مجلة الرسالة/العدد 818/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 818/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
راجي الراعي يعود إلى ميدانه:
إلى الأديب الأستاذ أنور المعداوي
لم يسعدني الحظ بعد بالتعرف إليك - وبين النعمة والنقمة نقتطان هما الحظ - ولكنني قرأت كلمتك عن (قطراتي) في (الرسالة) فتبينتك على ضوء قلمك الصافي العميق صفاء الينبوع وعمقه، وما أجمل الصفاء والعمق يجتمعان! ما أجمل الأديب - وأنت هو الأديب - يفتش عن الكتاب العاري الذي لا يتشح بغلاف، لعل فيه قوة مكنونة ضائعة فيلبسه وشاحه ويجبي صاحبه بتلك الكلمات الفواحة بطيب الخلق وعبيره. . .
لقد هزني في الصميم قلمك الحي الصادق الصريح المخلص للأديب وبنيه كما هزك كتابي. وأنا كنت هجرت الأدب لرأيتني أعود إليه اليوم وقد أيقظت ما رقد في صدى! ولكن القضاء لم يشغلني ولم يشغلني عن الأدب الذي هو محور كياني وقبله أملي في هذه الحياة الصغيرة القصيرة التي لا تتسع للحلم البعيد الكبير، وكأن بينهما عداء قديما لا أدري من أثاره ولماذا أثير. . .
أحييك شاكرا لك حسن ظنك، معجباً بروحك وكأسك التي لا شائبة فيها ولا ثمالة.
إن لي إلى جانب الفجر في كل يوم فجري الذي يأتيني بتلك (القطرات) ويأبى أن يفارقني كأنه يقول: أنت صاحب القطرات ولست شيئاً آخر؛ ذلك هو حكم القدر في الناس يفرغهم على الصور التي يختارها. . .
لدي الآن بالعربية من طراز الكتاب الذي وقعت عليه (القطرات) التي أبعث بها إليك، ما يسمع ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير أود إخرجها في كتاب للأقطار العربية، ولكنني لم أوفق بعد في تحقيق هذه الأمنية، ولدي من الطراز نفسه كتاب الإنجليزي لم يطبع بعد، وكتاب بالفرنسية طبع في عام 1936 أبعث إليك أيضاً بنسخة منه. . .
منذ ربع قرن وأنا أكتب وتبقى لي كتبي لا أوافق في نشرها على الملأ، وأنا لا أملك في الدنيا غير قطراتي التي تفتش عن كؤوسها. . . وكأنه كتب للخيال الخلاق أن تنكره الحياة لمواليده وتحرمها الغذاء والدواء، فتظل عرباته في العراء تتحرق وتتلوى بين الضعفاء والبلداء، تلك هي المعركة الناشبة منذ الأزل بين الأرض والسماء، وهذا هو ما في ما تدعوني إليه موضع العلة ومصدر البلاء! ولكنني مازلت أعتقد أن في الناس على وفرة القوالب التي أفرغوا فيها جيشاً من الخلق إلى جانب قراء الروايات والأدب السهل الرخيص، تلذ له الموجة الفكرية الوضاءة القصيرة التي تحمل شيئاً جديداً. ولا هم لي الآن إلا أن أطل بفجري وندا على هذه الدنيا المترامية الأطراف دنيا العروبة وفي رأسها مصر. فإذا سيقت وشربوا ظللت في الكرمة أسقي وظلموا يشربون حتى تفرغ الدنان، ولن تفرغ ما تبقي القلم في يدي. . .
إن كلمتك هي التي تملى على ما أكتب، وإني أتمنى أن يكون هذا الذي جرى به قلمك الجميل على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، تنيرها الروحانية ويوثق الأدب عراها. . .
والسلام عليك من المخلص:
راجي الراعي
قصر العدل - بيروت
إلى الأديب المبدع الأستاذ راجي الراعي:
من حق رسالتك الرائعة على أن يقرأها الناس، لأنها في رأي الفن قطعة من الفكر المحلق والبيان المشرق والخيال الوثاب. ولن أنسى أنني مدين بالشكر لقطرات نداك لأنها هي التي قادتني إليك، وعلى جناحيها طفت بسمائك وحلقت في أفقك، وصافحتك بروحي من وراء الآماد والأبعاد! إن رسالتك لتؤكد لي مرة أخرى أنك تحمل بين جنبيك قلب إنسان، وتحمل بين يديك قلم فنان. . ومن هذين المنبعين يفيض إعجابي بك وتقديري لك، وكلاهما همسة يتردد صداها بين حنيا الضلوع وشغاف القلب. . .
وأنا سعيد بأن يكون هذا الذي جرى به قلمي على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، وإنها لصداقة تنيرها الروحانية كما تقول ويوثق عراها الأدب، وشاكر لك هذا التقدير الكريم الذي أضفيته على قلم يهتز حياء من فيض ثنائك، وحسبه أنه قد اغترف يوما من فيض نداك! وإذا كان القضاء لم يشغلك عن الأدب، فإن الأدب ليعتز بأن تكون في ميدانه، تسقى الظامئين من كؤوس خمرتك الفكرية المعتقة في دنان الإلهام!
أجل يا صديقي، إن بإمكانك هنا ولي هناك. . . إنك صاحب القطرات ولست شيئا آخر، وإن فجرك الذي يشع في بأضواء النبوغ ليهدي السالكين إلى فجاج الحق والخير والجمال.
بقى أن أقول لك إن راجي الراعي القاضي لم ينصف راجي الراعي الأديب، وإن ميزان عدلك قد ظلم ميزان فنك: قطراتك أنت تفتش عن كؤوسها؟ كلا يا صديقي، أن كؤوسنا نحن هي التي تفتش عن قطراتك! مواليد خيالك الخلاق تنكر لها الحياة؟ أنك لتظلم الحياة في جوهرها المصفى. . . إن الحياة لا يمكن أن تبخل على الموهوبين من أمثالك بالذكر الجميل! أما الذين يبخلون فهم والبلداء الذين حرمهم الله نعمة الذوق والفكر والشعور، وأظنك توافقني على أن هذا القطيع الآدميين لا يستطيع يغير شيئاً من وجه الحقيقة، ولا أن يقيم الميزان لأقدار الناس، ولا أن يحول بين فيض الإبداع وبين التدفق في أودية الروح ومسارب العاطفة!
عليك إذن أن تكتب لهؤلاء الذين تلذ لهم الموجة الفكرية الوضاءة التي تحمل شيئا جديداً. . وثق أنك إذا سقيت فستظل في الكرمة تسقى ولن تفرغ الدنان: إن كرمتك يا صديقي لنمت جذورها إلى أرض العبقرية بأسباب، أما دنانك فأنا أبشرك منذ اليوم بكثرة الظامئين المتلهفين إلى أن يشربوا نخب أدبك العالي وفنك الرفيع!
أخلص الشكر على هديتك الكريمتين. . . وإلى اللقاء في رسائل خاصة، تنقل إليك والي ومضات من الفكر ودفقات من الوجدان.
توفيق الحكيم والفن الإنساني:
منذ أيام دق جرس التلفزيون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث هو الأستاذ توفيق الحكيم. . . لقد تفضل الأستاذ الصديق فاتصل بي ليقول إن كلمات كتبتها عن (شهداء المثل العليا) قد تركت أثرها في نفسي وصداها في قلبه، وكم يود أن يستمع لكثير من هذه النبضات الإنسانية فيما أكتب من تعقيبات! وقلت للصديق الكريم رداً على جميل تقديره: يبدو أن بين فكرينا شيئاً من توارد الخواطر، وأن بين قلبينا شيئاً من توارد الخفوق. . . لقد كنت على وشك الاتصال بك لأقول لك أيضاً إنني أود أن تخرج لنا روائع أخرى يبلغ فيها الفن الإنساني ذروته كما بلغها في (سليمان الحكيم)! ثم تشعب الحديث من الفن الإنساني إلى غيره مما عرضنا له من فنون.
والحق أني لم أكن قد قرأت بعد هذه المسرحية الرائعة حتى تفضل الأستاذ الحكيم فأهداها إلي في طبعتها الثانية التي ظهرت منذ قريب. . . ولقد خرجت بعد قرأتها بحقيقة ملموسة، تغيرت على ضوئها نضرتي إلى معدن الإنسانية في قلب هذا الفنان. إن من يقرأ (سليمان الحكيم) يلمس أن صاحبها يملك قلبا يهتز اهتزازا عميقا أمام جيشان العاطفة! ولكن أين كانت كل تلك النبضات الشعورية والحركات النفسية، ولم لم تفرض نفسها على بقية إنتاجه بمثل هذا التدفق الذي عطر كل صفحة من صفحات (سليمان الحكيم)؟!
هناك جواب واحد لهذه السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه نفسيات أبطاله، هناك حيث تجد الصراع بين ذهن وذهن لا بين عاطفة وعاطفة، ومن هنا تختفي الومضات الوجدانية في تيه من التأملات الذهنية، ولكنه في (سليمان الحكيم) شيء أخر. . . إن جو المسرحية كان جوا عاطفيا خالصا هيأ للشعور الإنساني أن يظهر على حقيقته، حين تراجع الفكر المجرد متخليا عن مكانه للروح المرفرفة والقلب الخفاق!
هذا أمر سأعرض له بالتفصيل عند الحديث عن مسرحية (الملك أديب) في الأيام المقبلة. . . كل ما أرمى إليه من وراء هذه الكلمة هو أن أقرر إنسانية الفن في شخصيته توفيق الحكيم الأدبية؛ وتلك ناحية كان يخالجني فيها الشك قبل أن أقرا (سليمان الحكيم) وقبل أن أستمع لرأي صاحبها في (شهداء المثل العليا)!
تحية قلبية وأخرى قلميه:
تحت هذا العنوان تحدثت في عدد مضى من (الرسالة) عما تعانيه الحياة الأدبية في هذه الأيام من تخمة في الكتاب وأزمة في النقاد، حتى يتعذر على الناقد أن يتسع وقته لقراءة هذا العدد الضخم من الآثار الأدبية والكتابة عنها! ثم قلت في ثنايا كلمتي إنني لم أكتب عن أي أثر أدبي يهدي إلي إلا إذا لمست فيه نفعا للأدب وفائدة للقراء، وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الشرط أن أقدم إلى صاحبه تحية قلبية. . . أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد القارئ ثروة فكرية جديدة فهو جدير بتحية أخرى قلميه! قلت هذا فكتب إلي بعض القراء عاتبين ومعترضين: إن النقد كما يقولون لم يخلق ليقصر على التنويه بالكتب القيمة والآثار النافعة لأن أصحاب هذه الكتب قد بلغوا من الشهرة والنضج وإقبال القراء ما يجعلهم في غير حاجة إلى التعريف بكتبهم والتحدث عن جهودهم، وحسبهم أن مكانتهم الأدبية قد بلغت من الصمود والمنعة ما يحاول بينها وبين الاهتزاز أمام عواصف النقد وأعاصيره! أما صغار الكتاب فما أحوجهم إلى العطف والتشجيع، والتوجيه الذي يسدد خطاهم وينمي ملكاتهم، ويغذي في نفوسهم نزعة التشوف إلى بلوغ الكمال. فالأعراض عن كتبهم أمر يثبط العزائم ويجني على المواهب ويبعث على الخمول. . . ورب شجرة تتعهد بالسقيا وتخص بالرعاية، تنموا وتشتد أعوادها وتخرج للناس كل شهي من الثمر وكل مرجو من الفائدة!
إن ردي هؤلاء العاتبين المعترضين هو أنني حين عرضت لهذه المشكلة لم أقصر إغفال الكتابة على أديب صغير دون أديب كبير، ولكني قصرته على كل كتاب يضيع معه الوقت سواء أكان صاحبه يكتب منذ ربع قرن أم كان يكتب منذ ربع شهر! أما قولهم بأن صغار الكتاب أحوج إلى التحدث عن آثارهم من كبار الكتاب؛ لأن هؤلاء الكبار تحميهم مكانتهم الأدبية من زلزلة النقد وهزات الناقدين فلا أوافقهم عليه. أن مقالا واحدا يتسم بالفهم والعمق والأصالة جدير بأن يزلزل سمعة كبر أديب من أصحاب المكانة المرموقة، وجدير بأن يبقي كتبه في رفوف المكتبات لا تمتد إليها أيد ولا ترنو عيون! ولقد أصبحنا اليوم نجتاز مرحلة فكرية بلغت الأوج وأوفت على الغاية؛ مرحلة ليس فيها أديب كبير ولا أديب صغير إلا في حساب الموازين الناضجة التي لا تفرق بين المواهب والثقافات، على ضوء الأعماق وحدها لا على ضوء الأهواء والغايات! ومع ذلك فلا بأس من الكتابة عن كتب كنت خصصتها بتحية القلب دون تحية القلم، ولا اعتراض بعد ذلك ولا عتاب!.
رسالة ماجستير في كلية الآداب:
كان ذلك في الأسبوع الماضي إذا لم تخني الذاكرة، حين توجهت إلى كلية الآداب وحملت نفسي ما لا تطيق واستمعت لمناقشة رسالة عن (العماد الأصفهاني). . . أنا لا أظلم الطالب الذي فاز بالماجستير في الآداب من درجة جيد، فكم من طلاب فازوا قبله بالدكتوراه من درجة جيد جداً وممتاز؛ فهذه رسالة عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) حظي صاحبها بمرتبته الشرف الأولى واستحق شكرا الجامعة، ومعه ذلك فقد طبعها لينتفع بها الناس فبقيت لتأتنس بها رفوف المكتبات! وتلك رسالة أخرى في الفلسفة عن (الزمان الوجودي) حظي صاحبها أيضاً بمرتبته الشرف الأولى مع لقب أول فيلسوف مصري، ومع ذلك فقد طبعها ليرفع بها رأس الفلسفة الوجودية في الشرق فلم يبقى لها وجود. . . وكم من رسائل أخرى لقيت مثل هذا التقدير وانتهى بها الأمر إلى نفس المصير. . .
تخرج من هذا كله بأن لكلية الآداب نظرتها إلى قيمة الرسائل العلمية، وأن للرأي العام الفني نظرته. والفرق بين النظرتين هو الفرق بين القدرة على جمع النصوص من بطون الكتب وترتيبها وتبويبها وإخراجها في رسالة، وبين القدرة على الغوص في أعماق تلك النصوص ومراجعتها وتمحيصها وإخراجها في نظرية أو مذهب! إن خمسين صفحة تحفل بوثبات الذهن المحلق خير ألف مرة من مئات الصفحات التي لا تزخر بغير الترديد والتقليد ولكن من يسمع؟!
لحظات مع إيليا أبو ماضي
شيء في شعر المهجر يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجاوب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو صلة الفن بالحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق، ونبع شعور متدفق، ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أبو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له منذ أسابيع في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفق، وأصالة شاعرية!
عنوان القصيد (عجباً لقومي). ومطلعها هذه الأبيات:
حي الشآم مهنداً وكتاباً ... والفوطة الخضراء والمحربا
ليست قباباً ما رأيت وإنما ... عزم تمرد فاستطال قبابا
فالثم بروحك أرضها تلثم عصو ... راً رأى للعلى سكنت حصى وتربا
والى العدد المقبل حيث يتشعب بها الحديث.
أنور المعداوي