انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 831/ترجمة وتحليل:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 831/ترجمة وتحليل:

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1949



الخلود

لشاعر الحب والجمال لامرتين

ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 1 -

كان لفاجعة لامرتين في حبيبته (جوليا) - وهي موضوع قصة (رفائيل) - أثر عظيم في إرهاف حسه، وإخصاب خياله، وتفتيق عبقريته: فله فيها مراثٍ جياد تفور بالعاطفة الجياشة، وتزخر بالتصوير البارع، وتمتاز بالنفس الطويل.

ولا ينسى مطلع على كتاب (من الأدب الفرنسي) تلك اليد البيضاء التي أسداها إلى أبناء هذا الجيل أستاذنا الجليل الزيات يوم نقل إلى العربية بقلمه الرشيق، وحسه الدقيق، وأسلوبه الذي لا يجارى، قصائدَ (البحيرة، والوحدة، والوادي، والمساء، والذكرى، والدعاء) فأظهرنا على نفسية شاعر عظيم، وعلمنا كيف نترجم للخالدين. . .

أما القصيدة التي نقدمها اليوم إلى الرسالة - بعد غيبتنا الطويلة - فهي إحدى مراثي لامرتين لحبيبته، وهي فياضة بصوره وأخيلته، تصف بلباقة ما كان يكظمه من الحزن، وتفصِّل بأسلوب شعري علاقة الروح بالبدن، وتقوِّي في الفطرة السليمة عقيدة (الخلود).

نظم الشاعر هذه القصيدة سنة 1817 بعد أن مضى زمن قصير على موت جوليا وأفول شمسها، وكان الحزن لا يزال يلوع قلبه، ويحطم أعصابه؛ فلا غرو إذا كانت نغماته في كل فقرة تنطلق كالزفرات وتوشك أن تسكب الدموع؛ ولا يدع إذا شرع - في استهلال قصيدته - يصور فكرة الفناء بأسلوب يثير الخشوع.

فالشمس ليست عنده آية النهار ومصباح الوجود، وإنما هي شمس أيامنا السريعة التي ما تكاد تشرق حتى تؤمر بالغروب؛ فتشحب في صباحها قبيل ضحاها، وتستبدل اصفرارها بسَناها، وتأفل متعثرةً بخطاها، وتضنُّ على جباهنا الكليلة الفاترة، بأشعتها المرتجفة الحائرة، ثم تمن بها علينا باهتةً حائلة تتماوت بين يدي الليل الهاجم، فتتوالد في عقِبها ظلمات حوالك يولي منها كل شيء فراراً، ويمتلئ من سوادها رعباً، وينمحي في طياتها ذعراً ورهباً.

(إن شمس أيامنا تشحب مع صبحها المتنفس؛

وعلى جِباهنا الكليلة تلقي وهي تتردَّد

أشعة مرتجفة تقاوم الليل المعسعس:

فيولد الظلام، ويموت النهار، وينمحي كل شيء ويتبدد!)

وجدير بالإنسان الذي وُهب حساسة وشعوراً أن يتمثل فكرة الفناء كلما رأى مغرب الشمس، وحضر مأتم النهار، وشهد مولد الليل! وجدير به أن يقشعرَّ جلده ويلين قلبه لهذا المنظر الخاشع المؤثر، وأن يوجس في نفسه خيفةً من ظلام الدجى وأن يتلمس مواطئ قدميه حيثما أسرى، فإذا أحس أنه على شفا حفرة أو لدى شفير مهوى، تراجع منتفضاً ناكصاً على عقبيه، وظل متراجعاً حتى يثوب حسه إليه.

ولقد يسمع أثناء نكوصه وانقلابه ألحاناً تشكو، وأنغاماً تبكي، وزفرات تتصاعد حرَّى، وأنفاساً تختنق كرباً، ونواقيس تنتحب ولْهى، وأَجراساً تعلن نعياً. . . فتلك أصوات تعزي العشاق في فقد أحبابهم، والإخوان في رحيل صحابهم، يوم جثوِّهم على سُرُر الموت لا يتزحزحون، وتشبثهم بأقدامها لا يتحولون. فلتتمشَّ الرعدة في أوصال الإنسان إذا ما سمع هذه النغمات، فإنها - مهما بعدت عنه - نذير بالفناء، يعكر في القلب صفو الهناء.

(ما أحرى الإنسان أن يقشعر لهذا المنظر ويلين

ويتراجع منتفضاً عن مهاوي الشقاء،

ثم يرتعد حين يسمع لحن الموت الحزين

الذي يوشك أن يتعالى في الفضاء،

ومحتبس الأنفاس من عاشقة ولْهى أو أخ حيران

متشبثين بأقدام السرير الرهيب،

أو ناقوساً منتحباً يُنبئ صوته الهيمان

أن شمس بائس شقي آثرت المغيب!)

أما وإن هذه الشمس الغاربة الخليقة بتحية الشعراء، فإنها رمز حزين لاحتضار بائس يستحق العزاء! فليضع الشاعر يده على ما يكمن في الموت من أسرار، وليسمِّ المحتضر (فدية) تستغفر بها السماء من ذنوب الأرض وخطاياها؛ وليناج روحه مخففاً عنه ما غشيه من سكرة الموت ورهبة الحساب، غابطاً إياه على رحيله من دار الفناء إلى الملأ الأعلى، حيث تتغير حياته، وتتبدل عاداته؛ فلن يحمل سيفه الصقيل ليطيح بالرءوس ظلماً وعدواناً، ولن يقطب جبينه ويحدق بصره ليغاضب إنساناً، ولن يطلب الشر ويسعى إليه، فسيلهمه الله كل معاني الخير، وسيجعله ملكاً رحيماً يضئ بنوره ما حوله، ويحمل بيده مشعلا قدسياً يمض منه بريق الرفق والحنان.

(سلاماً أيها المحتضر! إنك لم تبدُ لحظة في دنياك

- يا فدية السماء - بهذا المنظر المخيف

الذي غشَّاك به ذعرُك أو خطاياك.

لن تشهر ذراعك أبداً سيفك الرهيف؛

ولم يعُدْ لك جبين عبوس، ولا بصر حديد:

فسيلهمك الإله الرحيم مواساة الضعفاء.

وأنت لا تبيد. . . بل ستنطلق في عالم الخلود،

حاملاً بيدك مشعلاً قدسياً يا ملك السماء!)

طوبى لروح المحتضر! فإن مآله إلى عالم الأنوار المشعشع إلى الأبد، بينما الأحياء في دار الفناء يقضون نصف حياتهم بلا نور؛ فمتى ولد الليل هجعت العيون، وانطفأت الأنوار، وامتد الظلام.

طوبى لهذا الروح! فإنه سيكون أحد هذه الأرواح العلوية التي تحمل مشاعلها القدسية، وتنزل من السماء إلى الأرض لتتسور بيوت النائمين، فتدنو من فراشهم، وترقد إلى جانبهم، ثم تسبح بهم في بحر من نورها الأزلي، وتُغرق أجفانهم في موج من ضيائها الأبدي؛ وتريهم في منامهم أخيلة رائعة، وأضواء ساطعة؛ وتريهم الليل نهاراً، والسراب أنهاراً؛ وتريهم الهائمين بين القبور يفتحون بيد الأمل أبواب الخلود، ويدخلون بسلام آمنين

(وإذا أحيل بين بصري الحسير وبين النور

أقبلت تغرق جفني بنهار أصفى وأزهى؛

فيفتح لي الأمل - وأنا قريب منك هائم بين القبور معتصم بالإيمان - عالماً أسمى وأبهى. . .)

وهذا العالم السرمدي الذي تنعم به الأرواح في منامها ودَّ الشاعر لو يسمو بنفسه إلى آفاقه، لأنه الموطن الأول الذي نزح الإنسان منه فينبغي أن يعود إليه؛ ولكنه يرى أغلال حسه وقيود بدنه تعوقه عن الطيران، فليست يداه جناحين فيحلق بهما في السماء، وإنما هما وسائر أعضائه سجن ضيق يتحرك فيه بقدر، ويدور منه على حذر. فمن له بتحطيم أغلاله، وفك قيوده، وفتح سجنه، وجعلهِ طائراً يطير سوى هذا الروح الطليق الذي يمضي في اللانهاية حيث يشاء؟

فليستغث به عله يُصرخه، وليستعجله إلى نجدته قبل أن يقذف بنفسه إلى العالم المجهول، وهو في غمرات الحيرةوالذهول.

(تعال إذن. . . تعال حطم أغلال حسي!

ثم افتح سجني وأعرني جناحيك فأطير على رسلي!

ما يبطئ بك؟ أسرع فإني قاذف بنفسي

إلى هذا العالم المجهول غايتي وأصلي. . .)

ويخيل إلى الشاعر - وما ذاك منه سوى خيال - أن روحا لبى نداءه، فحطم أغلاله، وأطلقه من سجنه، وألقى في روعه أنَّ في مكنته أن يطير؛ فينظر فيما حوله حائراً شروداً، ويرى أنه خُلق خلقاً جديداً؛ فتعجب نفسه من نفسه، ويقارن بين حاضره وأمسه. ويتساءل عن الذي فك قيود حسه، ويستفهم عن منقلبه ومصيره، وعن سر مبعثه ونشوره. ويستعلم عن الضيف المجهول الذي أجابه إلى رجيته، وعن مثواه العلوي الذي كان فيه وعن غرضه حين يسعى إليه.

(من حطم أغلالي؟ من أنا وما ينبغي أن أكون؟

إني أموت. . . ولا أفهم سر بعثي ونشوري. . .

عبثاً أسألك أيها الضيف المجهول والروح الأمين!

أين كان مثواك قبل أن ترد حياتي وشعوري؟)

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح