مجلة الرسالة/العدد 815/عدل السماء
مجلة الرسالة/العدد 815/عدل السماء
للأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا رفيقي - يوم إن تخرجت في الجامعة، يوم كنت تدلُّ بقسامة الوجه ونضارة الصفحة، وتختال بصلابة العود وانفتال العضل، وتفخر بقوة الشباب ونشاط لحياة، وتعتز بالسعة في الرزق والإشراق في المستقبل، وتتيه بوظيفتك الحكومية على صحابك وذوي قرابتك، وتزهى بميراثك من أمك وقد اغتصبته من أبيك منذ أن تخرجت في الجامعة ضناً به عليه وعلى اخوتك من أبيك؟
وركبك الغرور والشيطان، فأنت في سعة من المال والعلم، وأنت في وظيفة تدر عليك ما يفيض عن حاجاتك، وأنت عزب تعيش في نوازع نفسك ورغبات قلبك، هي لا تكلفك كثيرا، فما تنزع بك إلى فاحشة، ولا تندفع بك إلى فجور. فقضيت سنوات منطوياً على نفسك، تبيت تحصى ما ادخرت، ثم تودعه درج مكتبك، أو مكتب البريد، فادخرت مالاً.
وجاءك أبوك - ذات مساء - يستعينك على أمره، وقد عصرته الحاجة، وجلس إليك في خلوة يحدثك بذات نفسه يقول (. . . . وأنت تعلم - يا بني - أنني قد ضربت بداء أعضل على الأطباء شفاؤه، وأنا بين الأطباء كالشاة يتجاذبها الذئاب ثم لا يلفظونها إلا رمة. وللطبيب أفانين طبية تبتز مال الفقير، وتستلب ثراء الغنى، ومن ورائه القانون يشد عضه حين يمسك بالمشرط، وحين يسك بالقلم؛ فأبتلع الطبيب والمرض في أشهر ما ادخرت في سنوات، وأولادي كثير بينهم الشاب والصبي والرضيع، وأخشى أن تكشفني الكواشف وأنا في قرية شيدت على البغضاء والشحناء، وبين أهل أنطبعوا على الحقد والضغينة والغل، يخفونها وراء ستار صفيق من الحب والمودة والإخاء، وهم بين صغير يتربص بالكبير أن ينحدر إلى الهاوية، وفقير يتمنى للغني أن ينهار إلى الحضيض؛ وإذا نزلت بواحد نازلة ابتسم الجميع في غل وشماتة، وتندروا به في سخرية وتشفي، ثم قال قائلهم - وهو في يسر وغنى - (آه، لو أستطيع أن أعينه على بلواه!) ثم يتوارى خيفة أن يعين قريبه بفضله من مال. . . . . وأنت، يا بني، رجل ذو مال، ولقد جئتك لتقرضني بعض مال أستر به ضعفي وحاجتي. وهذه (كمبيالة) بالمبلغ الذي أريده).
وكانت كلمات أبيك تتدفق أسى وحزنا، ونفسه تتقطر ذلة وانكسارا، وأحس وهو إلى جانبك يحدثك حديث حاجته أنه ينحط بكرامته وينزل عن كبريائه، وكانت سلوته انك أنت ابنه وله عليك حق. ولما أتم حديثه نظرت إليه في ترفع وصلف ثم قلت: (يا أبي، إن حاجات المدينة لم تدع لي وفرا من المال، وأنا لا اعرف من استقرضه لأدفع لك ما تريد)!
آه، يا قلبي! لقد أحس أبوك بالضعة حين رآك تستعلي عليه، وشعر بأن كلماتك الجاسية تصفعه صفعات قاسية متتالية، وأراد قلبه أن يبكي حسرة وكمدا، ولكن الدوار كان قد غلبه، فترنح حينا ثم سقط بين يديك. . . سقط فما رق قلبك ولا اضطربت نفسك!
وخرج أبوك من لدنك وهو يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن. . . ماذا قال؟ ليت شعري! هل كان يستنزل سخط السماء على ابنه العاق؟!
وعاود المرض يعركه عركا شديدا من أثر فظاظتك وخشونتك، وألح عليه السقام فما تركه حتى مات. . . مات أبوك لأنك أنت فقدت إنسانيتك ورجولتك، ولأنك نسيت أنك أبن أبيك!
وظن اخوتك الصغار أنك الأخ الأكبر، وأنك أنت الأب بعد أبيهم، ولكنك كنت قد وجدت في قلبك حلاوة المال ولذة المدينة، فانطويت عن القرية، وابتعدت عن أهلك وأقاربك، ثم انطلقت تنعم بالحياة، وتتلذذ بالرخاء، وترتاح إلى الوفر، واخوتك في القرية يتنازعهم شظف العيش، وجفوة الحياة، وغلظة الأهل، وقسوة الأقارب، فعشت أنت وعاشوا: وما تبض كفك بدرهم وما ينبض قلبك بعاطفة!
وتماديت في قسوتك، فرحت تفزع الطير الآمن عن عشه: هذه دارك ودار أبيك، تقاسمتماها على سواء، لأنها ميراثكما من أمك ن وهي عش اخوتك الوحيد، منذ أن ولد كبيرهم. وها أنت تصر عليه أن يدفعوا أجر نصيبك من الدار التي يسكنون. وأصررت وأصرت المحكمة الحسبية. ثم وافقت المحكمة الحسبية - بعد لأي - أن تباع الدار في مزاد علني، فاشتريتها أنت، اشتريت نصيب أبيك (المرحوم) لأنك تجد المال، ثم قذفت باخوتك خارج الدار، لأنك لا تجد الإنسانية، وأفزعت الطير الآمن من عشه، وهو قد اطمأن إليه منذ سنوات وسنوات. وجاءت زوجة أبيك وابنها الأكبر - أخوك - يسألانك المهلة والرفق، فما أعرتهم أذنا صاغية!
ونسيت أن زوجة أبيك قد كفلتك طفلا، وإنها كانت أحنى الناس ضلوعا عليك يوم أن اصطلحت عليك العلل وأنت صبي، وحين قرر الطبيب أن المرض معد تحاماك كل أقاربك، حتى عمتك رفضت أن تدخل الحجرة التي عزلت فيها خشية أن يصيبها ما أصابك! أما زوجة أبيك فقد قضت أربعين يوما تقدم لك الطعام وتؤاكلك وتجلس معك وتداعبك وتخفف عنك وعكة المرض وقسوة الوحدة، وأبوك ينضر ويبتسم لما يرى من عطفها عليك، وهو يشعر براحة القلب وهدوء البال من أثر ما تفعل. ستقول أنها فعلت لتكسب رضاء أبي ومحبته، ولكنها تحملت - يا رفيقي - في سبيلك ما ضن به أقرباؤك عليك!
ونسيت إن من بين أخوتك من كان يحمل إليك الزاد من القرية لا تزعجه وعثاء الطريق ولا يصرفه عناء السفر، ومن كان يفرج أزمتك وأزمات الطالب لا تنتهي، ومن كان يخفف عنك متاعب الحياة ومصاعب الدرس؟!.
نسيت كل ما كان وأصررت على أن تفزع الطير الآمن عن عشه!
لقد ركبك الغرور والشيطان فتماديت وتماديت، لا ترتدع من دين، ولا تفئ إلى خلق، ولا تسمو إلى إنسانية، ولا تترفع عن مادية. وتململت السماء من وحشيتك فأرادت أن تنتقم من أرضيتك!
يا لله، لقد ضل هذا الفتى حين ركبه الغرور والشيطان فغشي بصره، وشغل عن سواء السبيل، وغفل عن إن في السماء عقاب لا يمهله. . . فماذا كان؟
آه - يا رفيقي - لقد بدأت الروحانية تنتقم منك - أول ما بدأت - في أسلوب حلو جميل، تتضوع من ريح المطر واللذة والسعادة والمال. كان ذلك حين طرقت باب (فلان بك) تخطب إليه ابنته، فما تمهل وما تعوق، وحين زفت هي إليك في ثوبها الأبيض الناصع الجميل، تتألق في ثلاثة منابع من النور: نور وجهها المشرق الجذاب، ونور جواهرها الوضاءة المتلألئة، ونور الكهرباء المتناثرة في المكان؛ وحين جلست إلى جانبك على عرش الورد، والموسيقى ترسل أنغامها الشجية الأخاذة، فتملئ المكان نشوة وطربا. . . حين ذاك نسيت أنك أنت!
ثم مات (سعادة البك) فطرت أنت فرحا، وقضى الناس ليلتهم في حزن ونواح، أما أنت فانزويت في ناحية تحدث نفسك حديث الثراء الذي ورثته زوجك من أبيها ليكون ملكا لك، وسيطرت عليك النشوة فسلبتك وقارك، فرحت تنشر ذات نفسك على رفاق من رفاقك! وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى جاء الدائن يجر الدائن. . . يستوفون ديونهم من ميراث (سعادة البك)، وجلس الكاتب يكتب والحاسب يحسب، فإذا سعادة البك لا يملك ما يسد به دينه، وإذا أنت صفر اليدين. ولكن ابنة (البك) ما تزال هي!
ومرت الأيام وابنة (البك) لا تستطيع أن تكون زوجا لك، فهي في أبهتها وكبرياءها لا تنزل عن حاجة من حاجاتها، وترفعت - بادئ ذي بدئ - عن يبدو عجزك أمامها، فهل استطعت أن تشبع رغباتها وهي تنطلق كل ليلة إلى ضجة الحياة الليلية: تهفو إلى السينما، وتسعى إلى المسرح، تصبو إلى الخمر، وتحن إلى القمار، ثم هي لا تصبر على الدار، لأنها تحب الشارع، وفي الشارع أساليب من الحياة تنزع عنها الملل والضيق؟ هذا المال الذي ضننت به على نفسك وعلى أبيك، وبخلت به على اخوتك وأهلك، ينسرب اليوم من بين يديك في غير مهل ولا روية؛ فأنفقت في يوم غلة شهر، وأنفقت في شهر غلة سنة، وأنفقت في سنة ما ادخرت منذ تخرجت في الجامعة؛ ثم امتدت يدك إلى ميراثك تبعثره، وما هو بكثير!
ثم أسقمك السهر وأضناك التعب وعلقت بك الخمر وشغفت بالميسر. . . ومرت سنة أخرى، فإذا ميراثك كله - وهو عشر فدادين فحسب - قد تبدد وتناثر!
وهكذا - يا رفيقي - لم يبقى لك سوى راتبك الحكومي، وأنت بين أدواء ثلاثة: الخمر والميسر والزوجة. . . وسوّل لك الشيطان - مرة أخرى - فركبك الدين والدائن معا!
وفقدت صحتك ومالك، فتراءيت في نظر زوجك شبحا لا تستطيع أن تكون رجلا، فأخذت تنظر إليك شزرا وتحدثك في احتقار، تمتهن قولك، وتزدري رأيك، وتسخر من جهلك، وتتطاول عليك تثلبك وتثلب أهلك. . . ثم. . . ثم طارت عنك مع واحد من ذوي الثراء، لتذرك على فراش المرض وحيدا، تلتهمك هموم المرض والدين!
والآن. . . هل تذكر تاريخك؟ لقد عجمتك الخطوب، وراضك الزمن، ولكن بعد أن توزعتك الأحداث، وعصفت بك الأحزان، ولزمك المرض والفقر؛ فأنت هيكل يتهادى في مزق بالية، تقتحمك الأعين، وتعافك الأبصار!
يا عجباً، لقد كنت منذ سنوات تدل بمالك وصحتك وعقلك، فتعاليت على أهلك وأقاربك. والآن حين ضربك الفقر والمرض والذهول، ذهبت تستجدي عطفهم ولكن. . .
ونظرت الأعين في عجب، وابتسمت الشفاه في سخرية، وتشفَّْت القلوب في صمت، وقال قائلهم: (ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلا يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حمقك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)
ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن؟!
كامل محمود حبيب