مجلة الرسالة/العدد 834/مثل من فهم الشعر القديم
مجلة الرسالة/العدد 834/مثل من فهم الشعر القديم
في بحث أدبي جامعي
للأستاذ أبو حيان
قرأت هذه الأبيات التي أوردها بعد قليل، في كتاب من هذه الكتب الجامعية التي يتعرف بها الناس، عادة، ألوان النشاط العلمي في الجامعة. وقد زعموا أن هذا الكتاب من خير ما يمثل الجامعة في سنواتها الأخيرة، إذ لم يجل على الناس إلا بعد أن أقرته الجامعة وأجازت صاحبه، ورأته جديراً بأن يحمل أرفع ألقابها، وهو كتاب (الهجاء والهجاءون، تأليف الدكتور م. محمد حسين، مدرس بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول) كما يتألق به صدره.
أما هذه الأبيات فهي أبيات الخطيل بن أوس، أخى الحطيئة وقد قالها في حركة الردة وها هي ذي، كما أوردها صاحب ذلك الكتاب، نقلاً عن الطبري، وكما ضبطها هذا الضبط الذي رآه:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي ... عشية يحدي بالرماح أبو بكر
ولكن يُدَهْدَى بالرماح فهبنه ... إلى قدر ما إن تقيم ولا تسرى
ولله أجناد تذاق مهانة ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر
ثم يعلق على البيت الثاني، شارحاً له، بقوله:
(دهديت الحجر فتدهدى دحرجته. هبنه كذلك هي بالنص (يريد: بالمصدر المنقول عنه)، لعلها من أهاب بالإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب، فيكون المقصود أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه، ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم)
أما البيت الأول فلا إشكال فيه عنده، فلا حاجة به إلى التعليق عليه بشرح أو تفسير أو تحرير. وإن كنت أنا لم أفهم - ومعذرة لامرئ بعيد عن منهج المدرسة الحديثة - كيف يحدى أبو بكر بالرماح، فالحادي يحدو الإبل بغنائه، فتنساق خلفه وتطرد وراء حدائه، فكيف يمكن أن تكون الصورة حين يضع الرماح في موضع الحداء؟
يستطيع كل امرئ - ولو لم يكن من الأساتذة الكبار - أن يتكلف ويتمحل في الفهم والتخريج، ويلتمس المذاهب المختلفة في ذلك، وإن لم يمكن أن تستقيم مع ذوق أدبي سليم، أو منهج علمي سديد، ولكن هذه التمحلات لا غناء فيها، ولا جدوى لها، في أداء الصورة الشعرية الجديرة بذلك الشاعر. والأمر بعد أيسر من هذا العناء، فالدال في يحدى إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها، فتكون العبارة: (عشية يحذى بالرماح أبو بكر) بمعنى يطعن ويمزق جسده، كما هو الأصل في معنى حذا وأخواتها، كحذ وحذق وخذف وحذم.
هذا هو البيت الأول، ولا بأس على الأستاذ أن يتجاوزه، كما تجاوز - فيما يبدو - كثيراً غيره، إذ ليس بصدد التحقيق والتدقيق والتنقيب والتعقيب، وإذا كان أمر الدرس الأدبي قد صار - فيما يبدو أيضاً - أمر دراسة خاطفة عابرة، يعنيها أول ما يعنيها أن تخطف الأبصار - فيما يخيل إليها - ببعض الظواهر البراقة الباهرة، وأن تصل إلى أهدافها المرموقة. . . بما تستطيع أن تصطنعه من حركات بارعة ماهرة.
ولكنا لا نغمط الأستاذ حقه، فبقدر ما تجاوز البيت الأول مسرعاً عجلاً، وقف عند البيت الثاني مستأنياً محققاً متأملاً، كما رأينا في التعليق الذي نقلناه عنه منذ قليل. ففسر كلمة (يد هدى) كما لقنته المعاجم، وجزاه الله عن الباحثين خيراً! ولكن هذه المعاجم التي أسعفته في موقفه من هذا البيت، في هذه الكلمة، فقدمت إليه تفسيرها، فأسرع إليه يدونه كما هو، أميناً عليه، فرحاً به، جعلت تراوغه وتعابثة وتمكر به في الكلمة التالية، فخيلت إليه أنها تسطيع أن تمده فيها بما يثبت أستاذيته، ويظهر ألمعيته، ويحقق دكتوريته، فتشبث بها، وتعلق بذراعها:
(ولكن يد هدى بالرجال فهبنه)، فهبنه؟ ما عسى أن يكون معنى هذه الكلمة؟ أجيبي أيتها المعاجم العزيزة كما أجبتني من قبل. ولكن المعاجم لم تجبه في الأولى إلا لتزلقه وتعيث به وتسخر منه في الثانية. فها هي ذي تأخذ بيده المتشبثة بها. وتجره معها، وتجول به بين هذا الموضع وذاك من مواضع الهاء والباء، ثم تقف به أخيرا ً - وقد بلغ منه الكلال والعناء حتى كاد يسَّاقط من الوهن والأعياء - عند كلمة (أهاب)، وتقول له، وهي تبسم بسمة ساخرة ماكرة: انظر ها هنا ضالتك! أجل ها هنا أخيراً ضالته، وما يكاد يصدق أنه واجدها، ولكنه يسارع فيصطنع هيئة العلماء المتزمتين، ويتخذ سمت الأساتذة المحققين، ثم يتناول قلمه، فيكتب: (لعلها من أهاب بالإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب)، ثم يتنفس الصعداء بعد هذه الرحلة المضنية الموفقة! مستريحاً إلى هذه الجملة البارعة الرائعة!
ويا لله لهذه الشرارة التي سطعت له من بين صفحات المعاجم، فأضاءت له أرجاء ذلك البيت وجعلته يتبين فيه سبيله على ذلك الوجه!. وكذلك أحس الأستاذ من أعماق قلبه بالولاء البالغ لهذه المعاجم، فهو مخلص لها، منصرف إليها، مغمض عينيه بين يديها، متفان في الخضوع لما تشير به، وإن لم يتبين وجهه، غير عابئ بما يمكن أن يعارضها فيما يلقفه منها. وكذلك ضرب صفحاً عن قوانين النحو والصرف، وأعرض، ونأى بجانبه عما تحتمه هذه القوانين، إذا كان فيها ما يعترض سبيل الفهم الذي فهمه عن المعاجم، أيا كان هذا الفهم، أو يخالف ما حسب أن المعاجم تدلى إليه به.
وإذن فلا عليه أن تكون هذه الكلمة (هبنه) معدولة عما ينبغي أن تكون عليه، باعتبارها من (أهاب)، ولا عليه أن تكون بدلاً من (أهابوا به) مؤدية ما تؤديه هذه، وأنف القوانين اللغوية الأولية المجمع عليها راغم، ما دام لابد من هذا فيما تأدى إليه. ومنذ الذي أجاز للغة أن تستعصي عليه، أو تنفر من بيد يديه؟! وأي شيء هذه القوانين التي تجعل اللغة شيئاً جامداً متماسكاً لا يساير الأفهام، ولا يطوع لأستاذيته، أو لما تريده منه، وما لا تستطيع أن تفهمه إلا به.
وهكذا يكون معنى البيت، بعد هذا كله: (أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه، ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم)، ويا له من معنى!
من هم (هؤلاء الرجال)؟ أهم رجال أبي بكر (يزجرون أبا بكر وجيوشه) أي يزجرون أنفسهم؟ أم هم بنو ذبيان الثائرون على أبي بكر، والذين يفديهم الشاعر برحله وناقته، ثم يجعلهم يتدحرجون كما تتدحرج الحجارة؟ أم ماذا؟ ما أحوج هذا الشرح، بعد كل ما سبق، إلى ما يشرحه، ويزيل ما يبدو صارخاً من تهافته.
لا لا! ما هكذا ينبغي أن يتناول الشعر. وماذا يبقى لـ (بطن الشاعر) إن كان لابد للشعر أن يكون ظاهراً واضحاً مكشوف المعنى مستقيم الوضع؟ وأين إذن فضل الغموض وأثره الوجداني والهزة التي يبعثها في حنايا النفس؟ ولكنها المدرسة القديمة، قاتلها الله! لا تزال تلجأ إلى قواعد النحو والصرف، ثم إلى قوانين المنطق والعرف، دون أن تعني بالمذهب الجديد في الشعر وأساليب قراءته وإدراكه.
وبعد، فما أدري ما القديم والجديد في فهم الشعر وتذوقه ونقده، ولكني أرى الأمر في هذا البيت أيسر من هذا التخبط والتسكع وتحدي قواعد النحو والصرف والعقل والمنطق والفن أيضاً. فليس هناك أكثر من أن نتعلم كيف نقرأ قراءة صحيحة دقيقة، ولا نكون كهؤلاء الصحفيين والمصحفين الذين يتندرون بأخبارهم، والذين يحكون عن أحدهم أنه نظر في المصحف قوله تعالى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة)، فقرأه: اذئباً يعونك تحت الشجرة. وأمضى ليلة يكد نفسه في التماس التخريجات المختلفة من هنا وهنا تحقيقاً لأستاذيته!
فالأمر في هذا البيت شبيه بالأمر في البيت الأول. تصحيف يسير قريب، ولكنه أدى إلى ذلك الخلط العجيب. فليست كلمة (فهبنه) المؤلفة من فاء عطف لا يدري ماذا تعطفه وماذا تعطف عليه، وفعل لا يعرف من أي أصل هو، ونون نسوة لا موضع لها، وضمير غيبه لا مرجع له. ليست هذه الكلمة أو الجملة إلا تصحيفاً قريباً لكلمة واحدة، هي كلمة (مهينة) من الهوان وبذلك يكون البيت:
ولكن بدهدى بالرجال مهينة ... إلى قدر، ما إن تقيم ولا تسرى
وبدهدى بصيغة المبني للفاعل لا المبني للمفعول، والفاعل هو أبو بكر، وبذلك يستقيم البيت ويطرد المعنى، دون تحد للنحو أو معاندة للصرف أو معارضة للمنطق.
وأما بعد فهذا مثل من فهم الشعر القديم في كتاب (الهجاء والهجاءون)، ولم أقرأ الكتاب جملة بعد، ولكنني أحسست عند هذا الوضع الذي عرضته بالحسرة تلذع قلبي وتفزعني أشد الفزع، أن يكون مثل هذا من صور الدرس الجامعي في هذه السنوات الأخيرة. والمشتكي إلى الله.
(أبو حيان)