انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 819/نصير الدين الطوسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 819/نصير الدين الطوسي

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 03 - 1949



حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو

والمغولي

للأستاذ ضياء الدخلي

أما ياقوت الحموي فإنه قد توفي عام (616 هـ) أي قبل وفاة الطوسي بـ (46) عاماً، هذا العهد لم يكن الطوسي قد اتصل بهولاكو، إذ أنه خرج من سجن قلعة الموت واصطحبه هولاكو في عام 654 هـ وإذن فالمدارس والحياة العلمية التي يصفها ياقوت كانت في مراغة قبل مجيء الطوسي إليها، ولربما كان الطوسي وقت وفاة الحموي مؤلف معجم البلدان - في طوس حيث كان يطلب العلم.

والغرض أن المراغة كانت مدينة علم وأدب فاختارها الطوسي مقراً لمدرسته. ويقول جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم: (إن حسن مناخها وصلاح جوها للأرصاد الفلكية بصورة ممتازة - شجع الطوسي على بناء مرصده فيها) وقد التف حول الطوسي فيها جمهور من العلماء وطلاب العلم حتى أنه عندما رحل منها إلى بغداد في عام (1274 م) ارتحل في جيش جرار منهم. قال ابن شاكر (المتوفى عام 764 هـ) في فوات الوفيات (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدة أشهر ومات).

فالطوسي في جمعه رجال العلم حوله حفظ سلسلة الثقافة الإسلامية في الشرق موصولة الحلق متصلة الأسباب وأبقى منار العلوم مضيئاً لم تطفئه هجمات الأمم الابتدائية؛ وإذن فأي خدمة عظيمة توازي ما قام به الطوسي رحمه الله؟

نعم لقد ألب عليه بعض المتعصبين من جهلاء المتقشفين الذين أمسكوا بقشور الدين وخسروا لبابه - لقد أثار عليه حفيظة هؤلاء تشيعه، ولا ريب أن هذا العامل الذي لا أهمية له في الأوساط المثقفة العصرية - كان في العصور الوسطى ذا أثر في توجيه نقد الناقدين وتسديد حملاتهم الزائفة. ولا يهم مؤرخ الحضارة اليوم ما كان يعتنقه الشخص من عقيدة دينية بقدر ما يهمه من آثاره العلمية والأدبية وما أنتجته عبقريته؛ فإذا وزنا قيمة بهذا الميزان رجحت كفته، فقد رأيت في تتبعاتي الخاصة مدى اهتمام الغربيين بهذا الفيلسوف الرياضي العظيم. ففي الوقت الذي ترى فيه الرجعيين الجامدين من المتزمتين يكيلون السباب جزاءاً لهذا الفيلسوف العظيم تجد كبار مؤرخي الحضارة الإسلامية يسجدون لعظمة العبقرية النادرة في شخص نصير الدين الطوسي وينسبون إليه المعجزات في الرياضيات ويسجلون له الابتكارات والاكتشافات والاختراعات الرائعة فتسخر من هؤلاء الجهلاء الذين تحاملوا على كرامة الطوسي، وأساؤا إلى سمعة المسلمين في جهلهم بقيم رجال العلم وانصياعهم لداعي التعصب الذميم. لقد كان أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) يخبط خبط عشواء (رحمه الله وعفى عنه)، إذ قال في ص 297 من الجزء الثاني من كتابه (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان).

(وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفى علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد (يقصد نصير الدين الطوسي رحمه الله) وقعد، ونقضه بكتاب سماه (مصارعة المصارعة) ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئاً وأنه لا يفعل شيئاً بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور. وبالجملة فكان هذا الملحد (أي نصير الدين) هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر). ومن قرأ كتب الطوسي في علم الكلام آمن أن ابن قيم الجوزية مفتر على الرجل، وأن كتب الطوسي في الإيمان والعقائد وصلت إلى برلين، ولم يصل أسمها إلى مؤلف إغاثة اللهفان إلى الباطل والبهتان. وقد شرح كتاب الطوسي تجريد العقائد جماعة من العلماء والمتكلمين الأفاضل وفي مقدمتهم المولى على القوشجي الشافعي من سمرقند والعلامة الحلى من العراق. ثم يستمر ابن الجوزية في هذيانه فيقول: (والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه (أي عن الطوسي) وعن إمامه ابن سينا. وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه. .) ولا أدري كيف حكم بركاكة ألفاظ أرسطو في لغته اليونانية التي أعتقد أنه يجهلها! ولنعد إلى حديث المستشرق العلامة الفرنسي سديو في كتابه تاريخ العرب العام.

قال (ص 269 من تعريب عادل زعيتر) دخل المغول بغداد عنوة فانتهبوها في سبعة أيام فحرقوا بعض المخطوطات الثمينة التي وجدوها في المكتبات والمدارس وألقوا بعضها الآخر في نهر دجلة فأصبحت مياهه من مدادها على حسب رواية مؤرخ عربي مبالغ فيها.

نهب المغول ما اشتملت عليه مدينة المنصور بغداد من الكنوز العجيبة مع أنهم سلبوا بخارى وسمرقند ومرو ونيسابور وأصفهان فيما مضى، وخنق المستعصم بأمر هولاكو فجرت جثته الدامية تحت أسوار بغداد التي كانت شاهدة على عظمة العباسيين وانحطاط هؤلاء وذلهم.

وأمحى العرب بين تلك الثورات (الداخلية) المتصلة - أمام برابرة الشمال والترك والمغول ولم يبق لهم كيان سياسي خارج جزيرة العرب أي تواروا من مسرح تاريخ أمم الشرق؛ بيد أن الأثر العظيم الذي طبعوا به الحضارة لا يزال ظاهراً، ولم يؤد ما وقع في آسيا من الانقلابات إلى غير تأييده بأسطع بيان؛ فقد رأينا أن ملكشاه السلجوقي اقتبس من مدرسة بغداد إصلاح التقويم الفارسي، وأن محموداً الغزونوى اتخذ مشاوراً له ذا التأثير العظيم في عصره العبقري العالمي البيروني.

ولما ظهر هولاكو المغولي الذي لا يعرف كيف يصون من اللهب الآثار الرائعة التي جمعت بفضل ذوي البصائر أذعن لنفوذ نصير الدين الطوسي فأذن لهذا الرياضي الشهير في إقامة مرصد فخم بمراغة.

ولما أصبح أخوه (كوبلاي) عاهل الصين نقل إلى مملكة ابن السماء معارف العرب. ولما مضى قرنان قامت على أنقاض الدولة المغولية دولة تيمورلنك الذي اعتقد وهو على رأس الترك الشرقيين أنه مرسل من الله ليملك آسيا بأسرها فخلفه ابنه شاهرخ وحفيده (ألوغ بك) فعد هذان الأميران ممثلي المدرسة العربية الأخيرين، ثم كان للهندوستان التي أنارها علم البيروني منذ عهد أصحاب غزنة بابن الأخ الصغير لأولوغ بك والمؤسس لدولة المغول في الهند (بابر - كان للهندوستان حافز مثمر إلى ثقافة العرب (في عهد بابر) انتهت شهادة المستشرق سيديو للعرب.

ولنصغ إلى شهادة مستشرق آخر هو السنيور كرلونلينو الذي كان أستاذاً بالجامعة المصرية وبجامعة بلرم بإيطاليا (قديماً) فقد جاء في كتابه (علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى) وهو ملخص المحاضرات التي ألقاها بالجامعة المصرية، وقد طبع الكتاب بمدينة روما سنة 1911 م.

قال نلينو: (أما كتب العرب الفلكية فيجوز تقسيمها إلى أربعة أنواع؛ الأول، الكتب الابتدائية على صفة مدخل إلى علم الهيئة الموضح فيها مبادئ العلم بالأجمال، ودون البراهين الهندسية كالجاري في أيامنا في كتب السموغرافيا - ومن هذا النوع كتاب التذكرة لنصير الدين الطوسي وكتابه غير مطبوع، ومنها الملخص في الهيئة للجغميني المتوفى سنة 745 هـ (الموافق 1344 م) طبع في إيران مع شرح قاضي زادة الرومي المتوفى في نحو منتصف القرن التاسع.

النوع الثاني، الكتب المطولة المستقصى فيها كل العلم المثبتة لجميع ما جاء فيها بالبراهين الهندسية المتضمنة أيضاً لكافة الجداول العددية التي لا غنى عنها في الأعمال الفلكية وهذه الكتب على منوال كتاب المجسطي لبطليمومن فمنها تحرير المجسطي لنصير الدين الطوسي ونهاية الإدراك في دراية الأفلاك لقطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي (وهو تلميذ نصير الدين).

قال نلينو و (النوع الثالث) الكتب المعدة لأعمال الحساب والرصد فقط المسماة أزياجاً أوزيجات أوزيجة، ولفظ زيج أصله من اللغة البهلوية التي كان الفرس يستخدمونها في زمن الملوك الساسانيين يقول نلينو في هذه اللغة زيك معناه السدى الذي ينسج فيه لحمة النسيج، ثم أطلق الفرس هذا الاسم على الجداول العديدة التي يبنى عليها كل حساب فلكي مع إضافة قوانين عملها واستعمالها مجردة في الأغلب عن البراهين الهندسية. ومنها الزيج الصابي لمحمد جابر البناني المطبوع بروما في ثلاثة أجزاء، وكتب أخرى عديدة (أقول ومنها الزيحالايلخاني للطوسي).

وقد ذكر نلينو نصير الدين في عدة مواضع من كتابه فقال ص 198 إن أحد علماء القرن السابع للميلاد أعنى سلمسيوس الفرنسي عثر على اسم أحد علماء الفلك البابليين في شرح نصير الدين الطوسي على كتاب الثمرة لبطليموس فزعم الطوسي أنه منجم بابلي صاحب كتاب يوناني ذائع الصيت وموضوعه صور الوجوه، ألفه في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح.

وأثنى نلينو على الطوسي ص 236 فقال إن المستعمل الآن في أيامنا تسمية الضلع المقابل للزاوية القائمة (وتراً) وهذا الاستعمال قد سبقنا إليه الطوسي في كتابه تحرير أصول اقليدس في الهندسة. وقال نلينوص 244 ومما يستحقى الذكر أن العرب توصلوا في النصف الثاني من القرن الرابع إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، بل وضعوا هذه القاعدة أساساً للطريقة التي سموها (الشكل المغنى) في حل المثلثات الكروية. قال نصير الدين الطوسي في كتاب الشكل القطاع المطبوع في القسطنطينية سنة 1309) الخ وليس هنا مقام بيان ما خلد الطوسي من آثار رائعة في الهندسة وعلم المثلثات وباقي الرياضيات فقد أفردت لذلك مقالا مستقلا. إنما نقتصر في حديثنا اليوم على جهود الطوسي في مرصد مراغة وفي علم الفلك والهيئة - فقد كانت حديث المستشرقين ومؤرخي الحضارة الإسلامية العربية ولم نجد من ضرب صفحاً عن ذكره أو ولغ في ذمه إلا من أعماه التعصب الذميم.

الحق أن الطوسي رحمه الله من مفاخر الثقافة العربية ومن العقول الجبارة التي غمرت الأوساط العلمية بنتاجها الخصب، فازدهر تاريخ الشرق الأوسط. وقد أنقذ الطوسي منار العلوم بعد أن هددته عاصفة المغول وكادت تنطمس أنواره وتنمحي آثاره؛ فهو الذي منع شر المغول عن الفلاسفة ورجال العلم وأنفق واردات الأوقاف الإسلامية في بناء حياة علمية جبارة في مراغة بقيت آثارها في المكتبة العربية وكم من نفس أحياها باستنقاذها من سيوف التتار، وكم من قلب أحياه بالعلم.

ولنصغ إلى الأستاذ فيليب حتى يحدثنا في كتابه (تاريخ العرب) ص 377 - 378.

وإن هولاكو بعد تخريب بغداد بسنة شرع عام 1259 بشيد بقرب بحيرة بورمية مرصد مراغة العظيم، وقد كان أول مدير له نصير الدين الطوسي الشهير (نقلاً عن ابن العبري ص 500، وعن جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله).

وفي هذا المرصد نظم جداول فلكية جديدة سماها (الزيج الايلخاني) إذ ألفه على شرف هولاكو أوخانات المغول (أي ملوكهم) وقد ذاعت الجداول وأصبحت مألوفة في جميع آسيا حتى في الصين، وأن أثار هذا المرصد القصير العمر لا تزال قائمة حتى الآن (1937 م) وبالقرب منها مكتبة أسسها هولاكو أيضاً، وقد قيل إنها كانت تحتوي 400000 مجلد، وأكثر هذه الكتب كان قد نهبه جيوش المغول في سورية والعراق وإيران.

وقال فيليب حتى ص 683: لقد حافظ العرب بعد منتصف القرن الثالث عشر على قيادتهم للعلم من الفلك والرياضيات. حاوية المثلثات، ومن الطب خاصة علم أمراض العيون، ويقول فيليب حتى وكان الإقبال على التأليف - من العلماء الفرس الذين يكتبون باللغة العربية (والحق أن كثيراً من المؤلفين كانوا عرباً أفحاحاً) وكان مركز نشاطهم مرصد الخان (هولاكو) ومكتبته في مراغة المؤسستين اللتين كانتا تحت إشراف نصير الدين الشهير (1201 - 1264 م) يقول فيليب حتى ومن الجميل أن تقرأ كتاب الكاثوليكي اليعقوبي السوري أبى الفرج ابن العبري (مختصر تاريخ الدول) وقد أرجعنا فيليب إليه لأنه كان معاصراً للطوسي وكان في مراغة كما تقدم.

ويظهر أن فيليب حتى لم يطلع على كتاب ابن الفوطي الذي كان أميناً لمكتبة مراغة وكاتباً لنصير الدين، وقد طبع في بغداد بإشراف الدكتور مصطفى جواد، وعلى كل فإن من الغريب أن ينسى فيليب حتى المؤلفين من العرب في ذلك العهد وهم كثيرون ومنهم من أخذه هولاكو إلى مرصد مراغة كمؤيد الدين العرضي الدمشقي، وابن الفوطي ومحي الدين المغربي وآخرين في مصر والشام والأندلس وبغداد وعلى الأخص في الحلة قرب بابل التاريخية على الفرات.

ومن أولئك العلامة الحلي تلميذ الطوسي وقد شرح كتابه التجريد في الكلام وقرأ عليه الإلهيات بالشفاء لأبى علي بن سينا وبعض التذكرة في الهيئة من تصنيفه. وأما ابن الفوطي فقد نقل ابن العماد الحنبلي أنه في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف فلازمه وأخذ عنه علوم الأوائل وبرع في الفلسفة وغيرها وأمده بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم. ومن معاصري الطوسي - السيد علي بن طاوس الحلي والشيخ ميثم بن علي البحراني. ومن مشايخه معين الدين سالم ابن بدران المصريوآخرون رحمهم الله جميعاً.

ضياء الدخيلي