انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 828/منادمة الماضي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 828/منادمة الماضي:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1949



الإسكندرية في عصورها الإسلامية

للأستاذ أحمد رمزي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

فهذه الإسكندرية التي يحاول البعض أن تطغى على عروبتها كليوبطرة والبطالة الأغارقة! هي كما ترى في تاريخنا الحي الذي ننحدر من أصلابه: كانت موئل المجاهدين والمقاتلين والمثاغرين الذين لم ترهبهم قوة الحدثان، ولا أخافهم بأس العدو ولا هد من عزيمتهم توالي الخطوب.

ولذلك عاشوا وفي قلوبهم - كما قلت - نخوة وحماسة ودفعة، وفي أخلاقهم بأس المجاهدين والمرابطين، وفي عروقهم دماء أولئك الأبطال، الذين كانوا يقومون كل عام بالصائفة في بلاد الروم، ويحشدون الحشود إلى آسيا الصغرى وإنطاكية وثغورها. فأين هم والأغارقة؟!. ولماذا لا تسمي الأشياء بأسمائها؟!.

ومن الغريب أن أسلافنا لم يغمطوا القدماء حقهم!!.

فقد ذكر المقريزي في خططه: (أن المدينة أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعاً). ونقل عن وصيف شاه: (أن العمارة كانت ممتدة من رمال رشيد إلى الإسكندرية ومنها إلى برقة.) فكيف يأتي إلى عصرنا من يغمط حق أسلافنا؟ ومع هذا فالعمران الذي كان سائداً في القدم تولاه بعنايتهم المسلمون في أيامهم، فقد ذكر جغرافيو العرب أن هذا العمان يبقى وزاد بدليل ما جاء من وصف البلاد بين سخا والإسكندرية، وما ذكروه عن الحمامات والمساجد والأسواق على الطريق ووصفهم لزراعة الكتان ومعاصر زيت الفجل، وما كانت عليه المدينة من رواج الصناعةوالتجارة، واحتكارها للتوابل وطرق النقل بين الشرق والغرب. . فأين هذا مما يدعون من الخراب والفوضى وحشر هذا دائماً مع العروبة والإسلام؟!.

فإذا تركنا العصور الأولى ودخلنا العصور الوسطى كما يقولون: أراني على حق إذا أشرت إلى ما جاء به الدكتور جمال الدين الشيال في العصر المملوكي: من ذكره ما أدخل على نيابة الإسكندرية من محاسن ووصفه كيف كان يخرج نائبها بالموكب الرسمي من دار الأمارة. وقد عدت إلى صبح الأعشى وقرأت ما كتب عنها وما ذكر من أنها نيابة جليلة ونائبها من الأمراء المقدمين وهي تضاهى في الرتبة نيابة طرابلس الشام، وجاء فيه: (فإذا سار (النائب) إلى دار النيابة. . . وضع الكرسي في صدر الديوان مغشى بالأطلس الأصفر ووضع عليه سيف تمجاه سلطانية ومد السماط تحته).

لقد أنصف قسم التاريخ - في شخص الدكتور الشيال - الإسكندرية لأول مرة، وانصف فيها تاريخ مصر الإسلامي. وكم يكون عمله مستكملاً لو كشف لنا أسماء النواب ابتداء من سنة 767 هجرية أي في الدولة الأشرقية شعبان إلى زوال الدولة المصرية بانتهاء حكم الغورى.

إنه ليسهل الحصول عليها في نظري، فقد اطلعت في عصر الملك الظاهر برقوق من حوادث يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة 789 هجرية (ديسمبر 1387 - يناير 1388 ميلادية): (خلع الملك الظاهر برقوق على الأمير زين الدين أمير حاج بن الأمير علاء الدين مغلطاي وولاه نيابة السلطنة بثغر الإسكندرية عوضاُ عن الأمير بجمان المحمدي بحكم عزله. وفي يوم الجمعة 12 ذي الحجة توجه طلب الأمير زين الدين أمير حاج إلى ثغر الإسكندرية نائباً بها).

وممن ولى نيابة الإسكندرية بزلار بن عبد الله العمري المتوفى سنة 791 هجرية ترجم له القاضي زين الدين طاهر بن حبيب فقال عنه: (كان أميراُ لطيف المقالة وافر الهمة والشجاعة في كل ملحة شديد القوة في اللعب بالسمهري والحسام نصيب سهامه كل غرض بصوبها عليه).

فهؤلاء رجال الحكم في العهد الإسلامي، وأعتقد أن أسماءهم جديرة بأن توضع على الطرق والشوارع، بل هي أولى من الأسماء الأعجمية التي يواجهها كل من زار الثغر الإسكندري؟ فينظر أليها ويتأسف.

إنني واثق من أن جامعة فاروق ستكشف صفحات خالدة في تاريخنا القومي للمدينة، وتغير رأي الناس فينا.

أكتب هذا وانتظر الشيء الكثير من معهد الإسكندرية الديني وأؤمل أن يبعث رجاله وعلماؤه الحياة في التراث الديني للثغر الإسكندري لكي نتعرف إلى أئمته لزيارة قبورهم وتبهرنا آثارهم وما خلفوه من ورائهم.

وإليك قطرة من بحر زاخر بالأحبة من السلف الصالح، قطرة من أوائل القرون الأولى:

في 177 هجرية توفى بالإسكندرية عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني صاحب أبي هريرة.

135 - (توفي أبو عقيل زهرة بن معبد بالإسكندرية عن سن عالية. قال الدرامي زعموا أنه كان من الإبدال روي عن أبي عمر وابن الزبير.

167 - (في أبو شريح عبد الرحمن بن شريح المعافري بالإسكندرية روى عن أبي قبيل وطبقته وكان ذا عبادة وفضل؛ قال السيوطي في حسن المحاضرة ذكره ابن حيان في الثقاة.

181 - (ومات بالإسكندرية يعقوب بن عبد الرحمن القارئ المدني روى عن زيد بن اسلم وطبقته.

281 - (توفي العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المواز الإسكندراني المالكي صاحب التصانيف اخذ عن أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم وانتهت إليه رياسة المذهب واليه كان المنتهى في تفريع المسائل.

أين علماء الإسلام وحملة أنوار الشريعة المحمدية وأين قضاة الإسكندرية في هذا الزمن، بل أين أصحاب المذهب المالكي؟ ما لهم يخفون هذه الأنوار عنا وراء ظلال المتهجمين على تاريخنا الخالد؟

أقولها كلمة حق: يا قوم إن تسعة أعشار الأيمان قوة وصلابة وشجاعة في برج من أبراج مدينتكم وكان له شبا كان أحدهما يطل على البحر والآخر على المدينة وتردد عليه أسلافكم من الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون ويستفيدون منه، فهل هد الاعتقال من عزيمته؟ وهل أنقصت الأيام وشدتها من حماسته وشجاعته؟ كان قوة من قوى الإسلام الدافعة، فليكن منكم فريق على سنته وإقدامه. . .

أقول هذا وأمامي أسماء من تولوا القضاء بهذا الثغر في عصور الإسلام الزاهية، أود لو يتسع المدى فأتكلم عن كل واحد منهم، أحقق عصره واخرج من كتب التراجم حياته وآثاره؛ ولا أخص أشهرهم ولا أعلمهم، وإنما بين يدي قضاة الملك الظاهر برقوق وبينهم القاضي جمال الدين الشهير بالحميدي الفقيه الحنفي تولى بعد القاضي همام الدين، ولو شئت المزيد فارجع إلى ما تركه من آثار نجد أن ناحية القضاة الإسلامي ميدان لا يزال بكراً بطلب البحث والدرس والتقييد والإفاضة.

فإلى قضاة الثغر الوطنيين والشرعيين أوجه كلامي ففي عنق كل منهم أمانة. وما الفضاء الوطني إلا تكملة للقضاء الإسلامي وشعاع انبثق من أنوار ساطعة في فترة أربعة عشر قرناً من الزمن.

أما تاريخ الإسكندرية الحربي فهو صفحة من صفحات الخلود لم تكتب بعد. ولن أحدثكم عن عمل الإسكندريين في حروبهم وقتالهم، وأنما أكتفي بأن أشير إلى بطولة امتازوا بها خلال القرون الماضية وهي حماية الحصون والقلاع، وخدمة الأساطيل الإسلامية.

جاء في حوادث سنة 261 هجرية أن إبراهيم بن أحمد بن محمد ابن الأغلب ولي أفريقية وحسنت سيرته فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة، وبنى الحصون والمحارس على ساحل أبحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبته إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها الإسكندرية في ليلة أو اكثر وبينهما مسيرة أشهر

وجاء في حوادث سنة 671: اهتمام الملك الظاهر يبيرس بأمر الشواني وكيف أمر بأعداد مائة منجنيق ونصبها على أسوار الإسكندرية.

وجاء ذكر أبطال من الرجال حذقوا رماية القوس من أهل الثغر واختصوا بحماية الأبراج؛ فهؤلاء آتي يوماً الظاهر برقوق واستعرضهم بالقاهرة تحت اسم رماة القوس بالرجل؟

ولست أعرف مدينة من مدن البلاد العربية ضاعت آثارها الإسلامية وأزيلت أغلب معالمها مثل الإسكندرية وقد حاولت أن أجد لذلك مبرراُ فلم أقدر: سوى تلك الرغبة التي نراها في عبادة المدينات التي انقرضت، واتهام المسلمين بأنهم قوم يسرع الخراب على أيديهم. فأسوار المدينة في العهد الإسلامي وأبراجها قد أزيلت؛ وكانت بقايا باب رشيد لا تزال قائمة فإذا بمكانها يستعمل حديقة عامة؛ وتحت شعار أن القبور لا تحوي أصحابها أزيلت معالم المدينة الإسلامية وقبور العلماء والأولياء والصالحين، وكل ما يذكرنا بماضينا: حتى أسماء الأحياء والشوارع قد تغيرت باسم التجديد. فكأنما قد ولدنا اليوم، وكأننا قد بعثنا وليس لنا ماض يذكر وتاريخ يعرف. ولولا عناية كريمة شملت قلعة السلطان قايتباى تستحق أن تحمد وتشكر، لبقيت جدرانها مهدمة ولزالت مع الزمن.

إن النهضة الصحيحة هي التي تستند على تاريخنا العربي وتذكرنا بأيامنا ومواقفنا، وأعيد ما سبق لي أن كتبته يوماً ونشرته:

(إننا معاشر الأمم الإسلامية أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة، وهو في قوته وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن به تاريخ أية أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة).

أحمد رمزي