مجلة الرسالة/العدد 81/الحج. . .
مجلة الرسالة/العدد 81/الحج. . .
لبيك اللهم لبيك!!
الحج والزكاة هما الركنان الاجتماعيان من أركان الدين، يقوم عليهما الأمر بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، كما يقوم على الثلاثة الأُخَر الأمر بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه؛ فالزكاة تقيم نظام المجتمع على التعاطف والرحمة، الحج يقيمها على التعارف والألفة، فيحقق الأول بنفي العقوق معنى الأخاء، ويحقق الثاني بمحو الفروق معنى المساواة؛ والإخاء والمساواة شعار الإسلام، وقاعدة السلام، ومِلاك الحرية، ومعنى المدينة الحق، وروح الديمقراطية الصحيحة
كان الحج وما زال مَطْهرَ الدنيا: ترحض فيه النفوس عن جوهرها أوزار الشهوات وأوضار المادة؛ وكان الحج وما زال ينبوع السلامة: تَبْرد عليه الأكباد الصادية، وترفُه لديه الأعصاب الوانية؛ وكان الحج وما زال مثابة الأمن: تأنس فيه الروح إلى موضع الإمام، ويسكن الوجدان إلى منشأ العقيدة، وينبسط الشعور بذلك الإشراق الإلهي في هذه الأرض السماوية؛ وكان الحج ومازال موعد المسلمين في أقطار الأرض على (عرفات): يتصافقون على الوداد، ويتآلفون على البعاد، ويقفون سواسية أمام الله حاسري الرءوس، خاشعي النفوس، يرفعون إليه دعوات واحدة، في كلمات واحدة، تَصعدُ بها الأنفاس المضطرمة المؤمنة تصعد البخور من مجامر الطيب، أو العطور من نوافح الروض! هنالك يقف المسلمون في هذا الحشر الدينوي حيث وقف صاحب الرسالة، وحواريو النبوة، وخلفاء الدعوة، وأمراء العرب، وملوك الإسلام، وملايين الحجيج من مختلف الألوان والألسن، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصلون النظر بالفكر، ويذكرون في هذه البقعة المحدودة، وفي هذه الساعة الموعودة، كيف اتصلت هنا السماء بالأرض، ونزل الدين على الدنيا، وتجلى الله للإنسان، ونبت من هذه الصحراء الجديبة جنات الشرق والغرب، وثمرات العقل والقلب، وبينات الهدى والسكينة
الحج مؤتمر الإسلام العام، يجدد فيه حبله، ويتعهد به بأهله، ويؤلف بين القلوب في ذات الله، ويؤاخى بين الشعوب في أصل الحق، ويستعرض علائق الناس كل عام فيوشجها بالأحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوي المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاء واحداً تجأر به النفوس المظلومة جؤاراً تردده الصحراء والسماء!
وما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر! لقد حصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة، ثم قطعوا بينهم الأسباب، وحرموا عليهم التواصل، وفصلوهم عن الماضي الملهم والمستقبل الواعد، بطمس التاريخ، وقتل اللغة، وإطفاء الدين، فلم يبق لهم جُمعة إلا في هذا الموسم
إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر: هنا غار (حراء) مهبط الوحي، وهنا (دار الأرقم) رمز التضحية، وهنا (جبل ثور) منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا الشعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني امية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة!!
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم، وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يَسوغُ في تركها معذرة؛ فأنت تستطيع بالمال اليسير وفي الزمن القصير أن تحج على الباخرة والسيارة والطيارة، دون أن تعرض حياتك للموت، وثروتك للنهب، وصحتك للمرض!
وهذه (شركة مصر للملاحة البحرية) تتعهد لك (بزمزم) و (الكوثر) أن تكفلك وتحملك وتعلمك وتغذيك وتؤويك وتحميك في البحر والبر تحت عَلم دولتك، ورعاية مواطنيك، فلا تكابد وعث الصحراء وعبث الأشقياء، ولا تقاسي بُعدَ الشقة وطول الغربة
لقد كان الحج لرهَقه الشديد وجهده الجاهد يكاد يكون مقصوراً على الطبقات الخشنة من الزراع والصناع والعملة؛ أما الناعمون المترفون من أولي الأمر، وذوي الرأي، وأصحاب الزعامة، فما كانوا يقدمون عليه ولا يفكرون فيه، فظل جَداه على المسلمين ضئيلاً لا يتعدى الحدود الخاصة من قضاء المناسك وأداء الزيارة فماذا يمنع الكبراء والزعماء اليوم أن يتوافوا على ميعاد الله، ما دامت هذه الشركة المصرية الخالصة قد تحملت عنهم أكلاف السفر، وضمنت لهم وسائل العيش، ووفرت عليهم أسباب الرفاهية، حتى ليكتفي المسافر بحقيبة ثيابه؟
إن في حج سراة العرب والمسلمين إعلاء لشأن الملة، وإغراء بأداء الفريضة، وسعياً لجمع الكلمة، وسبيلاً إلى الوحدة المرجوة. وإن مقام إبراهيم الذي انبثق منه النور، ونزل فيه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، لا زال مناراً للأمة، ومثاراً للهمة، ومشرق الأمل الباسم بالعصر الجديد
أحمد حسن الزيات