مجلة الرسالة/العدد 834/أمم حائرة
مجلة الرسالة/العدد 834/أمم حائرة
9 - أمم حائرة
المرأة والانتخاب
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
ثار جدال واشتد نزاع على اشتراك المرأة في الانتخاب. وحسبي في هذا المقال أن أصور للقراء جدالا في مجلس ضم جماعة من أولي العلم تختلف آراؤهم في هذا الشأن.
تحدث حاضرو المجلس في بعض ما نشر في الصحف تأييداً لمطالبة المرأة، أو المطالبة لها بالانتخاب، وإنكاراً لهذه المطالب. فبدأ أحد المتكلمين الجدال إذ قال:
حقٌّ للمرأة كيف يجحد، وكرامةٌ لها كيف تهان، ومشاركة في تدبير أمور الأمة كيف تحرَّم عليها؟ لا أرى لمنكر حجة، ولا لمخالف عذراً).
قال أحد المتحدثين: (وددت أنّا تجنبنا هذا الحديث في هذا المجلس، ولكن صاحبنا لا يجد لمنكر حجة ولا لمخالف عذراً، فحق علينا أن نبيّن حجتنا وعذرنا.
إنا نعوذ بالله من السياسة ومكايدها، وعصبية الأحزاب وطرائقها، وتحيز الصحف وجدالها.
ونعوذ بالله أن تسابق المرأة في هذا المضمار، وأن تَصلى بهذه النار. ونعيذها بالله أن تَشغل نفسها بهذا اللجاج، وأن تزج نفسها في هذا العجاج، ونحذر أن تمتد ضوضاء السياسة إلى سكينة البيت، وخلافُ الأحزاب إلى وفاق الأسرة.
أن من شئون الأمة لشئوناً ينبغي أن تُنزَّه عن الجدال، وتُصان عن النزاع والخصام، ويكتنفها الوفاق والوئام، وتحوطها السكينة والسلام، وأولها شئون الأسرة.
إننا لا نرضى لطلبة العلم أن يعملوا في السياسة فيتفرقوا شيعاً، ونود أن تكون معاهد التعليم للأمة كلها، يجمع طلابها الحق، ويؤلف بينهم العلم، ويوكد أخوتهم التعاون على كل بر، والجهاد لكل خير. وقد خبرنا من عمل السياسة في الطلبة ما خبرنا، وبلونا من شرها ما بلونا.
وإن الأمم تنأى بالجيوش عن معارك السياسة وخصومات الأحزاب، لأنهم للوطن كله، وللأمة جميعها، والوطن واحد والأمة واحدة.
ونعوذ بالله من جند يختلف أحزاباً ويتفرق طرائق! إن الجند سياج الوطن المنيع، وحرزه الحريز، ينبغي أن تجتمع قلوبهم وألسنتهم وأيديهم على الذود عن ديارهم، لا تفرقهم الأهواء، ولا تتقسمهم النزعات.
وشئون أخرى للأمة لا تصلح إلا باجتماع الرأي فيها، واتفاق القلوب عليها. وشئون الأسرة أولى هذه الشئون بالتنزه عن التحزب، والتطهر من التعصب.
والمرأة ربة الأسرة، وملكة البيت، تنشر فيهما السلام والسكينة، وتبعد عنهما النزاع والضغينة، فتربِّي أولادها للوطن كله، وتنشِّئ ناشئتها للأمة جميعها. مثِّل لنفسك زوجين اجتمعا على مائدة، وقد تعصب كل منهما لحزبه، وجادل عنه، وذكر حزب الآخر ونال منه، واستمع الأولاد لجدال الأبوين، والجدال طريق الخصام، والخصام رسول العداوة والبغضاء. ثم انظر كيف تكون العاقبة.
هذا جانب واحد من جوانب عمل النساء في السياسة، وآفة واحدة من آفات تعصبهن، ودخول التحزب إلى بيوتهن.
نناشدكم الله والوطن أيها الدعاة أن تدعوا لنا المرأة نسكن إليها من ضوضاء العيش، ونفر إليها من خلاف المذاهب، ونستريح عندها من جدال الأحزاب، ونعلم في جوارها الحب والود، والسلام والبر.
نناشدكم ألا تجعلوا من كل أسرة لجنة حزبية، أو لجاناً متعددة لأحزاب مختلفة، وألا تنقلوا الجدال والخصام، والافتراء والبهتان، إلى المعبد الذي نأوي إليه، ونلتمس الدعة والسكينة والألفة والمحبة فيه.
حسبنا - أيها الإخوان - هذا النزاع الدائم، والدويّ المستمر الذي نلقاه في كل طريق، وكل نَديّ، ونقرؤه في كل صحيفة، ونسمعه في كل مذياع. فنحن منه في شغل بالنهار وهمٍّ بالليل.
دعوا المرأة تتزوَّد من العلوم والآداب والأخلاق، وأبعدوها من هذا المعترك لتكون داعية وفاق ورسول مودة، ولتكون - كما خُلِقتْ - مصدر خير وبر، وألفة وحب.
قال الأول - وقد احتدَّ قليلاً -: (إنكم إذاً تحرمونها المشاركة في أمور الأمة، وتحرمون الأمة تدبير المرأة، وهي - كما تعترفون - مصدر خير وبر وألفة ووفاق، فلماذا تحرمون الأمة من برَّها ووفاقها في بعض شئونها؟)
فأجابه مناظره: (كلا، كلا، بل تشارك خير مشاركة بالتربية والتهذيب، وبالتعليم والإرشاد، وتدّبر أجدى تدبير بالقيام على أخلاق النشء وأفكارهم، وبدعوتهم إلى الحق والخير، وتنشئتهم على العدل والإحسان، وإشراب قلوبهم المودة والمحبة، وتعويدهم العدل والإنصاف.
إنها إذاً تشارك وتدّبر بقلبها الطاهر، وفكرها المبرأ من العصبية، وتهدي الأمة إلى الخير دون تحيز، وترشدها إلى الحق دون تحزب، فتكون داعية ألفة لا فرقة، ومنبع سلام لا خصام. وليس هذا بعيداً من المرأة، إن قبلتم فيها دعوتنا إلى التكريم والتقديس، ورضيتم لها سلطانها في الأسرة، ومكانها من الأمة.
إننا نرضى شركتها في كل أمر ماعدا الخصام والجدال، ونقبل تدبيرها في كل شأن حاشا معارك السياسة ومكايد الأحزاب.
إننا ننزه المرأة - ومكانُها في القلوب مكانُها - أن تباشر الخصام، وتتخلل الزحام، وتسير في مواكب الانتخاب، وضوضاء المظاهرات، وترمي منافسها ويرميها، ويَبهَتها وتبهته.
إنا والله نُشفق عليها أن تسير في المدن والقرى، وتطرق الأبواب ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، وتلقي الكريم واللئيم، والحر والنذل، والغليظ والرقيق، مستجدية التأييد، منفقة من الوعود!
ثم ضحك المجادل وقال مازحاً: (ولسنا نعرض لما وراء هذا من الأقاويل حين يقول السفهاء: هذه المرشحة جميلة، وتلك دميمة، وهذه بسَّامة، وتلك متجهمة، وتلك غليظة في القول، وهذه لينة. . . وهلم جرا.
وإنا والله لنرثى لها حين نتمثلها وقد ابتُلِيت بالنيابة فجاءت الوفود تستنجز الوعود، وطرق الناخبون دارها كل حين، يرفعون الشكايات، ويقتضون الحاجات، ويخرجونها من أسرتها طوعاً أو كرهاً، ويشغلونها عن عيالها، شاءت أم أبت!
إنا وايم الحق لنشفق على الرجال ونرثي لهم حين نراهم في معركة الانتخاب وبعدها، وحين نرى تحكم المُبْطِلين فيهم، وتدلل الطامعين عليهم، حتى لنتمنى أحياناً أن يُعفى الرجال من الانتخاب ومطالبه، والتمثيل ومتاعبه. . وكم عرفنا وبلونا وأشفقنا ورثينا! فاشتد صاحبه في الجدال، واحتد في الحوار، قائلاً: (أيها المدعون المبطلون، والمجادلون الجاهلون، إنكم تعطلون نصف الأمة أو أكثر، وتحرمونه الإبانة عن رأيه، والإعراب عن حجته في المجالس النيابية، والتمثيل لا يصح حتى يمثل كثرة الأمة ويُبين عن آرائها، فكل أمة لا تشارك نساؤها في الانتخاب والنيابة، لا يصح تمثيلها، ولا يجوز في الحق تصرفها. . . هذه حجة دامغة، فكيف تحتالون لدفعها؟)
قال له صاحبه: قلت آنفاً إن على النساء تنشئة الأجيال وتربيتها، فآراؤهن منبثة في نفوس الرجال والنساء، ممثلة فيها، وأقول الآن: إن مدار تمثيل الأمة على أن يكون لكل مذاهبها وآرائها من يتكلم بها ويجادل عنها في مجالس النيابة. التمثيل صحيح ما تحقق هذا الشرط، فإن عمدت أمة إلى تقليل مشاغل الانتخاب بتقليل عدد الناخبين بأية وسيلة دون إجحاف بطائفة بعينها، أو تمييز جماعة على أخرى. كان الناخبون ممثلين لآراء الأمة، وصح التمثيل، ولم يضر هذا التقليل.
هب أنك أخذت دفاتر الانتخاب في بلد فحذفت نصفها بالاقتراع، ألا يكون النصف الباقي ممثلاً أفكار هذه البلد ونزعاته؟ أتقول إن مذهباً أو رأياً فقد أصحابه بهذا الاقتراع، إن انتصر للرأي ستون من مائة، أو ثلاثون من خمسين، أو خمسة عشر من خمسة وعشرين، لم تختلف النتيجة، ولم تتغير النسبة.
وليس النساء طائفة، أو طبقة في الأمة، ولكنهن شريكات في كل أسرة وفي كل جماعة، فإن أعفت أمة نساءها من مشاغل الانتخاب تمكيناً لهن مما هو أولى بهن، وتنزيهاً عن معارك السياسة ومطاعن الانتخاب، لم يخل هذا بتمثيل الأمة، ولم ينقص من كرامة المرأة.
فسخر صاحبه بهذا الرأي وشرع يجادل فيه، فصاح به: لقد ضاق الوقت، لا تجادل، سأدع كل حجة إلا حجة واحدة، وأتجنب كل القضايا إلا قضية فذة، فإن أجبتم عنها، وخلصتم من سلطانها، كان بيننا وبينكم ما شئتم من جدال.
إني أقول لمن يطلب الانتخاب للنساء، أتطلب هذا عن رضاً من النساء أو كره، أتكرههن على الانتخاب، أو تأخذ برأيهن فيه قبولاً ورداً؟
إن فيصل الأمر بيننا وبينكم أن تبدءوا فتعرفوا آراء النساء في قضيتهن هذه، أيُردن الانتخاب أم يأبينه، أيحرصن عليه أم يزهدن فيه؟ فاستفتوا النساء قبل أن تطلبوا لهن، واسألوهن قبل أن تدَّعوا عليهن.
فإن استفتيتم النساء فأعرض أكثرهن عن المشاركة في الانتخاب، وأبين أن يكون لهن هذا العناء، فليس لفضولي أن يتكلم عنهن.
وإن قلتم إن عسيراً أن يعرف رأي النساء في أحوالهن الراهنة، قلنا فكيف إذن تحاولون إشراكهن في الانتخاب؟ إنهن إن عجزن عن الإعراب عن آرائهن في قضيتهن فهن في غيرها أعجز! وإن قلتم إن أحوال النساء تحول الآن دون تعرف آرائهن ولكنها حال تزول، وسيكون لهن من الثقافة ما يعربن به عن أفكارهن من بعد؛ قلنا فانتظروا حتى تحول الأحوال، ثم عودوا إلى الجدال.
إنها لحجة دامغة لا تستطيعون الفرار منها، وبرهان مفحم لا تملكون الجدال فيه!
تعرَّفوا رأي النساء في أمرهن، ولا تفتروا عليهن، ولهن القول الفصل، وعلينا السمع والطاعة.
وأخذت المجادل سَورة الحجة، فوجم وفكر، وانتهز الحاضرون الفرصة، فأنهوا الجدال وانفض المجلس.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام