مجلة الرسالة/العدد 821/فزان بين يدي الأتراك والطليان
مجلة الرسالة/العدد 821/فزان بين يدي الأتراك والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك
المقدمة:
1 - أعبر عن شكري لهيئة مجلس الإدارة الممثل لرابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا إذ أتاح لي الفرصة مرة ثانية لكي أتحدث إليكم، وسيكون حديثي عاماً عن مقاطعة (فزان) وهي الجزء الجنوبي من ليبيا.
وهو حديث كما ستسمعونه سهل غير متكلف يعبر عن شعور المتكلم أكثر من أن يكون محاضرة بالمعنى الصحيح، إذ أنني لا اقصد من هذا تقديم بحث علمي أو تاريخي، وإنما أتقدم بمعلومات متفرقة ونظرات أوحاها إلىَّ ما كان ينطبع في مخيلتي عند مرور هذا الاسم عليَّ في أوقات مختلفة ومناسبات عدة.
2 - ولقد اخترت التحدث عن هذا الموضوع لأنني رأيت أسم (فزّان) بارزاً في الأسابيع الأخيرة، فهي موضع نزاع قائم بين أهل ليبيا وبرقة الذين يطلبون الوحدة لبلادهم أي لا يفرقون بين الجزء الغربي المسمى ليبيا، والجزء الشرقي المسمى برقة، ولا يسلمون بانتزاع الجزء الجنوبي المسمى (فزان) ومع دعاة التقسيم وتوزيع الأسلاب.
3 - ولا شك أنكم قرأتم في الصحف أن فرنسا تحتل هذا القسم المسمى (فزّان) وأن السلطات العسكرية المحتلة منعت ممثلي الشعب الليبي ورجال الصحافة العربية من دخول مقاطعة (فزّان) أو الاقتراب من حدودها. فحالت بينهم وبين الاتصال بالسكان. وأترك لحضراتكم تفسير وقع هذا المنع وأثره في الضغط على حريات الشعوب المظلومة.
4 - إن الوحدة الإقليمية التي ينادي بها أهل البلاد هي وحدة قائمة منذ العهد العثماني، واستمرت طول الحكم الإيطالي إذ كان يطلق على هذا الإقليم اسم ولاية أو إيالة طرابلس الغرب حتى جاءت إيطاليا واعتدت عليها فأصدر ملكها في أوائل سنة 1912 أمراً ملكياً، جعل الولاية قسمين: قسم ليبيا وقسم برقة وألحقت قائمقامية فزان بالقسم الليبي، وبقي الحاكم الإيطالي يسيطر على الأقسام جميعها.
5 - ويجعل الطليان امتداد فزان 900 كيلو متراً من الشرق إلى الغرب و 700 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب، ويجعلون مساحتها أكثر من 300 ألف كيلو متراً وهي كم تتوسط تقريباً الصحراء الكبرى بين وادي النيل وشواطئ المحيط الأطلسي وتكون هضبة يبلغ مستوى ارتفاعها 500 متراً فوق مستوى البحر وإن كان يتخللها وديان ومنخفضات تهبط أحياناً إلى 150 متراً تحت سطح البحر.
6 - فهي تتمتع بمركز ممتاز جعل منها لعدة قرون مضت ممراً للطريق البرية، وأصبحت عاصمتها (مرزوق) في وقت ما مركز تجمع القوافل التي كانت تسير من بلاد المغرب ومن مصر وطرابلس وبرقة في اتجاهها إلى بلاد السودان وأواسط أفريقيا.
7 - فالطريق من مصر كان يمر بالجغبوب وجالو وزيلا إلى مرزوق ومنها يتجه جنوباً إلى الأقاليم السودانية، وأحياناً يتجه إلى حوض النيجر وتمبو كتو.
والمطلع على كتب التاريخ القديمة يذكر الجاليات السودانية التي كانت تأتي من دكرور وتقطن وادي النيل ويحيطها كثير من ملوك مصر وسلاطينها بعطفهم أيام دولتي المماليك، ثم أتى وقت كانت فيه كل من غات ومرزوق منزلين مهمين من منازل الحجاج المسلمين في طريقهم من غرب أفريقيا. وأخيراً فقد المدينتان هذه الأهمية بعد أن أتخذ الحجاج طرق البحر، وبعد أن أضاعت الإمارات الإسلامية استقلالها في أفريقيا وخرجت الجهات والواحات التي كانت يوماً ما آهلة بالسكان، عامرة بالمزارع.
ومع هذا فليس ببعيد أن تسترد هذه المناطق منزلة قد تفوق منزلتها الأولى، إذ أن النصف الثاني من القرن العشرين يخبئ لنا الكثير من المفاجآت وأهمها العودة إلى الطرق العتيقة التي كان أسلافنا يقطعونها في أيام فإذا بالسيارات تقطعها في ساعات.
ثلاثة تواريخ هامة يجب أن نضعها أمام حضراتكم حينمانتحدث عن فزان:
من مارس سنة 1914 احتلت إيطاليا مرزوق وخرجت منها في ديسمبر من نفس السنة.
في عام 1917 استردها الأتراك ثم تركوها لأهلها سنة 1918 حتى استعادها الطليان سنة 1929
في 12 يناير سنة 1943 دخلتها قوات فرنسا الحرة ولا تزال تحتلها إلى اليوم.
وقد أعلن هذا الفتح في بلاغات ثلاثة عسكرية:
الأول: يصف العمليات الحربية الأخيرة في الشمال ويعين الجنرال دلانج حاكماً عسكرياً.
الثاني: يعلن سقوط مدينتي سبها ومرزوق معاً.
الثالث: يعدد الأسرى والمغانم ويشيد بعمل الفرق السنغالية التي اشتركت في المعركة.
9 - وفي 17 يناير سنة 1943 أصدر الجنرال ديجول بياناً للسكان جاء فيه:
إلى أهالي فزان الشجعان الكرماء:
أحييكم باسم فرنسا التي حررت بأسلحتها أراضيكم، وستأخذ من الآن فصاعداً على عاتقها حمايتكم.
إن فرنسا ستبقي في فزان وفي غيرها الصديقة المخلصة لرعاياها المسلمين.
لقد ترتب على هزيمة العدو المشترك أن أصبحت مقاطعتكم تتمتع بالأمن والرفاهية تحت سيطرة فرنسا.
10 - ومن ذلك اليوم، ظهرت نوايا فرنسا في أن تنتدب على فزان وجاهرت بأنها جزء متمم للمستعمرات الفرنسية أقرب إلى الجزائر وتونس منها إلى ليبيا وبرقة.
بل جاهر رجال فرنسا بأنها المحطة الرئيسية للطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.
وقيل أن بريطانيا وأمريكا سوف لا تعارضان في الضم إذا قبلت فرنسا بعض الاشتراطات.
11 - فما هي فزّان حتى تصبح ذات أهمية وموضوع خاص؟ جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي:
هي ولاية واسعة بين الفيوم وطرابلس الغرب تقع في الإقليم الأول، بها نخل كثير، ومدينتها زويلة السودان والغالب على ألوان أهلها السواد.
وقد ذكرهم جرير في شعر له فقال:
قفراً تشابه آجال النعام به ... عيداً تلاقت به فزان والنوب
مما يشعر أن فزان كان اسماً يطلق على جنس أو قبيل من الناس، والمسألة تحتاج إلى تحقيق.
12 - ولن أترك هذا القسم من الحديث دون أن أشير إلى باب مشهور من أبواب القاهرة هو باب زويله المعروف باسم باب المتولي، فقد أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى جنود الدولة الفاطمية الذين كانوا من هذه المنطقة من أقاليم الصحراء الكبرى.
13 - من السهل التعرض إلى وصف الإقليم الفزّاني ومظاهر الطبيعة وتضاريسها من وديان وجبال، والكلام على طرق المواصلات، فيها وفي داخلها، كما أنه من المفيد الإشارة إلى توزيع السكان وأصولهم من عرب وبربر، وعوائدهم وما يسود هذه الجماعات من معتقدات قديمة وأساليب معاشيهم؛ ولكن هذه المعلومات موجودة في المراجع المختلفة ويمكن الاطلاع عليها، ومجرد ذكرها لا يعد من المواضيع الجديدة التي يصح أن أعرضها في حديث فرضت من المبدأ أن يكون الغرض منه تنيبه الأفكار للنواحي التاريخية الغامضة من حياة فزان الحديثة والتي تصلح كدروس لنا وتجارب للمستقبل.
14 - وهذه النواحي لا يمكن فصلها عن حياة ليبيا وبرقة، فلنبدأ بإعطاء صورة من اعتداء إيطاليا على هذا الركن من العالم، ثم ننقل إلى تقسيم العمليات الحربية التي كانت فزان مسرحاً لها حتى دخلت قوات فرنسا المحاربة هذه المنطقة وحررتها كما تقول.
(يتبع)
أحمد رمزي