مجلة الرسالة/العدد 821/الذرة والسياسة والحرب
مجلة الرسالة/العدد 821/الذرة والسياسة والحرب
للأستاذ عمر حليق
في المعسكر الغربي جدل حول خطورة القنبلة الذرية كسلاح فاصل وعن الدور السياسي والحربي الذي ستلعبه في مستقبل العالم.
فهناك من يعتقد بأن القنابل الذرية التي يملكها وينتجها حلفاء الغرب كافية لأن تقضي على الكيان السوفيتي وآلة حربية في فترة من الصراع المسلح قصيرة الأمد؛ وأنه لا يمكن أن توجد أسلحة دفاعية ضد هذا السلاح الجهنمي.
ويستند أصحاب هذا الاتجاه إلى اختبار اليابان؛ فهذا النوع من التدمير الجهنمي الذي محا مدينتي هيروشيما وينجاساكي شاهد حي على تحليلاتهم وتعليلاتهم وهي تتعرض إلى النواحي الفنية في مفعول القنبلة الذرية وإنتاجها. وعلى رأس أنصار هذا الرأي العالم المعروف البرت إنشتين.
وأصحاب الرأي الثاني متحفظون في نظرتهم إلى سياسة القنبلة الذرية؛ فهم لا يرون في مفعولها هذا الهول العظيم الذي يتصوره الرأي العام العالمي. ومن أبرز أصحاب هذا الرأي العالم البريطاني الشهير البروفيسور بلاكيت. , , وهو متخصص في شؤون الذرة، وقد نال مؤخراً جائزة نوبل للعلوم الطبيعية، كما أنه أصدر مؤخراً كتاباً ضمنه آراءه بصدد سياسة القنبلة الذرية، فأثار ضجة في المملكة المتحدة في الأوساط العالمية إجمالا، وضرب بذلك مثلا على مكانة العلم وحرية الرأي في ظل الديمقراطية، إذ أن استنتاجاته وتحليلاته تخالف الرأي الرسمي للحكومة البريطانية ولكنها مع ذلك لم تعترض سبيله ولم تنفر من الاستفادة بخبرته العلمية.
ولنعد إلى عرض فحوى هذا التعليل الذي لا يميل إلى تعليق أمل كبير على القنبلة الذرية كسلاح سريع الفصل في حرب المستقبل. فهو يقرر أول ما يقرر أن نقطة الضعف الرئيسية في القنبلة الذرية كونها لا تختلف عن القنابل الجوية الأخرى إلا بتدميرها عدداً كبيراً من المنشئات والأنفس، وأنها لا تستدعي تغييراً جوهرياً في الخطط العسكرية التقليدية من حرب المشاة والأساطيل والطائرات، وأن حرب المستقبل لا مفر لها من اعتبار هذه الخطط العسكرية للنصر العسكري، فقد بلغ ما ألقته أساطيل الحلفاء الج على ألمانيا في الحرب المنصرمة مليوناً وثلث المليون من أطنان المتفجرات، ومع ذلك فإن تقرير وزارة الحربية الأمريكية يقول بأن إنتاج ألمانيا الصناعي كان في سنة 1944 (بعد أربع سنوات من ابتداء الحرب) أكثر منه في مطلعها سنة 1939. وهذا التقرير الأمريكي الرسمي يعترف صراحة بأن خسران ألمانيا واليابان للحرب كان بسبب فقدان المؤونة من الأغذية والمواد الخام لا بسبب التدمير الجوي - فإن مصانع الحرب في هيروشيما وينجساكي لم تدمرها القنابل الذرية لأنها كانت في الضواحي، وأنه لو تسنى لليابانيين استعمال ملاجئ واقية حصينة لكانت إصاباتهم في الأنفس أخف. فقد كان العالم يجهل آنئذ مفعول القنبلة الذرية فلم يحتط لها بملاجئ واستعداد وقائي يتناسب وخطورتها. ويقول أصحاب هذا التعليل استناداً إلى معرفة فنية بإنتاج القنابل الذرية أن هذا الإنتاج في الدول التي تملك شر صنعه محدود، وأنها لا تستطيع توفير قنابل كافية لتدمير جميع المدن ومراكز الإنتاج الصناعي المعادي قبل مضي سنوات عديدة.
والناقدون لهذا التعليل يشيرون إلى أن خبراء القنابل الذرية لدى حلفاء الغرب يعتمدون على ضربة خاطفة على عصب الإنتاج لدى العدو بشكل لا يستطيع معه استرداد رباطة جأشه وترميم الخراب والحرب دائرة. وهناك من خبراء الذرة من يعتقد بأن الأنجلوسكسون لا يستطيعون في ظروف السلم إنتاج أكثر من 1000 قنبلة في السنة، وهم يقدرون كذلك - ولا يفهم عن مصادر هذا التقدير إلا أنها تستند إلى معرفة تكنولوجية - إن روسيا لن تستطيع إنتاج أول قنبلة ذرية قبل عام 1953. وهذا القصور في السباق يهيئ لحلفاء الغرب ذخيرة 4000 قنبلة، وهذا التفوق في الإنتاج يمهد للدعوة في بعض أوساط الحلفاء لإنهاء الكيان السوفيتي في أقرب فرصة، وللخلاف على مراقبة الإنتاج الذري بين الدول الكبرى عدا تعليلات أخرى سياسية واقتصادية فالبروفيسور بلاكيت المذكور مثلا يعتقد - ويردد بذلك ما يشتكي منه السوفيت - بأن عناد الولايات المتحدة في وضع معلوماتها عن الإنتاج الذري للخدمة الاجتماعية العالمية يعود إلى أنانية محضة من جانب الأمريكان، فإن الكيان الصناعي والعمراني في بلاد العم سام مثبت على أساس الوقود البترولي والكهربائي؛ فإذا عم استعمال الطاقة الذرية، فان ملوك البترول والتوليد الكهربائي وألف نوع ونوع من المنتجات الصناعية المتفرعة منهما سيتضررون ضرراً خطيراً يقلب بعض أوجه النظام الاقتصادي رأساً على عقب؛ فلا غرابة أن تجاهد واشنطون ومن ورائها ملوك البترول والكهرباء في سبيل الاحتفاظ بالإنتاج الذري ضمن نطاق مقيد يراعى فيه مصلحة النظام الاقتصادي الحالي في أمريكا.
وفوق ذلك فإن في اطلاع روسيا على سر الإنتاج الذري وتوفير المواد الخام والمساعدة الفنية لهو خطر على تفوق أمريكا الصناعي الفريد. فإن الاقتصاد الموجه وسيطرة الدولة على الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي قد يحقق تعمم الطاقة الذرية في أقصر وقت على النحو الذي يخشاه ملوك الصناعة والمال في الولايات المتحدة، إذ أن ذلك يحقق في الاتحاد السوفيتي تطور الحياة الصناعية والاقتصادية على نوع هائل وخطير يضع الولايات المتحدة في مرتبة ثانوية في الحضارة المعاصرة والسيادة العالمية.
ويقول أصحاب هذا التعليل الاقتصادي - السياسي: إن مشروع الولايات المتحدة لمراقبة الطاقة الذرية المعروض على هيئة الأمم المتحدة لا يتوخى صادقاً إشراك الدول الأخرى في سر الإنتاج الذري، ولكنه يرمي إلى التعرف على مراكز التجارب الذرية في الاتحاد السوفيتي متخطياً بذلك الستار الروسي الحديدي عن طريق لجنة مراقبة الأمم المتحدة.
هذه هي وجهة النظر الروسية بصدد مراقبة الذرة.
ويجيب خصوم هذا الرأي مشيرين إلى أن روسيا غنية بالمواد الخام من الفحم والبترول، وأن قوتها الكهربائية الموَّلدة أضخم قوة في العالم على الإطلاق، وأنها لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنتج الطاقة الذرية على نطاق واسع قبل مضي ربع قرن على أقل تقدير؛ ولذلك كان خيراً لها أن تنشط لاستغلال خيراتها بغير الطاقة الذرية.
والقول بأن أمريكا تتحكم متعمدة ومخادعة في الإنتاج الذري لتحفظ كيانها وتدفقها الصناعي من الانقلاب الثوري الذري الخطير العواقب قول خاطئ. فإن الطاقة الذرية قد ولدت وهي الآن - لأسباب فنية - قيد الإنتاج البطيء، ولكنها ستعمم إن آجلاً أو عاجلاً فليس من المنطق أن تتهم الولايات المتحدة بالأنانية والوقوف في وجه التقدم الحضري فإن طبيعة العقلية الأمريكية واتجاهاتها وخصائصها تتوخى تنمية التقدم الآلي كما تشهد بذلك الحضارة الأمريكية الحالية.
وإذا تركنا هذه التعليلات ورجعنا إلى المسلك الرسمي الذي سلكه حلفاء الغرب في لجنة الطاقة الذرية التابعة لهيئة الأمم والتي تجتمع الآن في لايك سكسس للمرة السابعة عشرة وجدناه يتأرجح بين ثلاثة حلول:
واحد منها سلبي، فالمشروع الأمريكي إذا لم يؤخذ بحذافيره فأنه يمنع المعلومات الحيوية منعاً باتاً عن الدول الأخرى.
والثاني إيجابي إلى حد ما رضيت بواسطته الولايات المتحدة مساعدة أعضاء هيئة الأمم في توفير الإنتاج الذري بالقدر الذي تحتاج إليه هذه الدول في صناعتها السلمية. فبذلك تظل واشنطون السيدة الأولى في مجال التفوق الذري.
والثالث بريطاني تسوده مسحة المخرج اللبق الذي عرفت به الدبلوماسية البريطانية. فهو يقول إن الخلاف في جوهره خلاف على الثقة به، وهو يقر المشروع الأمريكي في أصوله، ولكنه يطلب تقرر الثقة المتبادلة في العلاقات الدولية قبل التقيد بالالتزامات الخطيرة.
هذه الأزمة في الثقة هي عقدة العقد في الخلافات الدولية، لأنها تستند إلى تباين في الميادين والأهداف والسبل. وجميع الحلول التي قدمت ليست سوى محاولات دبلوماسية اللغة مبطنة المقاصد تحاول أن تخرج من المأزق فتنفق الوقت والجهد في الجدل العقيم، تذر به الرماد في عيون الرأي العام العالمي وتستر به استعداداتها للمعركة الفاصلة.
(نيويورك)
عمر حليق