انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 825/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 825/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1949



حرمان. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا صاحبي، لا تمتهن عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. فالعبرة - يا سيدي - هي ذوب القلب السامي حين بطل على آلام الإنسانية وهي تضطرم وتتأجج، وهي خلاصة الدم النبيل حين تأخذه الرقة والحنان، وهي الصريح المحض من صفاء الروح وحرارة الحياة وسمو النفس ولعمري إن جامد العين إنسان لم يبلغ بعد درجة الحيوان.

أنني أذكر - الآن - يوم أن فررت من حجرة الشيخ علي، ذلك الفتى القميء العبوس. لقد أختاره أبي ليكون قائداً لي فوجدت فيه غلاً بغيضاً إلى نفسي ثقيلاً على قلبي، فرحت أحطم هذا القيد بطريقة صبيانية جميلة. وتدفقت النشوة في قلبي حين رأيتني أمكر بالشيخ علي فأغلبه على أمره وانتظر على أساليبه الملتوية الوضيعة. وظفرت - لأول مرة - بالحرية التي تدفعني إلى أن لا أخشى الرقيب ولا أخاف أبى ولا أرهب الشيخ علي. وأصبحت وما في حياتي من ينهرني عن لهو ولا من يردعني عن غي ولا من يدفعني عن طيش، فارتدغت في حماقات ما دعني عنها واحد من رفاقي ولا ذوي قرابتي: فأنا لا أذهب إلى الأزهر إلا حين يحلو لي ولا أطمئن إلى أستاذ إلا حين أجد فيه الفتور والضعف ولا أستمع إلى درس إلا حين ألمس فيه ما يجذبني إليه؛ ثم لا أجد وازعاً يغريني بالقراءة والمطالعة ولا أحس ميلاً إلى الاستذكار والتحصيل، فاطمأنت نفسي إلى عبث الطفولة ولهو الصبا. وأبي في القرية لا يعلم من أمري شيئاً وفي رأيه أن ابنه الشيخ الصغير يوشك أن يسمو إلى مرتبه ذوى المكانة والشأن من مشايخ الأزهر وإلى جانبي الشيخان حامد وحسن لا يستطيع واحد منهما أن يلومني على أمر ولا أن يؤذيني بحديث.

وذهبت غير بعيد، ثم استحالت حالي فلمست في حريتي معاني رجولتي. وللرجولة في نفس الصبي علامات لا تتم إلا بها. فأنا أقضي صدر النهار جالساً إلى عمامتي أهيئها على نسق وأرتبها على طريقة، أطويها وأنشرها ثم لا أبرح أطويها وأنشرها فلا أهتدي. وأنا أخلو إلى جبتي طرفاً من الليل - أزيل عنها ما علق بها من غبار وأمسح ما لوثه طين، والطريق بين الأزهر والدار ضيق قذر تتراكم فيه - دائماً - الأوساخ والوحل، ثم يعجزني أن أدفع بها إلى الكواء ومالي طاقة بما يطلب من أجر، فأنشرها تحت الحشية علها تبدو في رأى العين قريبة عهد بالمكواة. وأنا أنطوي على حذائي - ساعة من زمان - أطليه بالورنيش حيناً وأغسله بالماء أحياناً. ثم تصنعت الرجولة فأخذت أمشي الهوينى منتصب القامة متزن الخطو، وأتحدث في هدوء ورزانة، وأجلس إلى شيخي في ثقة واطمئنان، وأستمع إلى الدرس في أناة وصبر. ومضت أيام ثم غلبتني طبيعتي الصبيانية وضاقت بما أتصنع فإذا أنا صبي بين صبيان يملئون الحارة صياحاً وضجيجاً ويندفعون في لهو ولعب ما ينتهيان إلا أن يثور بنا صاحب الدار أو يهربنا رجل من الجيران فننطلق في ذعر صوب الحجرة كفئران أفزعهم قط كاسر.

وأنست إلى حجرة الشيخ حسن وما هي بأوفر حظاً من حجرة الشيخ علي ولا أسعد حالاً من حجرة الشيخ فهمي، وما فيها غيرنا: أنا والشيخ حسن، والشيخ حامد. ثلاثة ضمتهم آصرة القربى وجمعتهم وشيجة السن فكلاهما تربى في الكتاب وزميلي في الملعب ورفيقي في الغيط وصاحبي في القرية. هنا وجدت الحرية والراحة وسعدت بالهدوء والطمأنينة.

أما الشيخ حامد فهو فتى مدلل رقيق الحاشية لين الأعطاف لدن الأوصال غض الإهاب. وضئ الوجه، وسيم القسمات، يتألق نضارة وجمالاً، يتأنق في لباسه ويتثنى في مشيته ويتأرج في عطره، ليس فيه من معاني الرجولة إلا ثياب الرجل ولكنه صاحبنا وعلينا أن نرعاه ونتعهد حاجاته.

وأما الشيخ حسن فهو فتى في فجر العمر أيد في غير نزق، صلب في غير جفوة، رقيق القلب رضي النفس حلو الحديث خفيض الصوت. أخذ نفسه بالشدة والقسوة فهو يصرفها عن نوازع الحياة ويلفتها عن شهوات المدينة، ويجد لذته في الدرس والكتاب، فيقبل على الدرس في نهم ويطمئن إلى الكتاب في رضا، ويقضي سحابة النهار في صحن الأزهر لا يبرحه إلا إلى حلقة الدرس أو إلى الصلاة. وعلى وجهه سمات حزن ما ينجلي، وفي عينيه عبرات تترقرق ما تنحدر، من أثر ما لاقى من عنت الأيام وجفوة الحياة.

لقد أحس الشيخ حسن اللوعة والأسى حين ماتت عنه أمه صبياً فوقع بين فظاظة أبيه الجاهل وشراسة زوجه القاسية. وأبوه رجل ريفي لم تصقله الحياة ولا هذبته التجارب فهو جافي الطبع غليظ الكبد لا تأخذه الرأفة ولا تهزه الشفقة؛ وزوج أبيه فتاة في مقتبل العمر ورونق الشباب، مكرت بالرجل فأذاق ابنه البأساء والضراء وضربه بالجوع والعرى وأرهقه بالعمل في الحقل وفي الدار، ولكن أحقاد نفسها كانت تتأرث حيناً بعد حين فراحت تمكر بالصبي وأبيه في وقت معاً فدفعه إلى الأزهر. . . دفعه إلى هناك ليعيش ضائعاً يعاني غمرات الحياة وشظف العيش وقسوة الحرمان. ولكنه رضي بالكفاف أن وجده، واطمأن إلى الجوع، وسعد بالعرى، وصبر على الحرمان، ووجد اللذة والسعادة في الدرس.

وعاش الفتى في دنيا نفسه يسكن إلى آلامه ويستقر بين خواطره، يفزع عن الناس لأنه لا يجد فيهم الصاحب، وينفر من الجماعة وما فيهم من يشعره بالعطف. وهو أبي النفس كريم الأخلاق يترفع عن أن ينشر ضعفه أمام واحد من الناس لأنه يخشى أن يسخروا منه ويتندروا به. وأبوه في القرية في شغل عن أن يعني بابنه ومن ورائه زوجه توحي إليه بأمر فهو لا يرسل إليه إلا نفاية الخبز، وإلا قدراً من المش، وإلا قروشاً يدرأ بها سفاهة صاحب الدار. ثم هو يرى الشيخ حامد إلى جواره، هذا الفتى المدلل، وهو يستقبل أطايب الطعام والمال تترادف إليه من القرية الفينة بعد الفينة، فلا يهش لها وإن نفسه لتجذبه إليها جذباً عنيفاً، والشيخ حامد يلح عليه في أن يشاطره الطعام والشراب والمال فيتأبى عليه. ولشد ما كان يحزننا أن يفر من هذا الطعام وهو شهي لذيذ فيعتصم بالأزهر من بكرة النهار حتى الهزيع الأول من الليل، فلا يجلس إلينا إلا حين يوقن بأن الطعام قد نفد أو فسد.

ولطالما أزعجني أن يعيش هذا الفتى بيننا لا يطمئن إلى واحد منا، ولا يلمس المتعة في صحبتنا، ولطالما حاولت أن أصل إلى قرارة نفسه لأستل عنها أشجانها فما ظفرت إلا بالخيبة والإخفاق فعاش بيننا غريباً عنا.

وسار الفتى في سبيله لا يلوي على شيء يدفعه قلبه وعقله وكرامته معاً إلى غاية يبتغيها، فتقدم في خطى فساح يقفز فوق هامات رفاقه حتى أوشك أن يبلغ.

يا عجباً! ما لهذا النبت الغض وقد غذته القسوة وغمرته أشعة الشدة وسقاه الحرمان. . . ما له أينع ونما وأشتد غراسه فأثمر الرجولة والعبقرية والنبوغ؟ أفكانت جميعاً تصقله من صدأ وتحفزه إلى غرض؟

وفي ذات مساء دخلنا الحجرة - أنا والشيخ حامد - فإذا الشيخ حسن يلقانا في بشر وإشراق على غير عادته، ويتبسط معنا في الحديث على غير شيمته، ويشاركنا اللهو على خلاف طبعه. واستولت علينا الدهشة والذهول أن رأيناه متهللاً، وقد انبسطت أسارير وجهه، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة رقيقة، وزادت عنه سمات التجهم والعبوس. وعهدنا به أن ينزوي في ناحية لا يأنس إلا للوحدة، ولا يلوذ إلا بالصمت. ماذا جرى؟ لقد جاء رسول من عند أبيه يحمل إليه - لأول مرة في حياته - ألواناً من الطعام ومبلغاً من المال. لقد كان الطعام تافهاً والمال ضئيلاً، ولكنهما أزاحا عنه كابوس الهم والأسى حين أحس فيهما معاني جياشة من عطف أبيه وحنانه.

وفزعنا نحن عن طعامه مثلما كان يفزع عن طعامنا، وعجز عن أن يثنينا عن عزمنا، فراح يأكل بقدر ويدخر من طعام اليوم لمائدة الغد، والطعام يكفيه أياماً.

ما لي أهب اليوم من نومي مضطرب الأعصاب مقلقل الخاطر مفزع الوجدان كأني أنتظر حادثة أو أتوقع أمراً. لقد ظللت طول يومي أحس في نفسي خيفة وفي قلبي ذعراً، رغم أن هذا اليوم من أيام الربيع الجميلة الهادئة. وكان قد مضى ثلاثة أيام منذ أن استقبل الشيخ حسن رسالة أبيه التي أزاحت عنه خواطره السود، فعجب وهو في مرحه ونشوته أن يراني ساهماً مقطب الجبين مشغول البال، فجلس إلي يريد أن يصل إلى قرارة نفسي ليستل منها أشجانها فما ظفر إلا بالخيبة والإخفاق. وانطلقت أنا إلى الأزهر أريد أن أتحلل من أعباء نفسي وألقي ثقل همي هناك بين رفاقي وأصحابي. وعند الأصيل جاء الشيخ حامد يندفع نحوي وعلى وجهه سمات الفزع والرعب وعلى حركاته علامات الخوف والاضطراب. وحين رآني تشبث بي يجرني وهو يردد في ذهول (تعال، تعال! الشيخ حسن، الشيخ حسن!) فطرت معه إلى الحجرة، إلى حيث أرى الشيخ حسن يتلوى من الآلام وجبينه يرفض عرقاً، وهو صامت لا ينطق بكلمة، ولا يفصح عن شكاه ولا يرسل صيحة. لقد كان جلداً صبوراً حتى حين سرى السم في عروقه من أثر الطعام الذي أزاح عنه الغمة فحفظه في صندوقه وفي قلبه أياماً حتى فسد وتسمم. وأنسرب الرعب في نفسي من أثر ما رأيت فأنعقد لساني وشلت حركتي، فجلست إلى جانبه أنظر ثم ألقيت بنفسي عليه. . . ألقيت بنفسي عليه وهو يلفظ أخر أنفاسه ثم اندفعت أبكيه، أبكي فيه الصداقة الصافية والشجاعة الكاملة والرجولة الباكرة وهو ما يزل في سن الصبا.

فلا تمتهني - يا صاحبي - عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. . .

كامل محمود حبيب