انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 833/الحركة العلمية بالإسكندرية في عصر الحروب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 833/الحركة العلمية بالإسكندرية في عصر الحروب

مجلة الرسالة - العدد 833
الحركة العلمية بالإسكندرية في عصر الحروب
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 06 - 1949


الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

كانت الإسكندرية تلي القاهرة من حيث المكانة العلمية في ذلك الحين، حفلة بطائفة كبيرة من أعيان العلماء، في مواد الثقافة المختلفة، ودرس فيها كثير من رجال السنة، حتى في الوقت الذي كان مذهب أهل الشيعة سائداً فيها، وأنشئت فيها أول مدرسة في الديار المصرية كلها، وإليها رحل صلاح الدين لاستماع حديث رسول الله.

وقبل أن تنشأ المدارس بها، كان جامع العطارين منذ أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 477هـ. معهد علم وينبوع ثقافة، وقد ظل يؤدي رسالته طول عصر الحروب الصليبية، ويساهم مساهمة جدية في نشر العرفان.

وتنوعت الدراسات في جامع العطارين؛ فهذا عمرو بن عيسى السوسي نحوي أخذ عنه النحو أكثر أهل الإسكندرية؛ وكان يقرأ لهم فيه كتاب سيبويه وتوفي سنة 498هـ. وهذا عبد الرحمن ابن أبي بكر بن خلف شيخ الإسكندرية الذي انتهت إليه رياسة الإقراء فيها، ونبغ حتى قال فيه سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات منه، لا بالمشرق ولا بالمغرب. وهذا محمد بن أحمد بن الخطاب شيخ الإسكندرية في الحديث وتوفي سنة 525. أما أبو القاسم بن مخلوف فأحد كبار المالكية الذين أذاعوا هذا المذهب في الإسكندرية. وكان لمحمد بن الحسن بن زراره حلقة في الجامع لإقراء الأدب كما كان المشرف على خزانة الكتب فيه. وممن سجل لهم التاريخ تدريسهم بالجامع الجيوشي العالم الأديب أحمد بن محمد بن المنير أحد الأئمة المتبحرين في التفسير وفقه المالكية والأصول والبلاغة كما كانت له اليد الطولي في علم الأدب. وكان عز الدين بن عبد السلام يقول عنه: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفها: ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية.

وأول مدرسة أنشئت بهذا الثغر المدرسة الحافظية التي أقيمت في عهد الحافظ الفاطمي (524 - 544 هـ) ويظهر أنها أنشئت في عهد الوزير أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش لتدريس علوم الشريعة. ويحفظ لنا القلقشندي في كتاب صبح الأعشى (ج 10 458) نسخة سجل بتوليه مدرس هذه المدرسة. وقد تكفل فيه الوزير برزق طلبة المدرسة وأستاذها الذي سيشرف على هذا الإنفاق. وفي هذا السجل يتحدث عن السبب الذي دعا إلى بناء مدرسة بثغر الإسكندرية فيقول: (ولما انتهى إلى أمير المؤمنين ميزة ثغر الإسكندرية - حماة الله تعالى - على غيره من الثغور، فإنه خليق بعناية تامة. . . لأنه من أوقى الحصون والمعاقل، والحديث عن فضله وخطير محله لا تهمة فيه للراوي والناقل، وهو يشتمل على القراء والفقهاء، والمرابطين والصلحاء، وأن طالبي العلم من أهله ومن الواردين إليه، والطارئين عليه، مشتتو الشمل متفرقوا الجمع - أبى أمير المؤمنين أن يكونوا حائرين، ولم يرض لهم أن يبقوا مذبذبين متبددين، وخرجت أوامره بإنشاء المدرسة الحافظية. . .)

واختارها ابن السلار الوزير الفاطمي كذلك سنة 546هـ (1151م) لإنشاء مدرسة للشافعية فيها، أسند إدارتها إلى السلفي وقد عمرت هذه المدرسة، وكانت تعرف بالمدرسة السلفية حتى بعد وفاة شيخها، وفيها تخرج كثير من العلماء الممتازين ولم يكن للشافعية مدرسة غيرها.

وقبل هاتين المدرسين، سكن الإسكندرية ودرس فيها عالم ممتاز هو محمد بن الوليد الطرطوشي، فقد تزوج من موسرة وهبت له داراً هيأ منها قاعة وهبها للطلبة، وجعلها مدرسة لازم التدريس فيها، وتفقه عنده بها جماعة من الإسكندرية. ولما توفي الطرطوشي سنة 520هـ جلس لإلقاء الدرس بها بعده تلميذه سند بن عنان الفقيه المالكي.

تلك حال المدارس قبل عهد الأيوبيين، فلما جاء صلاح الدين استكثر منها، وفتح أبوابها للأقربين والأبعدين، ونصب فيها مدرسين لجميع أنواع العلوم. وقد شاهد ابن جبير هذه المدارس عندما زار الإسكندرية في أيام ابن أيوب وقال عنها في كتابه: (ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد يفدون من الأقطار النائية، فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه، ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء يقوم بجميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء، الطارئين، حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستان لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء.)

والظاهر أن أغلب مدارس الإسكندرية كان لطائفة المالكية، فقد عرفنا عدداً جماً من أساطين هذا المذهب يسكنون ذلك الثغر، فمن تلك المدارس مدرسة ابن الأنجب، وقد عرفت باسم مدرسها علي بن الأنجب الفقيه المالكي، وأحد أكابر حفاظ الحديث وعلومه، صحب السلفي وانتفع به، وصحبه العلامة المنذري وأطال صحبته وعليه تخرج، وله نظم علماء كقوله:

أيا نفس، بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي

عساك - إذا بالغت في نشر دينه - ... بما طاب من نشر له أن تمسكي

وخافي غداً يوم الحساب جهنما ... إذا لفحت نيرانها أن تمسك

وكان ينوب في الحكم بثغر الإسكندرية ومات سنة 621.

ومنها مدرسة بني حديد التي درس فيها أحمد بن محمد بن سلامة وهو من رؤساء المالكية توفي سنة 645.

ولست أدري إن كانت دار الحديث النبيهية التي تولى مشيختها علي بن أحمد العراقي المتوفى سنة 704 وقد أنشئت في عصر الحروب الصليبية أو بعده.

وعرفت الإسكندرية طائفة من أعلام العلماء درسوا في دور العلم المختلفة بها، مما يدل على حركة علمية ناضجة:

فمن فقهاء الشافعية، وكانوا قليلين بها - أبو الحجاج يوسف ابن عبد العزيز، وهو من علماء الأصول والجدل، روى عنه السلفي ومات سنة 522، ومحمد بن عبد الله بن النن المتوفى عن ثمانين سنة بالإسكندرية سنة 679.

ومن فقهاء المالكية، وكانوا بها أكثرية - أبو الحرم مكي نفيس الدين، وقد أدرك السنين الأولى في الحروب الصليبية، ومات سنة 501، وألف شرحاً عظيماً لتهذيب المدونة للبراذعي في مجلد، وشرحاً على ابن الجلاب في فقه المالكية أيضا في عشر مجلدات، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأيباري الذي برع في علو شتى: الفقه والأصول وعلم الكلام، وله مؤلفات حسنة، منها شرح البرهان في أصول الفقه، وكان بعض العلماء يفضله على فخر الدين الرازي في الأصول، ومنها كتاب سفينة النجاة، على طريقة إحياء العلوم للغزالي. وكان الفضلاء يقولون: إنه أكثر إنقانا من الأحياء وأحسن منه. وأصله من مدينة أبيار على شاطئ النيل بالقرب من الإسكندرية، ومات سنة 616. ومنهم ابن رواج تلميذ السلفي، وهو عالم ورع توفي سنة 648هـ.

ونبغ في الإسكندرية طائفة كبيرة من القراء، نذكر منهم الحسن بن خلف القيرواني المتوفى سنة514. واليسع بن عيسى الأندلسي الذي أخذ القراءات عن أبيه، وكان أبوه من جلة المقرئين، وأقرأ هو بالإسكندرية، ثم رحل إلى مصر فقربه صلاح الدين، ورتب له معلوماً وافراً. وكان يكرمه ويشفعه في مطالب الناس. وكان مقرئا محدثاً حافظاً نسابة مؤرخاً، له كتاب تاريخ في محاسن المغرب وتوفي سنة 575. ومنهم عبد الرحمن بن عبد المجيد الصفراوي الفقيه المالكي المقرئ المحدث المتوفى سنة 636، وقد انتهت إليه رياسة العلم في الثغر. وعبد الله بن محمد النكزاوي المقرئ النحوي المؤلف المتوفى سنة 683. والمكين الأسمر شيخ قراء الإسكندرية المتوفى سنة 692هـ.

ومن رجال التفسير بالإسكندرية يحيى بن محمد التجيبي، قال الذهبي: حج وجاور، وسمع بمكة وسكن الإسكندرية ووعظ، وصنف في التفسير والرقائق ومات سنة 652.

ومن رجال الحديث بها عبد الله عبد الرحمن العثماني، من ولد عثمان بن عفان، كان واسع الباع في علم الحديث، كثير الرواية، متصرفا في النظم والنثر، مات سنة 572. وأبو الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف، وهو شيخ المالكية بالثغر، تفقه على الطرطوشي، وصار إمام عصره في المذهب، وعليه مدار الفتوى من الورع والزهد، وله مصنفات منها كتاب التذكرة في أصول الدين، وهو الذي قصد إليه صلاح الدين وسمع منه موطأ مالك ومات سنة 581هـ. ومنهم الفقيه المالكي المحدث أبو العباس أحمد ابن عمر القرطبي، سمع الحديث من مشايخ المغرب وتلمسان وسبته، ورحل مع أبيه من الأندلس صغيراً، وسمع بمكة والمدينة والقس ومصر، واستقر به المقام في الإسكندرية، وكان معروفاً بالبلاغة والتقدم في علم الحديث، وله على صحيح مسلم شرح سماه المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر صحيحي البخاري ومسلم ومات سنة 656، ومنهم ابن العماد منصور بن سليم الذي رحل في طلب العلم إلى مصر وبغداد ودمشق وحلب وغيرها، وعني بالحديث وفنونه ورجاله، وبالفقه، وألف فيهما كما ألف تاريخاً للإسكندرية، وصنف معجم شيوخه. وممن روى عنه الشرف الدمياطي، ومات سنة 673. ولم يخلف في الثغر مثله.

وعرفنا في الإسكندرية طائفة من النحاة، نذكر من بينهم الحسن بن جعفر بن مروان الذي صنف كتاباً في النحو سماه المذهب، وكان موجوداً سنة 517. ومنهم ثابت بن حسن خليفة اللخمي، وكان له معرفة بالنحو، وبنظم شعر علماء كقوله:

العلم يمنع أهله أن يمنعا ... فاسمح به تنل المحل الأرفعا

واجعله عند المستحق وديعة ... فهو الذي من حقه أن يودعا

والمستحق هو الذي إن حازه ... يعمل به أو إن تلقنه وعي

ومات سنة 625، وعيسى بن عبد العزيز بن عيسى، وكان مقرئا نحويا، وترك مؤلفات تزيد على خمسة وأربعين في النحو والحديث والوعظ والتاريخ والأدب والقراءات والتجويد والفقه، منها كتاب الأمنية في علم العربية، والرسالة البارعة في الأفعال المضارعة، والإفهام في أقسام الاستفهام، وكتاب الجامع الأكبر والبحر الأزخر في القراءات، وقد قرئ عليه في رجب سنة614 بداره في ثغر الإسكندرية. وله ديوان شعر ومات سنة 629هـ. ومنهم العالم المشهور ابن الحاجب فقد وفد على الإسكندرية. وعبد العزيز بن مخلوف الذي قدم إلى الإسكندرية من بلاد المغرب وأصبح بها من أئمة النحو، وتخرج على يدي نحاة الإسكندرية ولكنه لم يصنف شيئاً، وله شعر متأثر بالنحو تأثرا بالغاً مثل قوله:

ومعتقد أن الرياسة في الكبر ... فأصبح ممقوتاً به وهو لا يدري

يجر ذيول العجب طالب رفعة ... ألا فأعجبوا من طالب الرفع بالجر

ومات سنة 693.

وأرجو أن أوفق في فرصة أخرى إلى دراسة باقي ألوان الثقافة ومعرفة رجالها.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول