انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 820/في ذكرى أديب العربية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 820/في ذكرى أديب العربية:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1949



يرحمك الله أبا عبيده!

للأستاذ محمد سليم الرشدان

يا لله ما أعجب! هذا هو الدهر تنقضي أيامه وتنطوي لياليه، فيجتاز بذلك حولاً من العمر، يطل من ورائه أبو عبيده، أديب العربية الأكبر، العلامة الجليل محمد إسعاف النشاشيبي. فإذا هو ذكرى في ثنايا التاريخ، وإذا هو حنين تنبض به القلوب، ثم إذا هو طيف تجتليه الخواطر، وتفتقده النواظر.

ويح هذه الآمال المديدة، لطالما زينت له مخوف السيل، وهونت عليه وعر المسالك. فعبر كؤودها، واعرورى متونها، ومضى قدُماً لا تقعده المخاطر، ولا تكبح جماحه لأرزاء. فكلما أدرك غاية، برزت له من ورائها غايات.

بل ويح هذا الطموح مازال به يستحث خطوه الجامح، فهو لا يستقر إلى آمال، وهو ما يفتأ يشد الرحال ولكنه أخيراً مضى بعد أن خاض شتى المجاهل في دنيا (العربية)، وتجاوز في ارتيادها بعيد الآفاق. فلم تفته منها صغيرة، ولم تقف بين يديه كبيرة. فقد ألم بهذه وسبر أغوار تلك، وأحاط من ذلك كله بما لم يحط به إلا قليل، فكان شأنه في هذا السبيل، شأن المجاهد المستبسل، لا تقعده جراحات الغدر، ولا ترده أحابيل العدو المخاتل. فخاض غمرة الكفاح، ولا أيد ولا وَزَر، إلا ما اشتمل عليه من مضاء العزيمة، فأدرك النصر الباهر في كل ميدان، ومضى في قافلة العمر تزامله العزة والأنفة والإباء، لا يضير هذه القافلة أن تعترض سبيلها (الثعالب) حيناً، ثم لا تلبث أن تحول أو تزول.

أرأيت - يا أخي القارئ - بركاناً يتضرم أواراً، ويستعر لهيباً، ويغلي في جوفه شواظ وحمم، فهو إذا ما فار وما زفر زفرة أسكت بها من حوله كل باغم؟ كذلك عهدت النشاشيبي المتقد حيال أعداء العربية، وأجراء ذوي الأغراض. ومالك لا تستيقن ذلك حين تسمعه يردد ساخطاً:

(وأن نجم ذئب فصاح. (إن لكل عصر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً على القول، فكيف تنادينا إلى لغة يقول العصر - إن استمعها - ليست هذه بلغتي! فنحن نشنأ ما تنادينا إليه، ولا نحب أن نقتل أنفسنا منكبين على القول القديم العتيق، الذي شرب الدهر عليه وأكل، ولا نهوى إلا لغتنا العصرية السهلة الواضحة، التي يفهمها كل إنسان حتى راعي البقر. . .) أن نجم لنا مثل ذلك الذئب وعوى عواءه، ألقمناه حجراً وحجرين، وعصوناه ثم قلنا له: أجل أيها المدجل المحاوت إن لكل دهر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً. . . غير أن (لغتك العصرية) هذه لغة معتلة، فنحن ندعوك إلى مداواتها وتقويتها بتلاوة القول القديم، لكيلا تُسَلْ أو يدود لحمها ثم تموت. . .).

بمثل هذا القول كان يصمت أولئك الذين طالما دعوا - من حوله - إلى نبذ لغة (القرآن)، والاستعاضة عنها برطانة غوغاء السوقة، وترك ما أفنى أئمة العربية شباة أقلامهم وشباب أعمارهم، بجمعه واستنباطه من قواعدها وأصولها، واستبداله بما خيلته طبيعتهم الأعجمية، من كلام مهمل سقيم. . . يا للكفر الصراح، ويا للعقوق الآثم! لم لا يعد هذه (الثلة كالثلة)؟ ولم لا يعد من كان في مثل هؤلاء (ذنيماً أفاكاً)! بل هل عسيتك - لو كنت حيث كان - إلا معترضاً بمثل قوله:

(كلا! إن هذا الزنيم قد جهل وجار عن الحق، واحتقد على لغة العرب فكدح في محقها (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، يأبى الله أولا يتم نوره. . .).

لكأني بك تقول ذلك (أو من مثله) ما دمت تغضب لهذا الإرث الجليل الخالد، الذي لو كان حصاد عام، بل لو كان حصاد جيل لتأسى فاقده. ولكنه - يا فتى - حصاد المئين من السنين! فأنى لك العزاء (آنذاك)؟ والخطب - لو حصل - جليل، والمصاب - لا كان - مفزع مهول! فما لأبي عبيده لا يفزع؟ بل ماله لا يستنفر الإنس والجن والسموات والأرض والجبال. فيخرج من (صومعته) هائجاً، وهو يردد متسائلاً:

(وكيف يسول الخبث والعجز والجهل ولؤم الضريبة، كيف يسول كل ذلك للفتى أن يأتي بالكفر براحاً وبالشر صراحاً، ولا يحسب لكفره بالحقيقة حساباً، ولا يخشى لشرارته عذاباً، ولا يخاف عقباها؟ وكيف يهون له احتقاب كل موبقة. أن يؤتى إلى اللغة العربية. . . فيجز شعرها، ويخدش ذلك الخد الأسيل. . . ويخمش ذلك الوجه الجميل ويفحم! وتصبح (ابنة عوف) مضرب المثل في القبح، وهي المثل المضروب في الحسن والجمال!!. . .).

أرأيت كيف كان أبو عبيده (طيب الله ثراه) يغضب للعربية وأهلها، فلا تأخذه في سبيلها لومة لائم، ولا يبالي أن يخاصم القريب والبعيد مادام قد أنحرف عن الجادة، وجانب السراط السوي. وإذا كان المرء يناضل في ميدان واحد لا يعدوه، فقد كان هو يناضل (في آن واحد) في ميادين شتى. ومن ذلك أن يتصدى (موجهاً أو مجيباً أو معترضاً أو متحدياً) في أقطار مختلفة، وفي صحف متعددة، وقد تنكر خلال ذلك في أزياء، وادرع لكل ميدان بلبوس. فهو (أزهري المنصورة) حيناً، وهو (السهمي) حيناً آخر. ثم هو إن بالغ في التواضع (التواضع خلة لا تعدوه) أرسل ما يكتبه غفلاً من أية سمة، فيشاركه صاحب المجلة تكتمه معرفاً كلامه الذي ينم عليه بقوله: (لأستاذ جليل) أو بما هو من على شاكلة هذا التعريف. ثم هو جريء لا يهاب. إذا تعرض لأمر تخشى عواقبه نحى حجاز التواضع جانباً، وتبدى للخصوم باسمه وكنيته، شأن البطل المقدام لا يبالي أن يعرفه الخصم استهانة بخطره، وغلواً في الحفاظ والنجدة. فليرحمك الله أبا عبيده، لقد كنت أمة في رجل، وكنت رجلاً (نسيج وحده).

ليتك تعلم - يا قارئي الكريم - مبلغ اعتزاز ذلك الأديب الفذ بكتاب الله لطالما أجابني على كثير مما كنت أسأله عنه بآيات بينات منه. وهو يردف مفتخراً: (أرأيت أي كنز يحوي بين دفتيه هذا الكتاب؟ أو رأيت شبيهاً له فيما عبر بك من لغات (آشور وسريان وعبران)؟ هيهات! ولئن تحريت فما أنت بواجد! (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

كان رحمه الله كثيراً ما ينظر إلى هذا الكتاب العظيم نظرة المشفق المحب ولسان حاله يستعيد قوله فيه: (يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك قدرك، ويعطيك من خدمتك حقك. لقد هلك من كنت تتلو علهم آياتك فيدهشون، ويخرون سجداً وبكياً. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البليغة، إلا عربي قح صليب، لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة، ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة واهنة!! فسقياً لمثل هذا سقياً، وتعساً ونكساً وترباً وجندلاً لمن يبغي أن نضل، فنستحب اللغة المرذولة، على لغتك البارعة العذبة المضرية. . .).

ولن أنسى يوماً قدمت فيه إليه، فأقبل علي يحدثني بقلبه ولسانه عن دنيا العربية والإسلام. وينطلق شأن المؤمن المتفائل، يؤكد لي اندحار هذه العجمة في يوم (قرب ابانه)، وانطلاق لغة الضاد من عقالها لتنهض بأعباء الإنسانية، تؤدي رسالة الحضارة. وما فتئ يكرر بين حين وحين: (ولم لا يكون ذلك واللغة هي اللغة، والآباء هم الآباء، والابن مهما كان جاحداً عقوقاً فلا بد أن تجذبه أصالة المحتد وكرم النجار. . .) ويحين موعد انصرافي فأستشيره في فقرات من قوله أعرضها نمطاً من أسلوبه وأنا أتحدث عنه في طليعة الأدباء أثناء بحثي عن (الأدب في فلسطين) في المجلة المحببة إلى قلبه (الرسالة الزاهرة)، فلا يكون منه إلا أن يتناول كتاباً يضع سبابته على سطر فيه وهو يقول: (أكتب من هنا، ولن تنطقني بقول تنتزعه من سويداء نفسي، وتستخلصه من قرارة يقيني إلا أن يكون هذا!!). ثم أجدني أقرأ (هناك) كلاماً لا يختلف عما كنت أسمعه منذ هنيهة إلا بالفاظه، وجعلت أعجب حين رأيتني حيال كلام قاله عام (1972) جاء فيه:

(اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. . . واللغة ميراث أورثه الآباء والأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع. وإنا أمم اللسان الضادي لعرب، وإن لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه. وإنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي اللغة - بأن نقي عربية الجنس، وعربية اللغة.

ولو كان المورثون صغاراً، ولو كان الميراث حقيراً لوجب علينا إكبارهم وأعظامه، فكيف والتاريخ يقول: إن الآباء كانوا كراماً، وإن الآباء عظاماً. . . والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي. (وأن الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس، والزمان بالخير وإن جاد شحيح، فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة، أو كنز الزمان، ضن به ثم سخا. . .).

يا أخي القارئ: هذه عبرة ناطقة، أذرفها بين يديك في ذكرى هذا النابغة العبقري فإن أنت عرفته من آثاره ولم تره، فليس الخبر كالخبر! وإن كان خبره جديداً عليك (وما أخاله يكون)، فاعلم أننا في فقده حيال مجاهد كان سيفه القلم، وميدانه القراطيس، وجلاده عنيف قاصم، لا هوادة فيه مع أخصامه، (وأخصامه أخصام العربية):

ولطالما حاز النصر باهراً، والظفر مؤزراً. فرفع من شأن هذه اللغة الكريمة، ما أعلى منارها وسهل من عسيرها حتى حببها إلى غلف القلوب. وفي سبيلها لم يجاوز ميداناً إلا صال فيه ولا خصماً إلا ثبت في وجهه ثبات (أحد) و (أبي قبيس)

وأخيراً، أثخنته جراحات الدهر، فسكن الفؤاد النابض بحب العربية وأهلها، وصمت اللسان الذليق، وما كان ليصمت لولا أن أصمته الدهر. . .

ففي رحمة الله أبا عبيده.

محمد سليم الرشداق

ماجستير في الآداب واللغات السامية