انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 812/خواطر سياسية وأدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 812/خواطر سياسية وأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949



للدكتور السيد محمد يوسف الهندي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

كتاب (الفتنة الكبرى) والدكتور طه حسين:

وبما أن الأستاذ محمود محمد شاكر خص اليهود بالذكر وأن إخواننا العرب ربما تفضلوا بالبقاء دروس في القومية والوطنية على مسلمي الهند أود أن أضيف كلمة عن علاقات المسلمين بالوثنين والمجوس حتى أثبت أن الكفر ملة واحدة وأن نظرية الوطنية الحديثة لا تكسر من عدائها وشرها، كما أن التسامح والمعاملة الحسنة لم تؤمن أية حكومة إسلامية في أي عصر من عصور التاريخ من جميع أنواع الدسائس والأعمال الهدامة والجاسوسية لصالح الدول المجاورة المعادية. ولولا خوف مجانية القصد لكان في وسعي أن أقيم الأدلة على أن الإجراءات التي ربما اتخذت ثم أهملت ثم جددت ضد غير المسلمين في مختلف أدوار الحكم الإسلامي - العربي منه والعجمي - لم تكن إلا رد فعل لما تجلى في أعمالهم من عدم الولاء وروح الطابور الخامس. ولم يتعد قدر تلك الإجراءات إلا في بعض الأحوال قدر الأحكام العرفية والخطوات الاحتياطية التي لا تحجم أية حكومة في أيامنا هذه عن اتخاذها ضد رعاية الحكومة المعادية والممالئين لها. وخلاصة القول أن المسلمين أمة مستقلة لا بد أن يعيشوا بهذه الصفة في سياستهم واقتصادهم وجميع شؤونهم حتى يتأنى لهم التعهد بسلامة الأرواح والأموال وحرية العقيدة وحسن الجوار الذين جعلهم الله في ذمتهم، وهذا الوضع أي كون المسلمين فريقاً ذا قوة وشوكة راعياً لحقوق الكفار والمشركين لمجرد الوفاء بالعهد والتمسك بالخلق الكريم لا لضغط اقتصادي أو مالي أو سياسي خارجي أو داخلي مع كونه قادراً على نبذ العهد إلى الخائنين في أية لحظة - هذا هو الوضع الوحيد الذي يضمن عدم اجتراء الذميين على أية حركة مضادة للدولة الإسلامية وحسن تقديرهم للمعاملة الشريفة التي يلاقونها على أيدي المسلمين، فأني وإن كنت أؤيد الشاعر في قوله (ومن لا يظلم الناس يظلم) اعتقد أن كل من بقادر على الظلم لا بد أن سيظلم؛ إذ الإنسان لا يزال بعيداً عن العهد الذي يعترف فيه للحق الأعزل والعدالة التي لا تسندها القوة. أم الوضع الحالي السياسي في الممالك العربية فلا يسعني إلا أن أقول إنه قائم على أساس علاقة الإسلام مع العروبة مثل علاقة الخليفة العباسي مع وصيف وبغا وهو إنما يؤدي إلى تنويم المسلمين وحرمانهم مما هم جديرون به.

أما ما يتعلق بكتاب الدكتور طه نفسه فيجب أن اعترف أني بدأت في دراسته وفي نفسي شئ مما قرأت وسمعت عن العواصف التي ربما أثارتها مجهوداته العلمية السابقة في المحيط الأدبي وأنا متأكد من أن آفة الأديب أن تكون باكورة أعماله متميزة بطابع النقد اللاذع الهدام للآراء المألوفة، فإن مثل هذا العمل وإن يكن وسيلة ناجحة في لفت الأنظار إلى براعته، فأنه ربما يضع الكاتب في موقف حرج بحيث يسمه بسمة الغرابة، فالقراء لا يرضون منه - فيما بعد - إلا أن يأتي برأي شاذ في كل ما يتناوله، وقلما يقبلون منه أن يقرر رأياً سبق أن عرفه الناس، ثم إن مثل هذا الأديب - مع أنه يتحفز إلى النقد مدفوعاً بطبيعته وبنوع من الإيعاز من قرائه فهو يجتهد دائماً في الاحتفاظ بالحياد وعدم المحاباة والترفع عن التعصب حتى لا ينحط قدر الصادر منه. وينتج من ازدواج هذين العاملين أنه ربما يضطر إلى المصانعة مع الغير والقسوة على ذوبه فهو يوجه النقد إلى ما ينتمي إلى نفسه ويلين ويتحذر حينما يخاف أن يتهم بالمجاراة مع عواطف الجمهور فيما يتعلق بالغير. نعم أقبلت على قراءة (الفتنة الكبرى) وأنا مستعد للمفاجآت فدرسته بهم وشوق، وفرغت منه وأنا ملئ بالإعجاب ببراعة المنهج وحسن الترتيب، وسرد الوقائع، واستقصاء الملابسات، وتحليل الظروف، وتفقد الأسباب الخارجية والعلل النفسية، ما عدا الأسلوب النقي الرائع الممتاز. ولئن كان هناك شئ يبرر ما خيل إلى البعض من التعمد إلى التلطيف فما يتعلق بقصة عبد الله بن سبا أرضه لا يسع أحداً أن ينكر السبب الرئيسي للفتنه ألا وهو سوء إدارة الحكومة بيد عثمان الشيخ العطوف السمح، حسن النية، ضعيف التدبير بحيث انفسح المجال أمام بين أمية للتغلب على موارد الدولة والاستئثار بمناصبها، ثم الغلبة على نفس الخليفة ورأيه عن طريق قلبه. ولا شك أن عبد الله بن سبأ وأمثاله لم يكن ليتأنى لهم أن يعملوا ما عملوا - سواء أكان عملهم خطيرا أم ضئيلاً - بدون أن يجدوا أمامهم أحوالاً مهيأة للاستغلال. ويحق أكد الدكتور طه أن عبد الله بن سبأ إنما استغل أحوالاً نتجت عن مصدر آخر.

ولكني دهشت حينما رأيت الدكتور طه يعاود مراراً القول بأن الأحوال والظروف طغت على عثمان كما كان لا بد أن تطغي على أي واحد حل محله - يعاود الدكتور طه هذا القول بعد أن تبين أسباب الفتنة بوضوح وجلاء تامين، ولا افهم معنى لاتهام الأحوال والظروف إلا أن يكون محاولة لتبرئة عثمان كما حاول الآخرون إلقاء اللوم على عاتق عبد الله بن سبأ وأمثاله للغرض نفسه ظناً منهم بأن مكانة عثمان الدينية لا بد أن تعصمه من أي خطأ سياسي أو زال إداري. ولنتساءل: ما هي الأحوال التي جدت بعد وفاة عمر؟ أن اعظم مشكلة واجهتها الخلافة الإسلامية في نشأتها هي كثرة الفتوح وتنظيم الموارد وتصريف الربع الوارد من الأمصار، وقد فرغ عمر في حياته من تدبير جميع هذه الأمور تدبيراً عاماً شاملاً بحيث لم يكن على يد يخلفه إلا أن يخطو خطوه، وهذا ما عاهد عليه عثمان عبد الرحمن ابن عوف وقت البيعة، ولكنه لم يستطع أن يهتدي بهدى عمر في تسيير دفة الإدارة ولم يلبث أن سلط آل أبي معيط كما كان عمر قد تنبأ بذلك.

وقد عرض الدكتور طه لنقد بعض التقاليد الدستورية عند المسلمين في ذلك العهد ولكني أخشى أن يكون استسلف لذلك النقد موازين ومقاييس من حياة الأمم الغربية السياسية المعاصرة، أولا ترى الدكتور طه يفرض فرضاً بأن الحكم النيابي الغربي هو المثل الأعلى لكل شعب وكل إقليم وكل عهد فيبادر إلى القول بأن المسلمين كانوا خليقين بأن يفكروا في نظام الشورى (أظن عن طريق عقد المؤتمرات وتنظيم حملات الانتخاب ومساومة الآراء) حتى يجئ اقرب إلى النظام المعمول به في فرنسا أو بريطانيا في أيامنا هذه. انظر إليه يزدري شأن مجلس الشورى بوصفه مجلس المرشحين لا مجلس المشيرين في موضع، ويشكو من (الانتداب بدون توكيل في موضع آخر. ولعله قد تنبه إلى أن واضع نظام مجلس الشورى أعني عمر من الذين لا يؤخذ عليهم خطأ ولو في القرن العشرين فتكلف التماس العذر لنفسه بأن قال: أن عمر إنما هو مستوحى من ضحيم روح المجتمع الإسلامي بما أن الإسلام لا يخول حق التصويت لكل ذي حنجرة بل يجعل مبهمة انتخاب الخليفة من اختصاص أهل الحل والعقد؛ أما الجمهور فليس عليهم إلا الإذعان لما يتفق عليه رأى أهل الحل والعقد. قد ورد ذلك ضريحاً في أقوال الفقهاء والقضاة أمثال الماوردي، كما أنه ثبت أيضاً بالعمل فيما يتعلق بانتخاب الخلفاء الثلاثة الأول؛ وإذن يجب أن لا نهمل الفرق بين الديمقراطية التي تبتني على تعداد الرؤوس فقط والأخرى التي لا تخول حقاً إلا بعد مراعاة التقوى والكفاية وحسن البلاء كما نبه عليه الدكتور طه نفسه، ولا يفوتنا أن النظام الذي وضعه عمر قد نجح نجاحاً تاماً بحيث أن منشأ الخلافات التي نشأت فيما بعد لم يكن هو طريق الانتخاب بل سوء الإدارة فقط. فلنأسف لا على أن نظام الشورى كان ناقصاً من أية جهة بل على أن الظروف حالت دون نموها واتساعها وتوطيدها.

وكذلك يتنافى مع روح الإسلام أن يعترف في النظام السياسي بوجود أية طبقة خاصة كالأنصار وغيرها حتى يراعي (لتمثيلها)، إنما الاعتبار كل الاعتبار بالصفات الشخصية بصرف النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها صاحب التقوى والكفاية؛ كما أن المسلم يستبعد منه أن يمقت الثروة في أيدي الصالحين المخلصين للدين أو استغلالها بالطرق المشروعة، إنما يستنكر استخدام النفوذ في الحكومة أو الصلة بالخليفة للحصول عليها والاستئثار بها. فلنحذر من التعبير عن أحداث الفتنة الكبرى بالنزاع بين الطبقات على حد ما عرفناه من دراستنا للنظريات الغربية فأن ما حدث أيام عثمان لم يكن إلا ثورة عامة ضد آل أبي معيط، وإن اتسع نطاقها شيئاً فيما بعد.

وأخيراً تكلم الدكتور طه عرضاً عن الرق في الإسلام، وذلك بلهجة اعتذار ربما يكون منشأها طعن الغربيين في الإسلام من هذه الناحية، ولا شك أن الإسلام اهتم بوضع كل ما يمكن من المشروعات والأوامر لتقصير مدى رق الأسير ولكن النظام - كما اعتقدنا - لم يوضع لحل الرق القائم إذ ذاك فقد بل إنه نظام دائم مستمر كلما استمر المسلمون في حياة الجد والعمل والتعمير والتمدين، والمسلمون في هذا العصر خليقون بأن يدرسوا نظام الرق في الإسلام كأحسن نظام عرفته الإنسانية للشفقة بأسرى الحرب وتحسين حالهم وتوجيههم وإرشادهم وكفالتهم بدون إحداث أي تغيير مفاجئ في اقتصاد البلاد.

السيد محمد يوسف الهندي