مجلة الرسالة/العدد 817/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 817/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأسمر يسطو على شعر الزين:
قال الشاعر الذي فقد منذ عام، الأستاذ احمد الزين في مطلع رثائه لشاعر النيل حافظ إبراهيم:
أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوب دم أقضي به حق صاحب
أودع صحبي بعد واحداً ... فأفقد قلبي جانباً بعد جانب
تساقط نفسي كل يوم فبعضها ... بجوف الثرى والبعض رهن النوائب
فيا دهر دع لي من فؤادي بقية ... توصل ودود أو تذكر غائب
ودع لي من ماء الجفون صبابة ... أجيب إليها في البين صيحة ناعب
وأخيراً قال الأستاذ محمد الأسمر في تأبين المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا:
أفي كل يوم دمعة خلف غائب ... وفي كل يوم لوعة بعد غارب
رجال كأمثال النجوم فثاقب ... مضى وهو لماع إثر ثاقب
لأوشك دمعي أن تجف شؤونه ... على كل ماض ليس يوماً بآئب
إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب ... بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب
أما يسترح الشعر في كل ساعة ... ورثاء لحر، أو رثاء لصاحب
وقد كان الأسمر صديقاً للزين، فهل استباح السطو على شعر صديقه الراحل بحق الصداقة؟ وهل هذا نوع جديد من الوفاء بين الشعراء؟ أو هو مذهب جديد في الأدب يقضي بإرث الصديق فيما قاله من الشعر. . .؟ أو حسب الأسمر أن الزين قد قضى وانطوى شعره، وأن أحداً لن يراه وهو يتسلل إلى مراثيه يستمد منها ما يجلجل به على المنابر؟ على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم، أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهرياً مكشوفاً. . دع عنك اتحاد الوزن والقافية، وانظر إلى الألفاظ والمعاني. اللهم إلا إذا قدرنا جهده الجبار في استبدال (يوم) ب (حين) والعدول عن (وقفة) إلى (دمعة) ثم تحويل (إثر ذاهب) إلى (خلف غائب) في البيت الأول مثلاً! وكأني به قد أمسك بكل بيت من أبيات الزين، فخنقه، فأخذ أجزاء منه ميتة فبنى بها بناء لا تسكنه روح، فقضاء حق الصاح بسفح الدموع قضى نحبه في البيت الأول على يد الأسمر، وكذلك كان مصير فقدان القلب تباعاً من توديع الراحلين المتتابعين في البيت الثاني، وهكذا لحقت بقية الأرواح النابضة في أبيات الزين يروح صاحبها وانتقلت إليه في العالم الآخر. وانظر إلى الزين يستبقي الدهر بعض فؤاده ويسأله أن يدع من ماء الجفون، ليقضي حق الصاحب الورود ويستجيب لداعي البين حين يصيح الناعب، ثم انظر إلى الأسمر الملول الذي يطلب الراحة للشعر، فالأول يندمج في جو الحزن ويستعذب بكائه ويستبقي للآتي بعده، أما الثاني فهو ضجر من وقته من وقفته يستعجل الخلاص منها، فيقول:
أما يستريح الشعر في كل ساعة ... رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟
ولست أدري لم يرثي (الصاحب) إذا كان شيئاً آخر غير (الحر)! كما لا أدري معنى التنويع بين الحر والصاحب، ولم لا يكون الصاحب حراً؟
وبعد فقد كان أحمد الزين وفياً لأصدقائه الراحلين من الأدباء والشعراء، حتى لقد مراثيه عليهم، فهل هذا جزاؤه ممن رحل عنهم من الأصدقاء؟ لكأنه كان يقول في نفسه حينما قال في حافظ:
وفيُّ الرسل بين معاشر ... نصيب الحمى منهم وفاء الثعالب
يدورون بالأمداح يبغون مأرباً ... فيا ضيعة الأوطان بين المآرب
أو كما قال في ختام هذه المرئية الخالدة:
إذا الشعب بالإهمال أرسب عالياً ... فلا بدع لو يعلو به كل راسب
بين مدير الإذاعة وأم كلثوم:
لم يعد خافياً ما نشأ من خلاف بين الإذاعة وبين أم كلثوم في شأن إذاعة مسجلاتها الغنائية. ويظهر أن الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة قد هالته طلبات أم كلثوم الباهظة فوقف في سبيلها. ومن هنا نشأت بين الاثنين معركة طريفة. تستمد طرافتها من مظهرها، فقد كتب الأستاذ محمد التابعي يدافع عن أم كلثوم ويقول باستحقاقها ما تطلب من مال، ويهاجم شخص المدير. ورد عليه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي بمقال في جريدة (المصري) عنوانه (الأغاني في السوق السوداء) وصف فيه الأستاذ التابعي بأنه صديق أم كلثوم. ونشرت (البلاغ) مقالا بعنوان (الآنسة أم كلثوم تتقاضى أكبر مرتب في الدولة) ثم نشرت (أخبار اليوم) مقالا هاجمت فيه مدير الإذاعة وحسبت ما يتقاضاه من الإذاعة ومن معاشه في الحكومة فإذا 3060 جنيهاً سنوياً على حين أن مرتب رئيس الوزارة 2500 جنيه فقط.
وكأن مؤيدي أم كلثوم يقولون ليست هي وحدها التي تأخذ مالا كثيراً من الإذاعة أو تريد أن تستزيد من المال. ولكن هل هذا يبرر مطالبها؟ إنها الآن تأخذ من إذاعة مسجلاتها 6300 جنيه في السنة وتريد أن تزيدها إلى عشرة آلاف وثمانين جنيهاً وكل ذلك دون أن تبذل أي جهد، ولكنها وجدت إذاعة (عسلا) فتريد أن (تلحسها) كلها. . وعقدة الخلاف أن الإذاعة تحرص على رضاء المستمعين وعدم حرمانهم غناء أم كلثوم وهي تعلم ذلك فتغالي في الثمن وتعلم أيضاً مكان (خاطرها) من أعضاء مجلس الإذاعة.
ولولا أني لا أريد أن أنتقل من الجد إلى المزح لاقترحت أن ينقل أمر الإشراف على الإذاعة من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى وزارة التموين ليعالج الأمر وزيرها الرجل العظيم صديق الشعب الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، فيضم مسألة الغناء إلى مسائل السكر والصابون والصودا الكاوية. . .
ولكني ألزم الجد، فأقول أن الأمر يتطلب الحزم والصرامة في سبيل الصالح العام، فحرام أن تبدد أموال الدولة، والدولة في حاجة إليها؛ فهذه الأموال إما أن تكون الإذاعة محتاجة إليها في تدبير شؤونها كتحسين البرامج وإنصاف الموظفين وغير ذلك، وإما أن تكون زائدة على حاجتها فعند الدولة لها ألف وجه ووجه.
جوائز فاروق الأول:
أقيمت حفلة لجوائز فاروق الأول في العلوم الاجتماعية والكيميائية والجيولوجية وعلوم الحياة بجامعة فاروق بالإسكندرية في عيد الميلاد الملكي. وألقى معالي وزير المعارف كلمة اللجنة الدائمة للجوائز، فأعلن فيها ما وصلت إليه لجان الفحص لسنة 1949، وقد رأت هذه اللجان أن الكتب والبحوث التي فحصتها لم تستوف بعض الشكليات والشروط لاستحقاق الجوائز.
وكانت لجان الفحص قد غربلت ما قدم لها، ثم صفت ما غربلته، فكانت الصفوة: كتاب (أسس الصحية النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية العالي، وكتاب (سافونارولا) للدكتور حسن عثمان الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة فاروق، وكتاب (السودان في قرن) للأستاذ مكي شبيكة، وبحث في الجيولوجيا غير مطبوع للدكتور رياض عبد المجيد حجازي. فأوصت لجان الفحص بإيفاد حضراتهم إلى الخارج على نفقة الدولة تمكيناً لهم من وسائل البحث والدراسة بالاتصال بالمعاهد العلمية والهيئات العالية. وكان الدكتور القوصي والدكتور حسن عثمان موجودين في الحفلة، فصالحها مندوب جلالة الملك. أما الأستاذ مكي شبيكة والدكتور حجازي فهما في الخارج، الأول مبعوث من كلية غوردون السودانية إلى إنجلترا والثاني في بعثة من وزارة المعارف إلى أمريكا وقد مدت له اللجنة مدة البعثة.
وقد نوه معالي وزير المعارف بأسماء المختارين الأربعة، وأشاد بجهودهم العلمية، وأشار إلى أن الغاية من تنظيم هذه الجوائز التي يتفضل بها جلالة الفاروق، هي رفع مستوى الإنتاج العلمي، فإذا رأت اللجنة الدائمة عدم استحقاق الجوائز فإنها تلجأ إلى وسائل أخرى تؤدي إلى تلك الغاية، مثل إيفاد العلماء إلى الخارج لأنه يسهل لهم البحث واستكمال الدراسة.
ولا شك أن هؤلاء الأربعة المختارين - وإن كانت مؤلفاتهم لم تنل الجائزة المادية - قد نالوا ما هم أهله من حسن التقدير والتكريم، وخاصة الدكتور عبد العزيز القوصي، فهو من مفاخر مصر في علم النفس، وله مكان ملحوظ في المجامع العلمية بالخارج.
بناء النهضة:
نظم قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية سلسلة من المحاضرات العامة موضوعها (بناة النهضة المصرية في القرن العشرين) شملت أنواعاً مختلفة من النهضات، من سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وكان آخر حلقة في هذه السلسلة محاضرة للدكتور محمد صلاح الدين بك عن بناة النهضة في المسرح والموسيقى، فتحدث عن الموسيقى من عهد محمد عثمان وسلامه حجازي إلى عبد الوهاب وأم كلثوم، وتحدث عن المسرح من سلامة حجازي أيضاً إلى زكي طليمات، وقد بين أهمية من تحدث عنهم في الفن وأثره في تطوره، فسلامه حجازي زواج بين المسرح والغناء، وجورج أبيض استطاع أن يجعل للتمثيل قيمة مستقلة عن الغناء، ومحمد تيمور وزملاءه من هواة المسرح المثقفين كانوا طبقة ذات أثر كبير في ارتقاء المسرح، ومن هؤلاء زكي طليمات الذي لا يقتصر على الجهد الفردي فهو يصنع الآن جيلا جديداً يرجى على يديه عهد للتمثيل في مصر، وكذلك مثل في الموسيقى، وقد وقف طويلا مع سيد درويش، وقال إنه استطاع أن يجعل الفن ذا موضوع، ومن عبقريته أنه ذهب في التجديد إلى مدى بعيد مع الاحتفاظ بالأصول الشرقية للنغم والموسيقى.
هذا وقد نشر في الصحف عنوان هذه المحاضرة هكذا (بناة النهضة الأدبية) واحتشد جمهور كبير في قاعة يورت التذكارية، وقدم رئيس قسم الخدمة العامة، للمحاضرة بكلمة قال فيها أن المقصود بالنهضة الأدبية ونهضة المسرح والموسيقى لما لهما من شديد الصلة بالأدب. وقد ألمع هذا الوضع وهذا الجو إلى تقصير في هذه السلسة، إذ أهمل فيها الجانب الأدبي إهمالا تاماً، ولم يذكر رئيس الخدمة العامة سبباً مبرراً لهذا الإهمال. قد يقال أن الجامعة حرة فيما تختار من الموضوعات، ولكنها محاضرات عامة تدعو إلى إلقائها بعض قادة الرأي والفكر في مصر، ومن تمام الفائدة أن تستوعب الجوانب المختلفة، ولم يكن ينبغي أن يهمل الحديث عن النهضة الأدبية وهي أم النهضات جميعاً، حتى أنك لا تجد نهضة إلا كان الأدب لسانها والأدباء باعثيها وداعين إليها.
عباس خضر