مجلة الرسالة/العدد 810/القصص
مجلة الرسالة/العدد 810/القصص
كتاكيت العم طون!
في ملهاة لجي دي موباسان
كان كل من يسكن حول مدينة (تورنفنت) يحب العم أنطوني مجيل، طوني السمين، طوني العزيز، أو طون، كمانوا يسمونه عليه تحبباً!
وطون هذا، رجل سمين، منفوخ البطن، أشبه ببرميل نبيذ، منتفخ الأوداج، أحمر الوجه، غائر العينين، لا تستطيع أن تعرف طوله من عرضه، ولا عاليه من سافله!
وكان الناس يتساءلون في دهشة: كيف يستطيع الزبون أن يدلف إلى الحانة، والعم طون، قد وقف على بابها وسد الطريق؟!
كان يبيع الكونياك، وكان ينادي على بضاعته بصوت ناعم - هنا يا رجال، تجدون أحسن أنواع الكونياك!
وكال له زبائن يترددون على حانته، لا ليشربوا الكونياك فقط، ولكن ليستمعوا إلى نكات العم طون، ويأنسوا بظرفه، وخفة دمه، فالعم طون (ابن نكتة!) يستطيع أن يحمل حجارة القبر على الضحك!!
كان من عادته أن يجلس مع زبائنه، يلتفون هم في حوله، وبأيديهم أكواب الخمر، يشربون، ويضحكون، فإذا وجد أن أحدهم لا يضحك لنكتة ألقاها، لكزه في بطنه ليحمله على الضحك! كان يلقي نكاته، ويسخر من هذا وذاك ولكن من غير أن يؤذي أحداً، أو يجرح شعوره!
من أجل هذه الروح المرحة، أحب الناس العم طون. . . أحبوه حباً عظيماً، ووفدوا عليه من ضواح بعيدة ليستمتعوا بنكاته، وليشربوا عنده ما فيه القسمة من أكواب الكونياك التي كان العم طون يقطرها بنفسه!
وكثيراً ما كان يقف على باب حانته، يحي هذا، ويهتف لذاك قائلاً: مرحباً. . . مرحباً يا ولدي!
كان يدعو كل من يراه يا ولدي، ولكن الناس كانوا تسائلون في دهشة، لماذا لم يرزق العم طون أولاداً، وقد مضى على زواجه أكثر من ثلاثين عاماً؟! وقد يترامى إلى أذنيه هذا السؤال الحائر على شفاههم، فيغمزهم بطرف عينه. ويقول لهم هامساً: إن زوجتي، هذه الدجاجة العجوز ليست من العظمة بحيث تستطيع أن تنجب عظيماً مثلي!!
وكانت زوجته تثور عليه، ولم تكن بأقل غرابة من زوجها، فقد كانت امرأة فلاحة، غليظة الطبع، حادة المزاج، لا تبدو إلا غاضبة، مكشرة، إذا مشت، فعلى رؤوس أصابعها، فتبدو، وكأنها تقفز قفزاً، واهتز أعلاها، وامتدت أردافها!
وكانت على شجار دائم مع زوجها، وكان هو يخافها، ويتحاشى وقاحتها، ولكنه لم يكن يكف عن التحرش بها، ليضحك منها!
وكان الزبائن يضحكون لهذا الشجار الدائم، ويغرقون في الضحك، حين يبدأ العم طون يسخر من زوجته! وتبلغ الضجة أعلاها، حين تشير الزوجة الهرمة إلى زوجها المنفوخ، وتقول:
صبراً. . . صبراً، أيها المتكرش الكسول، سيأتيك يوم تنفجر فيه هذه النفخة الكذابة. . . انك والله لرجل كسول، لا تصلح إلا لربطك مع الخنازير!!
والعمة طون، مولعة بتربية الدجاج وتفريخها، وكان لها في هذا المضمار باع طويل وخبرة واسعة، ولم تكن لتخلو أكبر الموائد في باريس من دجاج العمة طون!
على هذه الحالة مضى ركاب الزمن بالعم طون، يمزح ويمرح ويبيع الكونياك، حتى حدث أن أصيب بما أقعده عن العمل، وقلب حياته رأساً على عقب!. دب الشلل في جسمه، ولم يعد يستطيع الحركة، فأعدوا له سريراً في مكان يشرف على ما يجري في الحانة، وأرقدوه فيه
وقلت نكاته، ولكنه لم يتخل عن مرحه وظرفه، فهو ما زال يبادل أصدقاءه النكات وهو راقد على ظهره!. كان يميز الأصوات فيعرف أصحابه!
- مرحبا سلستين، يا ولدي. . . الست أنت سلستين؟
فيرد عليه سلستين: كيف حالك يا عم؟ أوه!. . . لم أعد أصلح للطراد أبداً!!
وتثور العمة طون ثورتها المعهودة، وتقول: انظروا كيف ينام على ظهره كالثور العجوز، ولم يعد فيه نفع ولا فائدة! وكم يكون منظره مثيراً للضحك حين يراها، وهي تقترب منه كالصاعقة، فينكمش في فراشه، خائفاً وجلاً من ضرباتها التي يتلقاها على بطنه الكبير، فيكون لها دوي الطبل!
وذات يوم أراد أن يلعب أحد الزبائن دوراً مضحكاً، على هذه المرأة العجوز التي لا يعجبها العجب، أتدرين ماذا كنت أفعل لو كنت مكانك؟
فرمته بنظرات خبيثة، وقالت له: ماذا كنت تفعل؟
فأجابها متكلفاً الجد: إن جسد العم طون أشبه بفرن تتأجج فيه النار، فلماذا لا تضعين تحته بعض البيض فيفقس كما تفعلين مع دجاجك؟! فهمست متعجبة: أيمكن هذا حقاً؟
- ولم لا؟ ما الفرق بين أن نضع البيض في صناديق حارة وبين أن نضعه تحت فراش يبعث أكثر من هذه الحرارة؟
- وراحت العمة طون تفكر في هذا الاقتراح، وتجهد عقلها المتحجر في التفكير في هذا الاقتراح العظيم!!
وبعد ثمانية أيام، جاءت إلى زوجها تحمل عشر بيضات، وقالت له: لقد وضعت الآن عشر بيضات تحت دجاجتي السمراء، وهذه عشر بيضات أخرى، ضعها تحت ذراعيك، وحافظ عليها لئلا تنكسر! فصاح العم طون - ماذا تعني؟!
- أعني أنك سترقد على هذا البيض كما نفعل مع الدجاج، وسننتظر ما يحدث!
ورفض العم طون بكل إباء وشمم، أن يرقد على البيض كدجاجة صغيرة، وحاول أن يحتج على تصرف زوجته، ولكنها صاحت فيه، ليس من المعقول أن تبقى هكذا نائماً على ظهرك، تأكل وتشرب، ولا تنفعنا بشيء!!
وأمام تهديداتها وغضبها الذي يتحاشاه، قبل العم طون أن يضع البيض تحت ذراعيه! وظل جامداً في مكانه، لا يتحرك خوفاً على البيض أن ينكسر، وبدا عليه الاهتمام العظيم، وقد حمل الأمر على محمل الجد!
وسرعان ما سرى النبأ بين الزبائن، فبدأ عليهم العجب، وراحوا يتساءلون، ترى كيف يفرخ الرجل!!
وما كادت تبلغ الساعة الثالثة، حتى ساءت صحته، وبدا عليه ما يبدو على المرأة التي حانت ساعة وضعها، وتصبب العرق من جبينه، ولم يعد يسمع ضجة الناس المحتشدين في الحانة يترقبون حدوث الأعجوبة!
وأقبلت العمة طون فرحة مستبشرة، وقالت: لقد فقست دجاجتي السمراء سبع بيضات، وفسدت ثلاث!
فخفق قلب العم طون، وسأل نفسه: وأنا. . . كم من البيض سيفسد؟! وأحس بدغدغة تحت ذراعه الأيسر، فخفق قلبه، وبكل احتراس، مد يده تحت ذراعه، وقبض على شئ ناعم صغير، كان يحاول التملص منه بقوة، فخاف عليه، وأرخى أصابعه، فقفز على لحيته، ثم على صدره!
كانت الحانة محتشدة بالناس، فلما رأوا الحيوان الصغير يقفز على صدر العم طون اندفعوا نحوه، والتفوا على شكل دائرة حول فراشه، وشقت الجمع المحتشد العمة طون، وأمسكت بالكتكوت الصغير، وهي أسعد ما تكون!! وصاح العم طون فجأة: وهذا واحد آخر يلعب تحت ذراعي اليسرى!
وشمرت العمة عن ذراعيها، واستعدت كأمهر قابلة، لاستقبال الكتكوت الجديد! وأخذ الحاضرون يفحصون هذه الكتاكيت في كثير من الدهشة والعجب والحيرة!
وقفزت أربعة كتاكيت أخرى، فانتفخت أوداج العم طون لهذا النصر الباهر الذي فاق به الدجاج الممتاز، العريق النسب!. ثم صاح بصوت مرتفع في حين كانت زوجته قد حملت الكتاكيت لتعطيها لدجاجتها السمراء - وهذا واحد آخر. . .
وارتفعت ضجة العجب في جو الحانة. . . وأصر العم طون على الاحتفاظ بآخر الكتاكيت في فراشه. . . فقد كان يشعر بحب عميق لكتاكيته، كما تشعر المرأة نحو وليدها! ولكن العمة طون لم تقتنع، فأخذت منه الكتكوت الأخير بكل قسوة، وأرسلته لعناية دجاجتها السمراء!
انصرف القوم، وهم يفسرون هذه الحادثة الغريبة في بابها، شتى التفاسير، فاقترب صاحب الاقتراح الخبيث في أذن العم طون وهمس فيها: أتدعوني لحفلة العماذ أيها العم. . . أليس كذلك؟! فأجاب العم طون طبعاً. . . طبعاً يا ولدي!
(البصرة عراق)
يوسف يعقوب حداد