نشر فيها التشاؤم، وبغض الهنود في الاندماج في الحياة العامة، وأصبح مثلهم الأعلى هو تجنب كل ما يتعلق بالدنيا من أمور عارضة، لأنها تجلب الآلام؛ والانغماس فيها لا يثير إلا القلق والخوف والشك. فاستطاب الهنود اعتزال المجتمعات حتى لا يتعرضوا لأي نوع من الأذى يملأ قلوبهم بالأسى والشجن.

وما هجر بوذا قصر أبيه الملكي إلا بدافع من الفزع من الموت والشيخوخة والمرض، وما تخلى عن حياة الترف إلا ليدفع عن نفسه عذاب الدنيا الذي تمثل له في هذه الأحداث الأليمة التي صبغت تفكيره بصبغة سوداء، وشكلت وجدانه في قالب حالك، فرأى العالم غارقاً في الآلام، واعتقد أن الحياة سلسلة لا تنتهي من الأحزان لن يخرج من دائرتها أحد ما لم يعتزلها، ويرضى بعيشة الزهاد.

أما طاغور فلم يجزع من الحياة جزع بوذا، ولم يطرأ على باله أن ينسحب منها، ويأوي إلى زاوية تائبة يعتزل فيها الناس، ويعيش في كهف أو غار عيشة الرهبان؛ بل رأى أن الخلق انطلق من السرور اللانهائي حينما غمر الخالق هذا السرور، وأن سعادة الحياة في عودة الإنسان إلى مصدره الأصلي أي إلى السرور. فالخلق يخرج من السرور بالسرور ويرجع إلى السرور، والحياة قائمة على السرور تستمد منه نشاطها وتطورها، بل هو حافزها إلى التقدم والرقي. وإن كانت هذه الآراء أفكارا هندية قديمة، فإن طاغور أضفى عليها من ضياء نفسه ما جعلها تبدو كأنها صادرة منه، ولم تصدر من أحد قبله، لأنه أعطاها قيمة أولية، واتخذ منها مبدأ يزيل به ما يعلق بالنفس الهندية من نزعات تشاؤمية، حببتها في حياة سلبية اعتزالية بعيدة عن ميادين الأرض الحيوية، مما حمل المستشرقين على اتهام العقلية الهندية بأنها تقف من الحياة موقفاً سلبياً، وتعجز عن الاندماج فيها، ولا تقدر أن تسلك طرقاً إيجابية فعالة تفيد الإنسان في عيشته الواقعية أو تقدم ركب الحضارة الإنسانية.

ولكن ما الذي يفزعنا من المرض والشيخوخة والموت ما دمنا نعلم أننا انبثقنا من السرور بالسرور وأننا يجب أن نسعى لنعود إلى السرور إذا أردنا أن نعيش في سعادة لا يشوبها ألم.

لا ريب أن تحقيق وحدة الوجود بتلاشي الفرد في النفس الإنسانية ثم في محتويات الطبيعة، هو السبيل المباشر لذلك السرور. لأن فناء الفرد في النفس الإنسانية يتطلب التمثل بقوانين النفس الأخلاقية عن طريق خوض المجتمعات الإنسانية، حتى تمتحن أعماله، وتختبر مشاعره، ويتأكد من صفاء نيته في الاتحاد بالله.

فإن جاهد في سبيل الله، وعمل على رقي الحياة البشرية، ولم يبال بما يقابله من صعاب، ولم ينظر إلى منافعه الخاصة، فقد سار في طريق وحدة الوجود، وقرب من السرور الإلهي. وإذا استمر في السير في طريق الله، وعمل على أن يمحي ذاته في محتويات الطبيعة بالكشف عن القوانين الطبيعية مدركا أنها رسل الله في الكون، وآياته البينات التي تشير إلى وجوده في كل مكان، فبشره بالفوز بالحياة في السرور المطلق لأنه أدمج في ذاته النفس الإنسانية بالطبيعة الكونية وحقق وحدة الوجود.

وهكذا لم يكتف طاغور بإخراج الإنسان من السرور بالسرور، وإنما اتخذ من السرور نفسه محوراً جوهرياً تدور عليه حياته، إذ اعتبر القيم الروحية والعمل الخير النافع والعلم البعيد عن الهوى المؤدي إلى الله، ومسائل تحقق وحدة الوجود التي تبعث السرور. لأن التمسك بالفضائل من غيرية وتضحية وحب للإنسانية، تطهر النفس من العواطف الشريرة والانفعالات القاسية التي تعرض الحياة لمختلف ضروب الآلام النفسية. بينما العمل الخير النافع يقوي العلاقات بين الأفراد، ويوثق الروابط بين الدول، ويحث الجميع على المساهمة في الشئون الإنسانية، ويساعد على تنقية الفكر من الاتجاهات التشاؤمية، وتبرر له ضرورة اندماجه في الحياة الاجتماعية.

وبذلك يقضي العمل على كل نزعة تحض على الهرب من مشاكل الأرض. ولا يقل شأن العلم في حياة الإنسانية عن شأن القيم الأخلاقية والعمل الخير، إذ أن معرفة القوانين الطبيعية فضلا عن أنها تبين ملامح الله في وجه الخليقة، فإنها تفهمنا كذلك طبيعة الأشياء وكيفية سيرها. وذلك يسهل علينا إصلاح أي خلل يصيبها. فهي تعرفنا قوانين الجسم الإنساني، وتعدد أسباب إصابته بالأمراض، وتبين وسائل مقاومة هذه الأمراض التي أرهبت الهند منذ فجر الحضارة، وتخفف من حدة آلامها التي دفعت الهند إلى هجرة المجتمعات. وبذلك يزيل العلم خوفنا من المرض وما قد يحدثه في النفوس من ذعر واضطراب وريبة. . .

فالهندي في طريقه نحو الله يزداد إيمانه بالقانون الخلقي لأنه يجلب السرور، ويقوى اعتقاده في أن السعاة في الانغماس في الحياة اليومية لا في الهرب منها؛ ويستفيد في معرفة قوانين الطبيعة في توضيح أسباب المرض، وتعرض عليه كيفية علاجها وتعلمه طريقة تجنب آلامها، فتصون عليه مصائبها، وتذهب عن نفسه تلك الهواجس التي تفسد حياته وتحصرها في آلام وهمية، وأحزان مبالغ فيها.

وتحقيق وحدة الوجود لا يستأصل بذور التشاؤم من النفس، أو يقضي على مخاوف المرض، ودائماً يهيئ النفس كذلك لأن تبقى في شباب أبدي لا يلحقه الهرم، ولا تدركه الشيخوخة، ويحافظ دائماً على حيوية الروح، حتى لا يسري العجز إطلاقاً إلى قوتها، ويحمي النفس من الضعف والوهن. لأن الإنسان في مثل هذه الحياة الإلهية يعيش في كنف اللانهاية التي لا تعرف غير نضارة الشباب وقوة الفتوة. فمن بلغ درجة الفناء في الله، وغمرته وحدة الوجود لا تتصدع قواه، ولا تختل طاقاته، ولا يتخلف عن مهام الحياة الاجتماعية مهما كبر سنه، لأن روحه ستظل شابة إلى الأبد تحس بقوة دافعة إلى الاضطلاع بأعظم الأعمال بدون أن تنفر من كد الحير أو تتألم من قسوة العمل.

ولذلك لا ينبغي أن يقصر أحد في تحقيق وحدة الوجود، فإنها تسوقه إلى ذلك السرور الذي بزغ منه، وتنجيه من آلام المرض ومخاوفه، ومن هزال الشيخوخة وخذلان القوى. أما الموت الذي يعد المصدر الرئيسي للتشاؤم، والذي عول عليه كل متشائم في تعزيز نظرته الداكنة نحو الحياة، فما هو إلا حدث من تلك الأحداث التي تقابل الإنسان في طريق الحياة، وهو لا يحول دون تقدمه، ولا يقف عثرة في سبيل رقي البشر. كما أن الحياة لا تعطي له من الأهمية بحيث تشغل به فكر الإنسان، فيغفل عما هي قائمة عليه من سرور، وما يمكنها أن تبعثه في نفسه من غبطة وحبور. والذي يشهد على ذلك هو أن الإنسان يلهو ويلعب ويضحك كما يجد ويعمل ويدخر ويأخذ أهبته لذلك اليوم الذي يفاجئه فيه الموت. بل إن سير قادة الروح تدل على أن الموت لا يوجد ثغرة في ميدان الحقيقة التي يسعون إليها، لأنه لا يؤدي إلى فناء الروح الخالدة، ولا يعوق تلاشيها في الذات الإلهية، أو يعطل تحقيق وحدة الوجود، إذ أن الروح لن تموت أبداً، ما دامت هي والعالم الذي يكمن فيه الله شيئاً واحداً، وتنم عن صورة من سرور الله الذي أظهر بها ذاته في الكون

فالموت ليس له أثر عميق في الحياة، ولا يعبر إلا عن حادثة فردية، لا تفسر إلا ذاتها فقط، وإنما تفزع منه عندما تلتفت إلى حادثة من أحداثه، وتنظر إليها نظرة منفصلة عن الحياة الشاملة التي تضم جميع الأحداث الإنسانية التي من بينها الموت. ومثل من يبالغ في جزعه من الموت في ميدان الحياة، مثل من ينظر إلى جزء صغير من قطعة قماش كبيرة خلال مجهر، فتبدو له كالشبكة، فيرتعد فرقا من مجرد مشاهدة خروق هذا الجزء المكبر، بدون أن ينتبه إلى بقية أجزاء قطعة القماش.

ولكي يذهب عن الإنسان ذلك الهلع الذي يثيره الموت في نفسه، يجب أن يعلم أن هناك وحدة مزدوجة في الحياة تشمل الموت والحياة معاً، وأن الموت مظهرها السلبي الخادع لأنه موت لا يسبب فناء الروح وإن كان رفيقاً لا يفارق الحياة، بل إن الروح العظيمة ترحب بالموت، وترى الدوام فيه وفي الحياة على حد سواء، وتقبل أن تضحي بوجودها الدنيوي في سبيل تحقيق وحدة، وتنظر إلى ظهور الإنسان واختفائه على أنه شيء أشبه بارتفاع الأمواج وانخفاضها على سطح البحر، بينما الروح باقية أبداً في الموت والحياة مثل بقاء البحر سواء علت أمواجه أم هبطت. ولا تغالي إذا زعمنا أننا نطلب الموت حين نرفضه، لأن خوفنا منه يحبس الروح في حدود الحياة الأرضية، ويلزمها أن تعيش على وتيرة واحدة لا تغير فيها، ولا تسمح بأي تطور يعتريها، فلا تحس بأي دافع يحفزها لتجعل حدودها شيئاً لا نهائيا، ولا تستطيع أن تتصور أن الحصول على الكمال الروحي، قد ينتهي بها إلى موت دائم وحياة دائمة يسيران جنباً إلى جنب في وقت واحد، لأن بلوغ الكمال لا يتم إلا بعد فناء الذات الفردية وبقاء حقيقة وحدة الوجود الإلهية.

وهكذا لا يبعث المرض والشيخوخة والموت على التشاؤم، ما دام الإنسان لا يجهل حقيقة اتحاد الخليقة بالخالق، ويعمل على تحقيقها في ذاته، ويؤمن بخلود الروح في اللانهاية. أما الذين يمعنون في التشاؤم، ويستشهدون بالموت في تدعيم نظرتهم العابسة نحو الحياة، لا شك أن تشاؤمهم ليس إلا نزوة فكرية أو انحرافاً عاطفياً ينبذ ما في الحياة من سعادة وخير وحب كما ينبذ المريض الطعام الصحي، ويعب في شراب التشاؤم الفاسد، الذي يسمم النفس؛ نغم مصطنع يوحي إليها بالأفكار الحزينة، ويبعث فيها العواطف الضالة التي يمكن أن تبدد من الأذهان بمجرد ملاحظة قدرة الحياة على التقدم المستمر، ونجاحها المتواصل في تحقيق مآربها الحضارية التي تنشد الوصول إلى أقصى درجات الكمال، لتنعم البشرية بحياة ملائكية في سرور إلهي سروري.

وينتهي طاغور من ذلك كله إلى أنه لا ينبغي أن نهيم في واد من الهواجس المرعبة، أو نغرق في خضم من الأوهام السود، أو نرى الوجود قائماً على العذاب والحزن، فنهجر الحياة هربا من آلامها وخوفاً من أشرارها؛ وإنما يجب أن نخوض المجتمع الإنساني واثقين من أن كل من يجتهد في سبيل وحدته بالله الذي يتجلى في كل شيء في الوجود، سيتغلب حتما على ما يقابله من أحزان وآلام، ويقتلع الشر من أساسه، ولا يجد في المرض والشيخوخة والموت إلا أحداثاً تافهة تمر بكل إنسان، ولا تؤثر في حياته، ولا تلهيه عن توجيه عنايته نحو الله، ليفوز بالاتحاد به ويعيش في السرور الذي صدر عنه.

(كفر الزيات)

عبد العزيز محمد الزكي