مجلة الرسالة/العدد 809/الدعوة في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 809/الدعوة في الإسلام
تبليغ لا إلزام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لا أريد في هذا المقال أن أرد على من يزعم أن استعمال السيف في الإسلام كان للدعوة إليه، فهذا أمر قد كتب الباحثون فيه قبلي، والكلام فيه يكون معادا لا فائدة فيه، وليس شيء اثقل على نفسي من الكلام المعاد، لأنه يضيع زمن الكاتب والقارئ، والزمن اثمن من أن يضيع في الكلام المعاد، والحديث المكرر.
وإنما أريد في هذا المقال أن انبه إلى إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون أيضاً بما دون استعمال السيف مما فيه شائبة إلزام، ولو كان مثل هذا الإلحاح الثقيل الذي استعمله بعض المتنطعين في الدين مع الأستاذ نقولا الحداد، وشكي منه المرة بعد المرة في مجلة الرسالة الغراء.
فالدعوة في الإسلام قد حددت بأنها تبليغ عن الله لا غير، وهذا التحديد قد ورد في الآية - 67 - من سورة المائدة (يأيها الرسول بلغ ما انزل إليه من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس أن الله لا يهدي القوم الكافرين) فلم يؤمر النبي ﷺ في هذه الآية إلا بتبليغ دعوة ربه، والله تعالى هو الذي يهدي إليها بعد تبليغه من يريد هدايته، ويضل عنها من يريد إضلاله، فإذا بلغ فقد أدى رسالة الله تعالى، وليس عليه بعد هذا أن يلح أو يستجدي في الدعوة إلى الإسلام، لأن دعوته اكرم من أن يستعان فيها بالإلحاح أو الاستجداء، لأنهما يعرضان الكريم إلى المهانة والاستثقال، ويؤديان إلى عكس المقصود منهما وهو الاستجابة للدعوة.
وهذا إلى أن أناقد أمرنا أن ندعوا إلى الإسلام بالحكمة، كما قال تعالى في الآية - 125 - من سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة وجادلهم بالتي هي احسن أن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) فإذا بلغ شخص الدعوة أو كان قد عرفها بنفسه كان الإلحاح في تبليغها إليه من باب تحصيل الحاصل، وهو عبث تأباه الحكمة التي امرنا أن ندعو بها إلى الإسلام، وإنما تقضي الحكمة أن نترك من بلغناه لنشتغل بتبليغ من لم نبلغه، فقد يكون اقرب منه إلى إجابة الدعوة.
وإذا رجعنا في هذا إلى سيرة النبي ﷺ وجدناه يكتفي بتبليغ الدعوة لمن لم تبلغه، ويترفع في التبليغ عن كل ما يقف بالدعوة موقف المهانة، فلا يلح فيها على من يجد منه ترفعا عنها، ولا يستجدي فيها من يجد منه استثقالا لها، ولا يضطغن عداوة على من بلغه فلم يستجب له، بل يبقى ما بينهما كما كان قبل أن يبلغه دعوته.
فها هو ذا يبدأ دعوته فلا يبدؤها بالإلحاح على قومه، ولا يعرضها على كل شخص منهم ولو لم يأنس منه الإجابة إلى الإسلام، بل لا يدعو إلا من يأنس منه الإجابة إلى دعوته من أهله وأصحابه، فكان أول من آمن به زوجه خديجة بنت خويلد، وقد دخل عليه ابن عمه علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة بيوم فوجدهما يصليان، فقال للنبي ﷺ: يا محمد ما هذا؟ فقال له: هذا دين الله الذي بعث به رسله، فأدعوك إلى الله، وان تكفر باللات والعزى، فقال له علي وكان غلاما صغيرا: هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم. فلست بقاضي أمرا حتى احدث أبا طالب - يعني أباه - فلما رأى النبي ﷺ تردده لم يلح عليه، ولم يقف منه موقف الملح المستجدي، بل قال له: أن لم تسلم فاكتم. وكان لهذا الموقف الكريم أثره في نفس علي، فلم يلبث أن اسلم، ثم اسلم زيد بن حارثة، وكان النبي ﷺ يتبناه، ثم أسلمت أم أيمن، وكانت حاضنة النبي ﷺ، وهؤلاء الأربعة كانوا من أهله، وكانوا اقرب الناس إليه، وقد دعا معهم أبا بكر بن أبي قحافة من بني تيم، وهم بطن من قريش، وكان اقرب أصدقائه إليه، ولهذا بدأ بدعوته دون غيره من أصحابه، فأسرع إلى التصديق به، وقال له: يا أبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وهكذا بدأت الدعوة عرضا كريما لا إلحاح فيه ولا استجداء، فكان إسلام من اسلم في ذلك الوقت إسلاما كريما قويا، لأنه كان استجابة خالصة للدعوة، ولم يكن فيه اثر يشينه لإلحاح أو استجداء أو نحوها.
وهذا عمه أبو طالب قام بكفالته وهو صغير، فلما بعث في سن الأربعين قام بحمايته من قومه وهو على دينه، فقبل النبي ﷺ منه هذه الحماية، واكتفى بان بلغه دعوة الإسلام، ولم يغير ما بينهما عدم استجابته له، بل كان ينزله من نفسه منزلة العم الذي قام بكفالته وهو صغير، ولا يثقل عليه من جهة ما يدعو إليه وهو كبير، ولا يوقعه في حرج ينفره منه أو يبغضه فيه، حتى توفي أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، والنبي ﷺ يكتفي منه بحمايته له، ولا يغيره عليه بقاؤه على شركه، بل كان يحبه حب ابن الأخ لعمه، ويتمنى لو يسلم من شدة حبه له، حتى نزل في هذا قوله تعالى - 56 - من سورة القصص (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
وهذا صفوان بن أمية بن خلف كان من اشد قريش عداوة للنبي ﷺ، حتى بلغ من أمره أن أرسل عمير بن وهب إلى المدينة ليغتال النبي ﷺ ولهذا أهدر دمه في فتح مكة، لأنه عد فيها من مجرى الحرب، كالذين يعدون مجرى حرب في عصرنا الحديث، فلما فتحت مكة هرب منها إلى جدة ليركب البحر منها إلى اليمن، فأتى ابن عم له إلى النبي ﷺ فطلب منه أن يؤمنه، فقال له: هو آمن. وإعطاء عمامته التي دخل فيها مكة علامة يعرف بها أمانه، فذهب إليه فأدركه قبل أن يركب البحر، واتى به النبي ﷺ، فلما علم منه أنه قد أمنه طلب منه أن يمهله بالخيار شهرين، فقال له: أنت بالخيار أربعة أشهر.
فأسرع النبي ﷺ إلى إجابته إلى ما طلب من الإمهال على الشرك، بل كان طلبه أن يمهله شهرين فأمهله أكثر مما طلب وأعطاه مهلة أربعة اشهر! ولم يستعمل معه إلزاما أو إلحاحا أو استجداء؟ تكريما لدعوته أن تمتهن إذا ألح عليه أو استجداه، وهي اكرم من أن تعرض للامتهان والاستثقال، وإنما شانها أن تكون هي المطلوبة بعد التبليغ لمن يدرك فضلها، ويعرف شهرف ما تدعو إليه؛ ويعلم نبل ما تأمر به.
وهكذا صين الإسلام في عهده في الأول عن العرض المهين، وحفظ الداعون إليه كرامته، وضنوا به عمن لا يعرف له قدرا، ولا يدرك له فضلا، فعز وكرم على الناس، كما يعز ويكرم كل معزز مكرم، واقبلوا علي راغبين من أنفسهم، كما يقبلون على كل عزيز عند أهله، بعيد عن كل ما يدعو إلى امتهانه أو استثقاله.
وقد بلغ من أمر النبي ﷺ في التلطف في الدعوة أن يقول لمخالفيه فيما أمره الله به في الآية - 24 - من سورة سبأ (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وأنا أو إياكم لعل هدى أو في ضلال مبين) فيلقى إليهم دعوته في هذه الصورة من الشك، ليتأملوا فيها وهم في تؤدة ورفق، فإن آمنوا بها آمنوا بعد إدراكهم لصحتها، ورغبتهم في الإيمان بها، فلا قسر ولا إلجاء، ولا إلحاح ولا استجداء، فمن آمن فلنفسه لا لغيره، ومن ضل فعيها لا على غيرها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
عبد المتعال الصعيدي