مجلة الرسالة/العدد 82/بيت الإبرة
مجلة الرسالة/العدد 82/بيت الإبرة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
هي آلة عجيبة ذات مبدأ ثابت لا تحيد عنه، ولا تعرف غير الاتجاه نحوه، فهي دائماً وأبداً تتجه نحو الشمال والجنوب. هذه الآلة العجيبة المغناطيسية تستعمل في السفن البحرية لإدارة سيرها ولها تاريخ عجيب أوقع العلماء في حيرة وارتباك، إذ لم يستطع أحد منهم البت في نسبة اختراعها، بل لم يستطع الوصول إلى جواب شافٍ مرضٍ عن السؤالين الآتين: ممنْ اخترع هذه الآلة؟ لمن الفضل في إيجادها واستعمالها والاستفادة منها؟ يدعى الصينيون أنهم أول من اخترعها، ويدعى ذلك أيضاً العرب واليونان والاترسكيين والفنلنديين والطليان. تدعى كل هذه الشعوب السبق في اختراعها وفي استعمالها، وكل منها يقول إنه هو السابق في الانتفاع من هذا الاختراع، وكل منها يقول إن الآخرين كانوا عالة عليه في استعمال بيت الإبرة وفي الاستفادة منها، وكل منها يقول أيضاً إن الفضل في تقدم صناعة البوصلات البحرية رجع إلى علمائه ومشاهير بحارته
بحث الباحثون في أصل الإبرة واختراعها، وأخذ البحث معهم وقتاً طويلاً وسبب لهم عناء عظيماً، وبرغم كل ذلك لم يقفوا على الحقية، ولم يتمكن عالم من معرفة تاريخ تطور صناعة البوصلات البحرية معرفة تؤدي إلى نتائج جلية واضحة، معرفة تزيل سحب الشك والغموض المحاط بها أصل اختراع الآلة المذكورة، فهي حقاً آلة عجيبة ولها تاريخ أعجب، واختلاف الأمم على ذلك مما يثير الدهشة والاستغراب
لقد اطلعنا على أكثر ما قيل في هذا الصدد وعلى بعض ما كتبه العلماء في المجلات ودوائر المعارف في هذا الموضوع، واستطعنا من كل ذلك تكوين فكرة عن أصل الإبرة وتاريخ اختراعها واستعمالها وكيفية الانتفاع منها في الأسفار البحرية، وسنعطي رأياً في ذلك على ضوء معلومات وبحوث الذين سبقونا في ولوج هذا الباب
وقبل الخوض في البحث يجدر بنا أن نذكر شيئاً عن المغناطيس وعن رأي الأقدمين فيه فهذا مما يسهل علينا الدخول في موضوع المقال
عرف اليونان شيئاً عن المغناطيس، وكلمة مغناطيس مأخوذة من لغتهم، وقالوا بان فيه خاصية الجذب قبل غيرهم، قال أرسوط (حجر المغناطيس. . أنه حجريجتذب الحديد، وأجود أصنافه ما كان أسود مشوباً بالحمرة ومعدنه ساحل بحر الهند، وهو قريب من بلادها. . .) هذه الخاصية أثارت استغراب كثير من الأمم، فكانت مثار دهشتهم. وقد كثرت الأقوال الغريبة فيه (في المغناطيس)، ومن هذه الأقوال. أنه إذا أصاب المغناطيس رائحة الثوم أو البصل بطل تأثيره وذهبت خاصية الجذب، وإذا غسل بالخل عاد التأثير ورجعت إليه الخاصية المذكورة. وقال بعض الأقدمين بأن له خواص علاجية وصحية منها: أنه إذا علق إنسان المغناطيس على إنسان آخر نفع الأخير من وجع المفاصل، وإن لمسته المرأة التي تعسرت ولادتها وضعت في الحال، وأن الذي يعلقه في عنقه فقد استفاد كثيراً، إذ يكبر عقله وتقوى فيه ملكة الحافظة، وأن له سلطاناً على أمراض الطحال، واستعمله ابقراط علاجاً للعقم، وقال بليناس بأنه نافع ومفيد في أمراض العين، وقال ابن سينا إن درهماً منه يضاد التسمم بالحديد الذي كان يظن أنه سام. وجاء في بعض الكتب بأن المغناطيس كثيراً ما استعمله الأقدمون للجروح، وقال علماء العرب إنه ينفع في النقرس والحصا. ولقد علق الفرنجة على هذه الأقوال وفندوها، ولا يتسع المجال لذكر شيء من ذلك لا سيما والبحث فيها يخرجنا من موضوع مقالنا
وللمغناطيس عدا خاصية الجذب، خاصية أخرى هي من الأهمية بمكان عظيم، وهذه هي خاصية الاتجاه، وقد عرفها الصينيون وكانوا أول من قال بذلك. قال الكلمة التي يستعملها الصينيون لتدل على بيت الإبرة هي - ومعناه الإبرة التي تتجه نحو الجنوب، ويقول أيضاً: ويظهر أنهم استعملوا هذه الخاصية في الأسفار البحرية، وقد عملوا الآت لذلك ليس فيها شيء من الصنعة أو الإتقان. وقال ديفس إن الطرق التي كان يستعملها البحارة الصينيون في عمل الإبرة تدل على أنهم لم يستعينوا بغيرهم من بحارة الأمم، إذ لو استعانوا واطلعوا على الآت غيرهم لاستطاعوا أن يحسنوا صنعها ولما عملوها بالشكل الذي وجدت فيه عندهم، ويقول أيضاً: إن العرب بطريقة غير معروفة اقتبسوا آلة بيت الإبرة عن البحارة الصينيين وأنه عن طريق المسلمين دخل هذا الاختراع أوربا. وجاء في بعض الكتب أن البحارة الصينيين عرفوا خاصية الاتجاه في المغناطيس قبل الميلاد بمئات من السنين، وأنهم ذكروا ذلك في قاموسهم الذي وضع بعد الميلاد بمائة سنة، وقد استعملوه للإرشاد إلى الجهات الأربع في سفر البحر سنة 300م وأما عن تسمية هذه الآلة فيقول روبرتُسنْ إنه لم يكن في لغات العرب والعجم والترك كلمة تعني وأنهم كانوا يستعملون ذلك كلمة بوصلة، وهي كلمة مأخوذة عن اللغة الإيطالية، ولكن بادجر لا يوافقه على هذا تماماً حيث يقول: (رغم كون البحارة لعرب الموجودين حول البحر الأبيض المتوسط استعملوا كلمة بوصلة لتدل على كلمة إلا أننا نجد أن كلمة (بيت الإبرة) هي الأثر شيوعاً واستعمالاً في الأقطار الموجودة حول البحار الشرقية، والاصطلاح (بيت الإبرة) مستعمل في أكثر الكتب، وهذا ما جعلنا نفضل استعماله على غيره في هذا المقال. قلنا إن اليونان أول من عرف في المغناطيس خاصية الجذب، وأن الصينيين أول من عرف فيه خاصية الاتجاه، ولقد أخذ العرب والمسلمون هاتين الخاصيتين واستعملوهما في أسفارهم البحرية). جاء في كنز التجار: - (ومن خواص المغناطيس أن رؤساء البحر الشامي إذا أظلم عليهم الجو ليلاً ولم يروا من النجوم ما يهتدون به إلى تحديد الجهات الأربع يأخذون إناءً مملوءاً ويحترزون عليه من الريح بأن ينزلوه إلى بطن السفينة. ثم يأخذون إبرة وينفذونها في سمرة أو قشة حتى لتبقى معارضة فيها كالصليب ويلقونها في الماء الذي في الإناء فتطفو على وجهه ثم يأخذون حجراً من المغناطيس كبيراً ملء الكف ويدنونه من وجه الماء ويحركون أيديهم دورة اليمين فعندها تدور الإبرة على صفحة الماء ثم يرفعون أيديهم على غفلة وسرعة فان الإبرة تستقبل بجهتيها جهة الجنوب والشمال. رأيت هذا الفعل منهم عياناً في ركوبنا البحر من طرابلس الشام إلى إسكندرية في سنة أربعين وستمائة. وقيل إن رؤساء مسافري بحر الهند يتعوضون عن الإبرة والسمرة شكل سمكة من حديد رقيق مجوف مستعد عندهم يمكن أنه إذا ألقي في ماء الإناء عام وسامت برأسه وذنبه الجهتين من الجنوب والشمال. .)
وإذا اطلعت على كتاب سارطون القيم في (مقدمته لتاريخ العلوم) تجد أنه يرجح كون اختراع بيت الإبرة هو من نتاج قرائح المسلمين إذ يقول: (إن البحارة المسلمين على الأرجح هم أول من استعمل خاصية الاتجاه في المغناطيس في عمل الإبر في الأسفار البحرية، وكان ذلك في أوار القرن الحادي عشر للميلاد. . .) وبنفي سارطون القول بأن البحارة الصينيين استعملوا خواص المغناطيس وطبقوها في آلات للأسفار البحرية وغيرها. ولدى قراءة تاريخ العرب للعلامة سيديو نجد أنه ينفي كون البحارة الصينيين استعملوا الإبرة المغناطيسية في الأسفار البحرية ويدعم قوله هذا بما يلي: (. . . . وكيف يظن أنهم (أي أهل الصين) استعملوا بيت الإبرة مع أنهم لم يزالوا إلى سنة 1850م يعتقدون أن القطب الجنوبي من الكرة الأرضية سعير تتلظى. . .) وهو القائل أيضاً بأن العرب استعملوا بيت الإبرة في القرن الحادي عشر للميلاد في الأسفار البحرية والبرية وفي ضبط المحاريب
يظهر مما مر أنه ما من أحد بحث في هذه الآلة وتاريخ استعمالها واستطاع أن يصل إلى نتائج حازمة شافية تزيل شكاً اكتنف هذا الموضوع، وغموضاً استولى عليه. وعلى كل حال يمكننا القول بأن العرب عرفوا شيئاً عن المغناطيس، وأنهم عرفوا فيه خاصتي الجذب والاتجاه، وأنهم على الأرجح أول من استعملها في عمل الإبرة في الأسفار البحرية وأن آلة (بيت الإبرة) واستعمالها في الملاحة دخلاً أوروبا عن طريق البحارة المسلمين
وبينما أنا أهيئ هذا المقال قرأت مصادفة في أحد أعداد مجلة الهلال (مجلد 30 ج7) مقالاً عنوانه (العرب والبحار) بقلم الأستاذ المحقق عبد الله مخلص، وقد وجدت فيه شيئاً عن اختراع بيت الإبرة المغناطيسية فلم أشأ أن أمر على ذلك دون تعليق. جاء في مقال (العرب والبحار) بأن أبن ماجد هو الذي اخترع (الإبرة المغناطيسية) أو أنه هو (مخترع الإبرة المغناطيسية) وهذا النص هو الذي حفزني إلى التعليق. ما لا ريب فيه أن نسبة اختراع بيت الإبرة إلى ابن ماجد (أحد نوابغ المسلمين في الملاحة) خطأ وليس فيها شيء من الصحة. فقد ثبت لدى العلماء والباحثين أن استعمال الإبرة المغناطيسية كان معروفاً في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد بينما ابن ماجد وجُد في القرن التاسع للهجرة أو القرن الخامس عشر للميلاد، فالقول بأنه هو مخترع الإبرة المغناطيسية غلط، ولا يرتكز على منطق عدا كونه خلاف الواقع. وقد تكون هذه النسبة آتية عن مهارته في تسيير السفن وعن براعته في فن الملاحة، وعن وقوفه على أصول الإبرة المغناطيسية، وكيفية استعمالها وفهمه المبادئ المنطوي عليها عملها. وعلى ذكر ابن ماجد أقول: قليلون جداً الذين يعرفون أن ابن ماجد من نوابغ المسلمين في الملاحة وأنه كان يلقب بأسد البحر الهائج، وأنه (هو الربان العربي الذي سير الأسطول البرتغالي بقيادة فاسكودي غاما في طوافه حول الأرض من مالندي وهي جزر في المحيط الهندي على ساحل أفريقيا الشمالية إلى كلكتا في الهند. . .) ويقال إن أباه ومن قبله جده كانا من رجال الملاحة المشهود لهم بالمهارة والبراعة وقد وضعا نظريات جديدة ومفيدة في علم البحر، ثم جاء من بعدها ولدهما ابن ماجد فألف كتباً قيمة في علم الملاحة وقد بناها على المشاهدة والتجربة منها: كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، وكتاب علم الملاحة ويشتمل على تاريخ الملاحة وعلاقتها بالنجوم في خليج العجم والبحر والهندي وشواطئ جزيرة العرب وسومطرة وسيلان وزنجبار وغيرها، وكتاب حاوية الاختصار في أصول البحار، وله أيضاً أرجوزة في علم الملاحة، وله قصائد أخرى في وصف شواطئ جزيرة العرب. وكان ابن ماجد يلقب نفس بشاعر القبلتين ويعرف بسليل الأسود. ولقد بقيت القواعد التي وضعها ابن ماجد معتمد البحارة المسلمين في مالندي إلى أواسط القرن التاسع عشر للميلاد. وقال برتن الإنكليزي إن بحارة عدن في سنة 1271هـ (1854م) كانوا قبل السفر يقرءون الفاتحة لروح الشيخ ماجد. ولا ريب إن المقصود بالشيخ ماجد هو ابن ماجد
نابلس
قدري حافظ طوقان