مجلة الرسالة/العدد 826/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 826/البريد الأدبي
في تفسير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
ترتيب آيات الكتاب العزيز حصل بتوقيف من الرسول صلوات الله وسلامه عليه، على ذلك انعقد الإجماع، فكان الرسول إذا نزلت عليه الآية وتلقاها من جبريل الأمين لقنها أصحابه فوعتها صدور الحفظة منهم، وأمرهم بأن تكون مع آية كذا من السورة التي تكون فيها الآية، وإن كان ذلك على خلاف ترتيبها في النزول. وعلى أساس هذا الترتيب الذي أرشد إليه الرسول قام بناء نظم القرآن المعجز، وأحكمت آياته، وتوثقت معانيه واتسقت كلماته.
وأما ترتيب السور فيرى كثير من العلماء أنه توقيفي كترتيب الآيات وقال آخرون إنه عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم. وسوى أكان الترتيب بين السور بتوقيف من الرسول أم كان عن اجتهاد من الأصحاب، فمما لا شك فيه أن اتفاق جمهور الصحابة على هذا الترتيب المعروف الذي عليه المصحف العثماني أمر له قيمته ومعناه، وليس يخفى على ذوي البصائر من أهل العلم والذوق سره ومغزاه، وإن لم يكن على حسب ترتيب السور في النزول؛ فالترتيب بين السور كالترتيب بين الآيات ليس مبنيا على ترتيبها في النزول ولكنه قائم على ما بينها من الروابط والمناسبات.
وإدراك ما بين الآيات وما بين السور من صلة ومن مناسبات يحتاج إلى علم جم، وطبع ملهم، وشعور مرهف، وبذلك اختلفت أنظار العلماء وتفاوتت مداركهم. ولقد كان للأستاذ الإمام القدح المعلي والسبق في هذا الميدان، يعرف ذلك بالإطلاع على تفسيره جزء (عم).
أسوق هذا لمناسبة ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله السمان في الرسالة - عدد 18 إبريل - ردا لما قرره الأستاذ الإمام في تفسيره (جزء عم) من بيان المناسبة بين سورة (الليل) وسورة (الشمس)، إذ اختلط الأمر على الكاتب والتبست عليه المناسبة بين السورتين والمناسبة بين القسم والمقسم عليه في (سورة الليل) فقال ما نصه:
(جاء في تفسير جزء عم للأستاذ الإمام - رحمه الله - عند تفسير أول سورة الليل ما يأتي (والليل إذ يغشى) يبتدئ في هذه السورة بأن يقسم بالليل وهو الظلمة لأنها الأنسب بما ختمت به السورة السابقة - سورة الشمس - من الدمدمة وإطباق العذاب. . اه (ولم يذك بقية المناسبة)، ثم قال: والمعلوم أن سورة الشمس سابقة لسورة الليل في الترتيب لا في النزول، إذ أن سورة الليل نزلت بعد سورة الأعلى (لعله يريد أن يقول إن سورة الليل نزلت قبل سورة الشمس)، وبذلك يكون لا محل هنا لذكر المناسبة التي ذكرها الإمام. أما المناسبة فلما كان المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة اشتملت صيغة القسم على أشياء مختلفة لتركيز المعنى المقصود في عقول المخاطبين. . فقد أقسم بالليل والنهار في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) وهما مختلفان - كما أقسم بخالق الذكر والأنثى في قوله (وما خلق الذكر والأنثى) وهما مختلفان أيضا، كأنه يريد أن يقول لهم: (إن اختلاف سعيكم في الحياة مؤكد تأكيد اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى. .) اه
وأعود فأقول إن الكاتب قد وهم في رد ما قرره الأستاذ الإمام، إذ توهم أن ترتيب السور مبني على ترتيب النزول وأن المناسبة بينها تتبع ذلك، وإذ ئوهم المناسبة بين المقسم عليه والقسم مناسبة بين السورتين، فالتبس عليه الأمر. ووهم أيضاً في زعمه أن المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة فحسب، وأن الغرض من القسم تركيز هذا المعنى المقصود في عقول المخاطبين. ذلك بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا في قوله تعالى (إن سعيكم لشتى، فأما من أعطى واتقى). . الخ، وأن المقصود من القسم هو تقرير المعنى الإجمالي والتفصيلي في النفوس وتأكيده حتى لا يرتاب أحد في أن عواقب الخير والجزاء عليه ليست كعاقبة الشر وجزائه. وقد أوضح الأستاذ الإمام هذا المعنى أتم إيضاح إذ يقول: (فإن خطر لك سؤال كيف يقسم سبحانه على أن سعي الناس شتى مختلف مع أن هذه القضية بديهية لأن جميع من يفهم الخطاب يعلم أن مساعي الناس وأعمالهم مختلفة متنوعة إلى هذه الأنواع التي ذكرت، ومثل هذا الخير البديهي لا يحتاج إلى تأكيد، بل الإخبار به غير مقيد - فإني أجيبك أولا بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا؛ ولا شك في أن الوعد على الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى بالتيسير لليسرى، والوعيد على البخل والاستفناء والتكذيب بالحسنى، بالتيسير للعسرى، يحتاج إلى تأكيد، فيكون التأكيد لمجموع الأخبار للأول منها فقط). . فما ذكره الكاتب من الرد والتعليل بعيد عن الصواب.
محمد أحمد العمراوي المرحوم خليل بيدس:
سلاما وإكراما، وبعد فلا بد أنك سمعت بخليل بيدس وعلمت من هو من الناس.
لقد مات خليل بيدس وكل الناس يموتون. بيد أنه أبى، ويشق على أن أنعاه إليك في مثل هذا الوقت وفي بلاد غير البلاد التي أحبها وتمنى على الله أن يكون فيها مثواه الأخير.
مات أبي بعيدا عن بيت المقدس. وكان أخي قد رجا منه أن يغادرها أسوة بسواه فينقذ نفسه وينجو بمكتبته وأثاث منزله. ولكنه أبى وسفه رأى كل محبذ للفرار، وأكد للجميع بأن الجيش العربي سوف لا يتأخر عن احتلال القدس في ليلة 15 أيار سنة 1948. كان يؤمن بذلك إيمانا عظيما. . . ويسخر من كل من يرتاب بنوايا الملك عبد الله. بيد أن الملك عبد الله خيب الأمل، وسقطت القدس الجديدة في يد العدو. وكان أبي وابنته هما الشخصين الوحيدين الباقيين في حي البقعة، فانسحبا على أثر احتلال اليهود للتلال المشرقة على ذلك الحي، وكابدا في هربهما المشقات والأهوال.
ولما استقر به المقام في بيروت، وأجال الطرف حوله، فلم يجد كتبه ومخطوطاته ومؤلفاته، ولم يعثر على مقعده ومكتبه، طارت نفسه شعاعا؛ بيد أنه تجلد وأخفى ما جاش في صدره. . . . ولم يزل يتقلب على جمرات متفدة من اللوعة والأسى حتى اخترمه الموت أخيرا، فأراحه من همه وغمه، وأراحه من وصبه وألمه.
وفي الليلة التي فاضت فيها روحه، نفث جميع أحزانه في كلمات وجيزة خاطب بها زوجه. . . قال لها وهو يتألم ولكن لا يدري أنه سينام فلا يستيقظ: نفسي حزينة حتى الموت. .
والشيء الذي حز في قلبي وأرمض نفسي يا سيدي، هو أن يمضي والدي فلا يلتفت إليه أحد ممن نهل منه مناهل أدبه، ولا يكترث بموته مخلوق من الذين كانوا يطرونه ويمتدحونه ويثنون عليه ويشيدون بعلمه وبفضله أثناء حياته. . . وكأنه إنسان عادي ما خدم العلم والأدب وما هذب النشء وما وضع المؤلفات وما أنشأ الفصول والقصص والمقالات. .! هذا الجحود يا سيدي أمضني كثيرا وهذا النكران للجميل هطلت له دموعي.
أرجو أن تتكرم علي أو على الأستاذ خليل بيدس - الذي لم يجد بعد موته من يكتب عنه سوى ابنه - بنشر الكلمة المرفقة مع هذا الكتاب في الرسالة الغراء. وتفضل بقبول جزيل احترامي وتقديري.
أميل خليل بيدس
(الرسالة) ستنشر الكلمة في العدد التالي، ورحم الأستاذ خليل بيدس وجزاه خيرا على ما قدم للعربية، وعوضه برضاه عنه من جحود الناس لفضله.
تصويب:
حدث سقط مطبعي في فقرة من موضوع (عراك فكري بندوة الرسالة) في العدد الماضي؛ إذ جاءت الفقرة هكذا: (وأنا لا أرى أن هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر) والصواب: (وأنا لا أرى أن هناك شرقيا وغربيا، وإنما هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر).
عباس خضر