انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 827/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 827/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

مجلة الرسالة - العدد 827
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1949



للأستاذ سيد قطب

- 1 -

صديقي الأستاذ توفيق الحكيم.

شكراً لك على هديتك الكريمة: كتابك الجدير (الملك أوديب) إنها شيء عزيز ثمين بالقياس إلى هنا في تلك (الورشة) الضخمة السخيفة، التي يسمونها: (العالم الجديد)!

لقد استروحت في كلمة الإهداء: (ممن يذكرك دائماً) نسمة رخيمة من روح الشرق الأليف - فالذكرى هي خلاصة هذه الروح - وما كان أحوجني هنا إلى تلك النسمة الرخيمة. . . إن شيئاً واحداً ينقص هؤلاء الأمريكيين - على حين تذخر أمريكا بكل شيء - شيء واحد لا قيمة له عندهم. . . الروح!

بحيث يقدم الدكتوراه في إحدى جامعاتهم - وقد قدم فعلا - عن: (أفضل الطرق لغسل الأطباق) أحب إليهم ألف مرة وأهم من رسالة عن (الإنجيل)، إن لم يكن أهم من ذات الإنجيل!

أمامي وأنا أكتب إليك هذه الكلمات في مطعم، شاب أمريكي يثب على صدره (سبع) ويجثم على ظهره (فيل)! لا تُرعْ! فذلك السبع إنما هو رسم يملأ فراغ رباط عنقه، وهذا الفيل إنما هو رسم كذلك يملأ فراغ صدريته! لقد رسم السبع باللون البرتقالي الفاتح على أرضية (أخضر زرعي)، ورسم الفيل باللون الكحلي على أرضية (كرنبي) وهذا السبع مع رباط الرقبة مدلى فوق الصدرية لا تحتها وحسب مزاج (التقاليع)!

هذا هو الذوق الأمريكي الغالب في الألوان!

والموسيقى. . . ولكن مالي وهذا كله؟ إن ذلك حديث آخر ليس وقته الآن.

أردت فقط أن أقول لك: كيف كانت هديتك لي في (العالم الجديد)!

أشعر بأنني أرد لك بعض جميلك حين أحدثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثراً هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليست بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات، وليس لدي الوقت أيضا؛ إنما يشجعني إلى الكتابة اللحظة أنني أستحضر شخصك في خيالي، وأبادلك حديثاً بحديث، ليس فيه كلفة التحضير، ولا تعمل الفكرة، ولا اصطناع الأسلوب. .

ما أحوجني هنا لمن أبادله حديثاً بحديث، في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. . . حديثاً في شؤون الإنسان والفكر والروح!

دعني أحدثك أولاً عن (المقدمة) فهي تكوِّن مع (مقدمة الترجمة الفرنسية) و (التعقيب على المقدمة الفرنسية) مبحثاً خاصاً له قيمة ذاتية في موضوعه. ثم إن الحديث عنه قد يكون في ذاته حديثاً عن تمثيليتك الجديدة.

ولنسر معاً خطوة فخطوة في بحثك الممتع الطويل. . .

مالي أحس - أيها الصديق الكريم - كأنك خائف قلق من ذاكرة التاريخ؟ ذلك الخوف وهذا القلق اللذان يدفعانك دفعاً إلى تسجيل دورك بقلمك في خط التمثيلية العربية؟

أحب أن أطمئنك منذ اليوم على التاريخ الأدبي لن ينسى لك دورك الأساسي الذي قمت به في وضع (القالب الفني) للمرة الأولى في التاريخ الأدب العربي للرواية التمثيلية. . . وصنعه على أساس فني صحيح. وإلا فإن محاولات كثيرة قد سبقتك لوضع هذا القالب (أشرت أنت إليها إشارة سريعة في مقدمتك، وسيتناولها تاريخ النقد بالتفصيل والتطويل) إلى أن جئت أنت فوفقت نهائياً لتكون قلب فني للحوار يحمل (فكرة) تدخله في باب الأدب، وينهج نهجاً لم يلحقك فيه إلى اليوم أحد، ولست أدري متى يظهر التالي لك، أو المتفوق عليك، فيه؟

هذا دورك الذي لن ينسى. دور في (تاريخ التطور الفني). أما نصيبك الذي سيبقى في باب (القيم الفنية المطلقة) فأخشى أن أقول: إنك لم تقم به، لأنك - في باب التمثيليات - لم تهتد بعد إلى النبع الأصيل الذي تستسقي منه روحك العميقة لا فكرك الواعي، فتنشئ عملا خالداُ فيه حياة وروح

لقد اهتديت أحيانا إلى النبع - ولكن في باب غير باب التمثيلية - في: (نائب في الأرياف) وفي (عودة الروح) وفي لمحات متفرقة في (زهرة العمر) وبعض كتبك الأخرى. أما في باب التمثيلية، فلم يكن لك - غير القالب الفني - شيء يبقى، اللهم إلا خفقات ضائعة مخنوقة في ركام أجنبي غريب!

معذرة يا صديقي، فذلك وجه الحق فيما أرى. وستعلم بعد قليل لماذا أرى. أما الآن فأحب أن أسجل حقيقة أخرى. . . إن دورك هذا الذي حققته إلى اليوم فعلاُ، ليس صغيراً ولا قليل الأهمية. فهو دور حاسم في تاريخ هذا الفصل من كتاب الأدب العربي. أنه القنطرة التي لم يكن منها بد، ليعبر عليها الفنان الأصيل الموهوب فيما بعد. وقد تكون أنت نفسك ذلك الفنان الأصيل الموهوب في عمل فني جدير، حينما تهتدي إلى النبع الأصيل المخنوق في نفسك تحت ركام من الثقافة الغربية الطاغية.

إنني لا أعيب الثقافة - فهي أمر لا بد منه اليوم لتكوين الأديب - ولكن الذي أعنيه أنك أيها الصديق - شأنك في هذا شأن ذلك الجيل كله من الشيوخ - تستلهم ثقافتك الفنية الغربية، قبل أن تجد ذاتك الأصلية.

من هنا يفقد فنك - كما تفقد أعمالهم جميعاً - ذلك الطعم الخاص الذي يتذوقه القارئ في آداب كل أمة، والذي يميزه عن آداب الأمم الأخرى.

إنكم لا تجدون أنفسكم في خضم ثقافتكم. إنكم تمتحون من رؤوسكم أكثر مما تستحون قلوبكم. وهذا هو العنصر الخطر عليكم جميعا.

إنك تهتدي إلي النبع في مقدمتك، ولكن بذهنك الواعي، لا بشعورك الغامض. لهذا يخطئك التوفيق عند التطبيق.

تقول:

(ما من شيء أقوى من الميراث!. . إذا كان للخلود يد فإن يده التي ينقل بها الكائنات من زمان إلى زمان. . . ما طبائع الأفراد وخصائص الشعوب ومقومات الأمم، إلا ميراث صفات وسمات، تنحدر من جيل إلى جيل. وإن ما يسمونه العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب. وإن الأصالة في الأشياء والأحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة كابرا ًعن كابر، وحلقة بعد حلقة. . هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد. وكذلك يقال في فن أو علم أو أدب. . .).

كلام صادق ثمين عميق جميل. . . ولكنك تعرفه بوعيك يا صديقي، ولا يكمن مبهماً فعالاً دون أن تدري، في اتجاهاتك الفنية وأعمالك. . .

لقد اتجهت وأنت تحاول وضع القالب الفني للتمثيلية المصرية إلى الأساطير الإغريقية تستلهمها موضوعاتك. . . لماذا لأن نشأة المسرح كانت إغريقية، ولأن الأوربيين - وهم ورثة الإغريق - قد جعلوا المسرح الإغريقي والتمثيلية الإغريقية والأساطير أساساً لأعمالهم!

ولكنك أنت يا سيدي لست من ورثة الإغريق. لا أنت ولا شعبك الذي تعيش فيه. قد تكون من ورثتهم بثقافتك وقراءتك ولن هذه قشرة رقيقة لا تنشئ فناً خالداً أصيلاً.

(ما من شيء أقوى من الميراث. إذا كان للخلود يد فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، كما تقول!

إنك في حاجة لأن تستلهم وراثتك الأصلية المتغلغلة في ضميرك آلاف السنين ومئات الأحقاب، لا أن تستلهم ثقافتك الطارئة في عمرك الفردي المحدود.

هنالك النبع يا صديقي لو شئت لأعمالك الخلود!

لقد تساءلت. لماذا لا ينقل العرب، فيما نقلوا عن الإغريق، التراجيديا الإغريقية؟ وكان من بين التعديلات التي ذكرتها - وأن لم ترضها - (صعوبة الفهم لذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها).

لقد كدت تضع يدك على السر، ولكنك تركته مسرعاً لتقول:

(لكن على الرغم من وجاهة هذا التعليل، فإني لا أعتقد أن هذا أيضاً يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن. فإن كتاب الجمهورية لأفلاطون قد ترجم إلى العربية. وما من شك أن فيه من الأفكار حول تلك المدينة المثالية ما يشق على العقلية الإسلامية أن تسيغه. ولكن ذلك لم يمنع من نقله. . . بل إن هذه الصعوبة بالذات قد دفعت الفارابي إلى أن يتناول جمهورية أفلاطون، فيضفي عليها ثوباً جديداً من خواطره، ويصبها في قالب عقليته الفلسفية الإسلامية).

وهكذا تبعد نهائيا عن السر وكان منك على لمسة إصبع!

إن الفارق بين كتاب الجمهورية والتراجيديا الإغريقية لبعيد. . . . إن الجمهورية موضوع يحتاج إلى (فهم) والتراجيديا موضوع يحتاج إلى (شعور). وهذه هي العقدة في قضية العرب والفن الإغريقي؛ ثم قضيتك أنت بالذات يا صديقي العزيز.

إن الصعوبة الأساسية في الأساطير واستلهامها ليست في الحاجة إلى (فهم) فالفهم قد يكون ممكناً بالشرح على نحو من الأنحاء. ولكن الصعوبة الحقيقية كامنة في الشعور بها في أعماق الضمير. إن الأسطورة تنبع من ضمير الشعب لا من رأسه؛ وتعيش كامنة في دمه وأحاسيسه. هي (ميراث) شخصي لكل شعب، لا يمكن نقله إلى ضمائر الشعوب الأخرى، كما يمكن نقل الثقافات إلى الرؤوس، بل كما يمكن أحياناً نقل الأعمال الأدبية التي تقوم على أسس وراثية كالأساطير.

لابد أن تعيش الأسطورة حياتها في تاريخ الأمة وضميرها، حتى يستسيغها ذوقها، وتنبض لها قلوبها.

لهذا لم يكن ممكناً أن يشعر العرب بجمال التراجيديا الإغريقية المستمدة في صميمها من هذه الأساطير، ولا أن تنتقل إلى تراثهم كما انتقلت الفلسفة، لأن الفلسفة تراث ذهني في الأغلب، والأسطورة تراث شعوري في الصميم.

هذه هي المشكلة. أما ما قلته من أن السبب الأساسي هو شعور العرب بحاجتهم إلى الفلسفة وإلى العمارة، وعدم شعورهم بالحاجة إلى الشعر. فهو نفسه يحتاج إلى تعليل! لماذا لم يشعروا بحاجتهم إلى الشعر؟ لأن شعرهم كان فيه الكفاية للتعبير الكامل عن حياتهم الشعورية الأصلية؛ ولأن الشعر الإغريقي لم تعش أساطيره في ضميرهم، ولم تندس في كيانهم لتصبح شيئاً غامضاً تائهاً كما كانت في كيان الإغريق!

هنا نجيء لمشكلتك أنت بالذات. بل لمشكلة جميع اللذين يجعلون الأساطير الإغريقية أساساً لأعمالهم الفنية؛ ولو كانوا من الأوربيين - المحدثين - على أنهم ورثة هؤلاء الإغريق -!

إن الأسطورة لا تعيش في دمائكم - وفي دمك أنت بالذات المصري بوجه خاص. إنها لم تنبع من ضمير شعبك. إنها لم تصاحب تاريخك. فكيف تنشئ منها أدباً له حياة؟

قد تقول: إنك تحسن عملك الفني على أساس يتفق مع طبيعة الأسطورة؛ بل مع طبيعة التراجيديا الإغريقية، وقد قلت ذلك. قلت: إن الشعور الديني هو أساس التراجيديا، وأن هذا الشعور عميق في حسك. فأنت تشعر بازدواج العالم ولا ترى أن الإنسان وحده في هذا الوجود.

ولكن هذا كلام عام. ألمح فيه تفكير الذهن ولا أتذوق فيه طعم الشعور.

إن الميثولوجيا الإغريقية مختلفة في طبيعتها عن المتبعين الأصليين لك كمصري مسلم. فلا هي تتفق مع الميثولوجيا المصرية ولا مع العقيدة الإسلامية الحديثة.

الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية تدفعها حيوية عارمة إلى كل تصرفاتها. حيوية لا تعرف العدل والحق والخلق والضمير، لأنها حيوية عاتية شهوانية باطشة. فليس لديها ما يمنع من صب كل هذه اللعنة على (أوديب) لمجرد شهوة أو حقد من (أيولون). كذلك صنعت مع (هرقل) وكذلك صنعت مع (برومثيوس) وغيرهما. وجو الأساطير الإغريقية كلها يوحي بهذا الطابع الخاص الأصيل. . . وهذه الآلهة نفسها يسيطر عليها (القدر) أو قوة تشبهه، وقد لا تكون مخيرة هي الأخرى في دفعاتها وشهواتها وبطشاتها!

والآلهة في الميثولوجيا المصرية القديمة تسيطر عليها فكرة العدل والخلق والحق - في الغالب - فلعنة مثل لعنة (أوديب) غير مستساغة في ضمير الميثولوجيا المصرية القديمة.

فأنت - يا صديقي - بضميرك المصري القديم لا تعيش في نفسك هذه الأسطورة الإغريقية!

وأما الإسلام فينبذ نهائياً فكرة الشهوة والظلم عن ذات الله. وقد بينت أنت نفسك أن فكرة القدر في الإسلام لا تتفق مع الفكرة الإغريقية.

فأنت - يا صديقي - بضميرك الإسلامي الحديث، لا تعيش هذه الأسطورة الإغريقية!

وقد يعن لك أن تقول كما قلت فعلاً: إنك عالجت الأسطورة من جانب آخر جديد. جانبها الإنساني العام. ففي (أوديب) مثلاً جعلت (الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها. طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة).

ولكن الأسطورة هي الأسطورة. فلعنة الآلهة هي التي خلقت جوها وحوادثها.

لقد عاشت تراجيديا سوفوكل، لأنها نبعت من حرارة وجدانه بالأسطورة الحية في ضميره وضمير شعبه. أما عملك أنت وعمل الآخرين من المعاصرين الذين لا يؤمنون بالأسطورة إيمان سوفوكل. فلن تكتب له الحياة إلا بمقدار ما في نفس كل منكم من إيمان حار بأسطورة (أوديب)، وبمقدار ما عاشت هذه الأسطورة في ضمير شعبه وضميره من الحقب والسنيين، وبمقدار تناسق هذه الأسطورة مع الحياة الشعورية له بوجه عام.

ولا تؤمن بما يقوله الدكتور طه - مساء الله بالخير - ويردده من أن مصر إغريقية التفكير، لأن مدرسة الإسكندرية القائمة على أساس الفلسفة الإغريقية تركت آثاراً عميقة لا تمحى! لا تؤمن بهذا فإنما هذه هي فتنة الدكتور الكبرى بالإغريق! قد يكون ذلك صحيحاً في الفلسفة؛ في منطقة من مناطق الفكر المصري لا في سائر مناطقه. أما المنطقة الشعورية فلم تمسها تلك الفلسفة. فضمائر الشعوب لا علاقة لها بالفلسفة. والأساطير تنبع من الضمائر الحية لا من الأذهان الجرداء!

والفنون لا تكتب لها الحياة إلا حين تمتح من هذه الضمائر المكنونة، حين تتصل بالنبع العميق الساري وراء الأذهان والأفكار. . .

ما من عمل واحد يخلد إلا إذا فاض من الشعور.

(واشنطون)

سيد قطب