مجلة الرسالة/العدد 809/بيت المقدس
مجلة الرسالة/العدد 809/بيت المقدس
في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم تكن بلاد الشام يوم هاجمتها جحافل الغرب في أواخر القرن الخامس بمستطيعة أن ترد هذه الجيوش المتدفقة عليها من كل صوب، فلم تكن وحدة تحت سلطان واحد، وإنما كان النظام الإقطاعي يمزق شملها، ويفتت قواها. فسقطت فلسطين وكثير من بلاد الشام في أيدي الغزاة المتعقبين، وقاست البلاد المفتوحة من ويلات التدمير والنهب وسفك الدماء، ما لا يستطيع التاريخ أن ينساه، وكان نصيب بيت المقدس عندما إجتاحوه سنة اثنتين وتسعين واربعمائة من أكبر الأنصباء؛ فقد جرت به مذبحة من ابشع المذابح التي عرفها التاريخ. يقول ميشو المؤرخ الفرنسي في كتابه تاريخ الحروب الصليبية (ج1 ص236) في حديثه عن بيت المقدس: (سرعان ما صارت المذبحة عامة: ذبح المسلمون في الطرقات وفي المنازل، ولم يعد في بيت المقدس ملجأ للمغلوبين؛ فبعض الذين فروا من الموت القوا بأنفسهم من فوق الأسوار، والآخرون جروا جماعات يختبئون في القصور والأبراج، وبخاصة المساجد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفروا من أن يتبعهم الصليبيون، أما وقد صار الصليبيون سادة المسجد الأقصى الذي دافع المسلمون عن أنفسهم حينا فيه؛ فقد جددوا فيه المناظر المحزنة، دخله المشاة والفرسان، واختلطوا بالمنهزمين، وفي وسط أشنع ضوضاء؛ كنت لا تسمع إلا الأنين وصيحات الموت، لقد كان المنتصرون يسيرون على أكوام من الجثث ليتبعوا من يحاول الفرار عبثا. وقال شاهد عيان هو (ريمون داجيل) ارتفعت الدماء إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح أو اسروا طمعا في أن يفدوا أنفسهم بفدية كبيرة قتلهم الصليبيون؛ لقد اكرهوا على أن يلقوا أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويكونوا طعاما للنيران، وكانوا يخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الميادين العامة، حيث يذبحونهم فوق أكداس الموتى، ولم يثنهم دموع النساء ولا صيحات الأطفال. لقد كانت المذبحة هائلة وكانت الجثث مكدسة، لا في القصور، ولا في المساجد، ولا في الشوارع فحسب، ولكن في أخفى الأماكن وأبعدها. ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع. ويتفق المؤرخون الشرقيين والإفرنج على أن عدد القتلى يبلغ سبعين ألفا؛ وبعدئذ أمر من بقى من المسلمين الذين لم ينجوا من القتل إلا ليقعوا في استعباد مخيف، أن يدفنوا الأجساد المشوهة لأصدقائهم وإخوانهم، فاخذوا ينقلون - وهم يبكون - هذه الجثث خارج بيت المقدس، وساعدهم في ذلك بعض الصليبيين الذين دخلوا المدينة أخيرا، فلم يظفروا بكثير من الأسلاب، واخذوا يبحثون عن بعض الغنائم بين الموتى). وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل (ج10ص117) وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف، واخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، واخذوا تنورا من الفضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، واخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء).
خرج المستنفرون بعد سقوط بيت المقدس إلى بغداد، فحضروا في الديوان وقطعوا شعورهم، واستغاثوا وبكوا، وقام خطيبهم في الديوان، فأورد كلاما أبكى العيون واوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا وبكوا وابكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك المكان المعظم؛ من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال، ولكن الخليفة لم يكن في يده من الأمر شيء بل كان يعتمد على السلاجقة، فأرسل على عجل ثلاثة رجال من حاشيته إلى السلطان بركياروق وأخيه محمد، وقد كانا معسكرين يتقاتلان عند حلوان، وتوسل إليهما أن يتركا ما بينهما من النزاع، وان يسيروا إلى العدو المشترك. غير أن هذا النداء لم يجد أذنا مصغية، فسرعان ما كان الإخوان يقتتلان تاركين الفرنج يؤسسون لهم ملكا ببلاد الإسلام. ولم يصغ أحد إلى تلك الصيحة التي أرسلها الشاعر:
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
فإبهاً بني السلام أن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرا بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة ... وعيش كنوَّار الخميلة ناعم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وتلك الحروب من يغبْ عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سن نادم ظل بيت المقدس في أيدي الصليبيين أكثر من تسعين عاما. وكان من أكبر أماني نور الدين محمود أن يسترده للمسلمين ولكنه مات قبل أن يحقق أمله. فلما ملك صلاح البلاد واتحدت مصر والشام تحت سلطانه صمم على أن يستعيد الوطن المغتصب فأرسل إلى جميع أجزاء إمبراطوريته يستنفر الناس لقتال الفرنج وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وبلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له، فأقبلت الجيوش من كل حدب، ومضى صلاح الدين على راس جيشه فالتقى بالفرنج عند حطين، ودارت عندها معركة لم يذق الفرنج لها مثلا منذ قدموا من ديارهم ومضوا بين أسير وقتيل. لم ينتظر صلاح الدين حتى يجمع العدو شمله المبدد، بل مضى يتابع انتصاراته، وأخذت مدن العدو تسقط في يده الواحدة اثر الأخرى، حتى إذا سقطت عسقلان والبلاد المحيطة بالمقدس شمر عن ساعد الجد، وذهب إلى بيت المقدس يريد فتحه، وهنا رأى العدو أنه لا قبل له بالجيش الزاحف فاستكان وطلب الأمان، وفتحت المدينة أبوابها لاستقبال صلاح الدين يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583، وأباح السلطان لسكانها الروم والفرنج المدنيين أن يعيشوا في بلاده، وان يستمتعوا بحقوقهم المدنية إذا شاءوا، أما المحاربون فعليهم أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم خلال أربعين يوما، على أن يدفع كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة وكل طفل دينار، فإذا لم يستطع واحد أن يدفع فهو أسير؛ غير أن السلطان لم ينفذ ذلك حرفيا، فقد دفع هو نفسه فدية عشرة آلاف، ودفع أخوه الملك العادل فدية سبعة آلاف، بينما مضى عدة آلاف بدون فداء. وقد حمل الناس والكهنة ذخائرهم من غير أن يتعرضوا لأذى ما؛ بل قدمت الدواب لكثير منهم، ممن لا يجدون ما يركبون.
لقد كانت إنسانية صلاح الدين على النقيض من وحشية أولئك الصليبيين الذين غزوا القدس وفتحوه، ومن قسوة أمرائهم؛ فإن كثيرا منهم مضوا إلى إنطاكية غير أن أميرها بيمند طردهم وأبى أن يقبلهم واغلق صاحب طرابلس مدينته في وجوههم، فمضوا إلى بلاد الإسلام حيث استقبلوا هناك احسن استقبال. وقد عدد أنواعا من قسوة الصليبيين ضد إخوانهم اللاجئين من بيت المقدس.
اصلح صلاح الدين ما تخرب من المدينة، ورم ما تهدم من المساجد، وحكم المدينة حكما يسوده العقل والحرية، ثم أمر بإحكام سور بيت المقدس، وانشأ مدرسة ورباطا وبيمارستانا ووقف عليها الأوقاف الدارة.
كان لاستعادة بيت المقدس اثر بالغ في نفس المسلمين، يقصر القلم دون وصفه. وقد اجتهد المؤرخون في وصف دخول صلاح الدين بيت المقدس، ولا زالت خطبة الجمعة الأولى التي خطب بها محي الدين بن الزكي أمام صلاح الدين محفوظة بنصها في كتب التاريخ. أما الشعراء فقد فاضت قرائحهم بتمجيد صلاح الدين فإنشدوه أو أرسلوا إليه ما يعبرون به عن مدى الإعجاب والتقدير ومن ذلك ما قاله الشريف النسابة المصري:
أترى مناما ما بعيني أبصر ... القدس يفتح والفرنجة تكسر
ومليكهم في القيد مصفود الأيام ... ير قبل ذلك لهم مليك يؤسر
قد جاء نصر الله والفتح الذي ... وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشام وطهر القدس الذي ... هو في القيامة للأنام المحشر
من كان فتحه لمحمد ... ماذا يقال له وماذا يذكر؟!
يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهر
ولأنت عثمان الشريعة بعده ... ولأنت في نصر النبوة حيدر
ملك غدا الإسلام من عجب به ... يختال، والدنيا به تتبختر
ولكن هذا الفتح العظيم على ضخامته لم يله العماد الكاتب عن التفكير فيما بقى بأيدي الصليبيين من بلاد، وان العبء الملقى على عاتق صلاح الدين هو تطهير البلاد كلها من رجسهم فكتب يقول:
قل للميك صلاح الدين أكرم من ... يمشي على الأرض أو من يركب الفرسا
من بعد فتحك بيت المقدس ليس سوى ... (صور) فإن فتحت فاقصد (طرابلسا)
اثر على يوم (انطرسوس) ذالجب ... وابعث إلى ليل انطاكية العسسا
واحتل ساحل هذا الشام اجمعه ... من العداة ومن في دينه وكسا
ولا تدع منهمو نفسا ولا نفسا ... فانهم ياخذون النفس والنفسا
أراد الصليبيون بعد موت صلاح الدين فجمعوا جموعهم ومضوا إلى الشام يعيثون فيه فسادا، ثم رأوا أن افضل طريق للتغلب على عدوهم الملك العادل ملك القدس والشام إنما هو ضرب العادل في مكان حيوي منه، وكانت مصر هي المكان الحيوي المختار. فما أن قوى الصليبيون بأسطول وإمداد جديدة حتى وجدوا في أنفسهم الشجاعة للنزول على دمياط في صفر سنة 615، ولما سقطت المدينة في أيديهم خاف المعظم عيسى أن يسقط بيت المقدس في أيديهم فمضى إليه وخربه، وخرج معظم من كان بالقدس من الناس، ووقع في البلد ضجة عظيمة، وخرجت النساء والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة والأقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهليهم، وامتلأت بهم الطرقات، ولم يبق في القدس إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال وقد شق على المسلمين تخريب القدس واخذ دمياط
عرض الكامل - بعد موت أبيه العادل - أن يرد إليهم مملكة بيت المقدس وجميع ما فتحه صلاح الدين على أن يردوا إليه دمياط فحسب، ولكن هذا العرض المغري قوبل بالرفض من جانب الصليبيين وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها.
ويقول لأن بول في كتابه: تاريخ مصر في القرون الوسطى (ص223): أن اعظم فرصة أتيحت الصليبيين قد أضاعوها، وان فيليب أوغسطوس عندما سمع نبأ رفضهم قال: انهم مجانين بلهاء إذ يرفضون مملكة مقابل مدينة ولم يلبث الصليبيون أن انهزموا في مصر وتركوها، فلم تفدهم حملتهم شيئا.
لم يحاول الصليبيون استرجاع بيت المقدس، ولا يعود ذلك لأسباب حربية فحسب، ولكن روح الصليبيين قد تغيرت. فصليبيو سوريا يفضلون مدنهم الساحلية الغنية المليئة بتجار الطليان والتي يحف بها الأراضي الخصبة الزراعية على أراض داخلية خربتها حروب الفرنج مع صلاح الدين، أما الرغبة الملحة في امتلاك مدينة المسيح فقد أطفأتها شهوة الثروة، ومع ذلك لم تمت هذه الروح وظلت حية في نفوس أساقفة روما الذين دفعوا فردريك الثاني إلى إن يشن حربا صليبية جديدة فأقلع إلى الشام ونزل بمدنه الساحلية سنة 625، وكانت هذه الفترة التي نزل فيها فترة نزاع بين الكامل وابن أخيه الملك الناصر، فرأى الكامل بعد مفاوضات بينه وبين الإمبراطور الصليبي أن تعقد بينهما معاهدة، نزل بمقتضاها سفطان مصر عن بيت المقدس بشرط أن تبقى على ما هي عليه من الخراب، ولا يجدد سورها، وان يكون سائر قرى القدس للمسلمين لا حكم فيها للفرنج وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الاقصى يكون بأيدي المسلمين لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوم من المسلمين، ويقيمون فيه شعائر الإسلام: من الآذان والصلاة. ويقول باركر في كتابه الحروب الصليبية (ص79): (أن الإمبراطور ظفر بهذه المعاهدة بحسن استخدامه لقواه السياسية وباستغلال لما رآه من نزاع بين الملك الكامل ومنافسيه في سوريا)
أغضبت هذه المعاهدة المسلمين واستعظموها، ووجدوا لها من الوهن والألم ما لا يمكن وصفه، واشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل، ونفرت قلوب الرعية وقد رأوا الفرنج يتسلمون بيت المقدس في أول ربيع الآخر سنة 626 وجلس الحافظ سبط بن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس لاستيلاء الفرنج عليه، وشنع على هذا العمل فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصي عدده من الناس وهم في ثورة عنيفة وانشد الحافظ قصيدة أبياتها ثلاثمائة بيت منها.
على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخرها ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
واضطر الملك الكامل إلى أن ترسل رسولا إلى البلاد والى الخليفة لتسكين الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، بل لقد اضطر الملك الكامل نفسه إلى إن يقنع نفسه بأنه لم يأت أمرا إدَّا، فكان يقول: إنا لم نسمح للفرنج إلا بكنائس وأديرة خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأموال والضياع. ولكن ذلك لم يقنع أحدا من المسلمين، ولعله لم يقنع الكامل نفسه.
وقد انتهز الفرنج ما حدث من الخلاف بعد موت الملك الكامل فعمروا في القدس قلعة وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب المعظم أسوار القدس فمضى الناصر داود وقد علم بما أحدثه الفرنج، وحاصر القدس واستولى عليه عنوة في جمادى الأولى سنة 637 وفي ذلك يقول ابن مطروح:
إذا غدا بالكف مستوطناً ... أن يبعث الله له ناصراً
فناصر طهره أولا ... وناصر طهره آخرا
يريد بالناصر الأول صلاح الدين، ومنذ ذلك التاريخ وبيت المقدس بيد المسلمين.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول