مجلة الرسالة/العدد 807/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 807/رسالة النقد
زوجات
ترجمة الأستاذ أحمد الصاوي محمد
كتاب رائع، ذلك الكتاب الذي يقدمه الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى قراء العربية. وبهذا الكتاب يثب الصاوي وثبة أخرى في الطريق الذي بدأه منذ سنين، حين راح ينقل شتى الألوان من ثقافة الغرب إلى الشرق، ويمزج بين هذه وتلك مزجاً موفقاً يقرب الشقة بين ذوق وذوق، وبين فهم وفهم، وبين شعور وشعور.
و (زوجات) يصدر معه كتابان آخران للصاوي وهما (فوشيه) و (الغيرة من الماضي). . . ثلاثة كتب ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً، تكون في مجموعها ثلاث مدارس كما يحلو للأستاذ الصديق أن يصنف كتبه فينسب كلا منها إلى مدرسة خاصة؛ فهناك مدرسة العبقرية، ومدرسة الحرب والسياسة، ومدرسة المجتمع. . . وإلى هذه المدرسة الأخيرة ينتسب كتاب اليوم (زوجات).
يقدم إليك الصاوي في هذا الكتاب ثمانية ألوان من الطبيعة الإنسانية، في كل لون منها امرأة. . هي زوجة. وعلى اختلاف الميول وتباين الأهواء وافتراق النزعات، تختلف الصور وتتباين الملامح وتفترق السمات، ويتمثل لناظريك معرض من معارض الصراع القوي العنيف؛ صراع العواطف والأفكار. . فيه لوحات نفسية، وفيه نماذج بشرية، وفيه ما فيه من حيرة العقل ولوعة القلب ووقدة العاطفة واشتعال الوجدان!
وأقف بك وقفة متأنية، متأملة، عند الزوجة الأولى صاحبة (الكراسة الحمراء)، تلك التي قضت العمر محلقة بالفكر على أجنحة الخيال، تحلم حلماً طويلا لا نهاية له. . حلم أرض الميعاد! هي قصة من روائع الأدب الفرنسي المعاصر لخصها الصاوي من قبل ثم عاد فنقلها إلى العربية نقلا أمينا، كاملا، احتفظ فيه بروح الفن في لغته الأصيلة؛ أما صاحبها فهو أندريه موروا عضو الأكاديمي فرانسيز وأما اسمها الحقيقي فهو (أرض الميعاد)، ولكن قلم الصاوي شاء أن يخلع عليها اسماً آخر هو (الكراسة الحمراء). . وقبل أن ألخص لك هذه القصة التي تشغل من الكتاب ما يقرب من ثلثيه، قبل هذا أود أن أشير إلى قصة أخرى ظهرت في أفق الأدب الفرنسي، هي قصة (الباب الضيق) لأندريه جيد صاحب جائزة نوبل للأدب عن عام 1948. . في قصتي جيد وموروا ناحية جديرة باهتمام القارئ المتمكن والناقد الذواق؛ ناحية يلتقي فيها الكاتبان ويفترقان بعدها في كل شيء!
أندريه موروا في (أرض الميعاد) فنان، وأندريه جيد في (الباب الضيق) إنسان. . وكلاهما يبلغ القمة في ميدانه: هذا في إنسانيته وذاك في فنه. وكلاهما يمضي بعد ذلك في طريق؛ تنزع القصة الأولى إلى الناحية الموضوعية أكثر مما تنزع إلى العرض والتحليل، على حين تقتصر القصة الثانية على الناحية التحليلية الخالصة، هناك حيث تطغى الألوان النفسية والظلال الإنسانية على كل ما عداها من ألوان وظلال! وبعد ذلك أيضاً يمضي كل منهما في طريق. . . فبينما تجد موروا يصهر العواطف الإنسانية في بوتقة الشهوة الجسدية العارمة، تلقى جيد يصهرها في بوتقة اللذة الروحية الهائمة؛ هناك شيء من الإباحية السافرة المتجردة، هنا شيء من الصوفية القلقة الغامضة. . . وفي كلتا القصتين صراع ملح عاصف عنيف، هو في (الباب الضيق) صراع بين روح وجسد، وهو في (أرض الميعاد) صراع بين روح وأجساد! في نطاق هذا الصراع الروحي الشاذ تتفق القصتان ويلتقي الكاتبان، ولا أقول إنه اتفاق كامل أو التقاء كامل، ولكنه اتفاق والتقاء على كل حال، يتمثلان في شخصيتين وضعهما جيد وموروا تحت مجهر التحليل النفسي وهما (إليسا) بطلة (الباب الضيق) و (كلير) بطلة (أرض الميعاد). كلتاهما خلقت تنشد الحب الذي لا تدنسه شهوة، ولا يشوه من قداسته لذة، ولا يعبث بطهره إثم، وهذا هو الحب المثالي الذي تضيق به دنيا البشر، وكلتاهما لقيت في سبيل هذا الحب آلاماً مبرحة وعذاباً لا يطاق، وتلك حال من يعيشون على الأرض وقلوبهم متعلقة بالسماء، لا شيء غير الصراع. . صراع القلب والعقل، صراع الفكر والعاطفة، صراع الجسد والروح!. . . أما موروافقد شاء لبطلته أن تخضع لمنطق الحياة والناس على ما فيه من قسوة ومرارة، لكنه خضوع المجبر المغلوب على أمره حين تتألب عليه القوى فيلقي السلاح، وتظل المعركة إلى الأبد محتدمة في نفسه وشعوره؛ وهذا هو منطق الفنان!. . أما جيد فقد آثر لبطلته أن تقاوم حتى النهاية، وأن تحمل من الشقاء في سبيل مثلها العليا فوق ما يحمل طوق الأحياء. لقد استحال حبها الإنساني على مر الزمن حباً إلهياً في هـ من شفافية التصوف ما يقرب بينها وبين الله. . . وفي فص اليوميات من (الباب الضيق) تهتف (إليسا) من الأعماق مشيرة إلى (جيروم): (يا إلهي، تمنيت لو نقبل كلانا عليك، تدفع أحدنا قوة الآخر! لو نمشي كل طريق الحياة حاجين يقول أولهما للثاني: استند إلى ذراعي يا أخي إذا تعبت، فيجيبه: حسبي أن أراك إلى حانبي! ولكن لا؛ إن الطريق التي توصينا بها يا إلهي طريق ضيقة، ضيقة حتى ما يستطيع سلوكها قرينان!. . . يا إلهي، لم اخترت لنفسي مرارة الحرمان! أتراني أطلب غير الحب فتنة أعذب وأقوى! آه لو نملك دفع نفسينا معاً بقوة الحب إلى ما وراء الحب نفسه!) وهذا هو منطق جيد. . منطق الإنسان!
وأعود بك مرة أخرى إلى قصة أندريه موروا. . . نشأت كلير منذ صباها المبكر تتطلع إلى الحب بعينين حالمتين وقلب ظمآن، ولكن مربيتها الإنجليزية ذات الطبع البارد والوجدان الفاتر كانت تحذرها دائماً من أخطار الحب، ونزوات العاطفة، وغواية الرجال. . كانت كلما حملتها أحلام اليقظة على جناح الأمل إلى أرض الميعاد، ردها صوت المربية العجوز إلى أرض البشر: إحذري يا فتاة إن الرجال ذئاب، تقودهم إلى مهاوي الرذيلة شهوات وغرائز! وشبت كلير عن الطوق ولا يزال في نفسها وسمعها من دروس المربية العجوز رنين وأصداء!. . . أما أبواها فقد تلقت عنهما من الدروس ما طبع نظرتها إلى الحياة بطابع القلق والحيرة والترجح بين قسوة الواقع ومثالية الخيال؛ كان أبوها ضابطاً كبيراً عوده جنود أن يأمر فيطاع، وعودته الطاعة العمياء أن يرى فيمن حوله آلات يدفعها فتندفع!
وهكذا عاشت كلير. . لا يسمح لها أن تبدي رأياً، ولا يؤذن لها أن نعلق على أمر، ولا يتاح لها أن تعترض على وضع من الأوضاع. . أما أمها فكانت امرأة شاذة غريبة الأطوار، لا تعترف بهذه العاطفة المقدسة التي يسميها الناس حباً، وكثيراً ما كانت تضم صوتها إلى صوت المربية العجوز في تحذير ابنتها من لعنة الحب، وخبث الطوية عند الرجال!. . ومما ترك أثراً عميقاً في نفس كلير أنها كانت كلما قادها الخيال إلى حلم كل عذراء، إلى ليلة الزفاف، ارتفع صوت مربيتها ليقول لها في دهشة مقرونة بالعجب والاستنكار: (ليلة الزفاف؟ ألا تعلمين ما هية ليلة الزفاف؟!. . . تصوري مذلة أن تتجرد المرأة أمام رجل، وأن تظل عارية تماماً رهن مشيئته، وطوع إرادته، وتحت رحمته!. . . آه من شناعة هذا كله!) في هذا الجو الملبد بالقسوة، المفعم بالرهبة، الحافل بالشذوذ، عاشت كلير. . . ومن هذا الجو الخانق خرجت إلى الحياة لتواجه الحقائق بعقلية الأب والأم (ومس برنكر) المربية العجوز، عدوة الرجال! ولكنها كانت أبداً تحلم بأرض الميعاد، أرض العبقرية، أرض النبوغ. أرض الوحي والإلهام. . كانت تتمنى أن تصبح يوماً كاتبة عظيمة أو شاعرة عظيمة، وحين لم يتحقق لها شيء من هذا كله، راحت تحلم بأن تكون زوجة لكاتب عظيم أو شاعر عظيم، وما أجملها من أمان عذاب وهي تتخيل نفسها إلى جانبه، تعطف عليه فتوحي إليه، وتلهبه فتلهمه، ويذوقان معاً أول قطرة من قطرات الخمرة المسكرة. . خمرة الفن والمجد والخلود!
ولكن الأيام تمضي بها في طريق كل معالمه صخور وأشواك. . لقد دفعت بها إلى أحضان رجل لا يفهم لغة الفن، ولا موسيقى العواطف، ولا نبضات القلوب؛ وهكذا قدر لكلير أن تعيش في رحاب زوج لا يكاد يرى المرأة إلا من وراء منظار الشهوة المحترقة، الشهوة التي تنشد الجسد ولا تعبأ بنداء الروح، الشهوة التي لا تصغي لصوت غير صوت الغريزة، صوت الحيوانية المتأججة في الأعماق!. كان (ألبير لاراك) ملكا من ملوك المال، وفي بيته عاشت كلير كما تعيش الملكات، ولكن شيئاً واحداً كان يحيل النور في عينها الساحرتين ظلاماً، ويلهب روحها بسياط العذاب، ويفجر الألم في أعماقها تفجيراً. . . هو تلك العلاقة الجنسية (الشائنة) التي يفرضها عليها منطق الحياة والأحياء!. . . هذه الروحانية الشفافة التي كانت تحلم بها في أرض الميعاد، وهذا الهيام العلوي الذي كان يربطها بالسماء، وهذا الشعور المثالي الطليق المحلق في آفاق الخيال، هذا كله قد تحطم على أرض البشر. . . ويا ويح الخيال حين يرتطم بقسوة الحقيقة ومرارة الواقع! حتى هذا الطفل الذي أنجبته لم يثر في حنايا الضلوع عاطفة، ولم يشعرها يوماً بحنان الأمومة؛ لقد كان يذكرها دائماً بأنه أتى إلى الدنيا عن هذا الطريق الذي كانت تبغضه، وتنفر منه، ويرمض جوانحها بالعذاب. عن طريق العلاقة الجنسية (الشائنة)، علاقة (الشقاء المقدس) لا الرباط المقدس! هكذا كانت تشعر كلير، وتنظر إلى منطق الحياة والناس!
أرض الميعاد، ولا شيء غير أرض الميعاد. . أين من يقودها إلى هذه الأرض التي أقامت لها في معرض الفكر صوراً فاتنات، وحشدت لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان وظلال!. لقد وجدته، وجدته أخيراً وكأنهما كانا على ميعاد، وجدته في شخص شاعر عظم فتنها برقته، وغزا قلبهابعبقريته، وسحرها بلطف حديثه، وكان اسمه. . (كريستيان منتربيه)!
وفي هذا الظل الظليل من عبقرية الحب وحنان الحبيب، نسيت كلير أن لها زوجاً وبيتاً وابناً. . كل خلوة مع الشاعر، وكل رحلة مع الشاعر، وله ألف نزهة تهيئها الأحلام تحت ضوء القمر!. وتصل أنباء الزوجة إلى الزوج بعد أن أصبحت حديثاً تجهر به الشفاه، وينتهي الأمر بينهما إلى الطلاق. ويعود هو إلى أشجانه، وتعود هي إلى كريستيان منتربيه!
وفي رحاب الزوج الجديد عاشت كلير. . عاشت في رحاب الرجل الذي ضحت في سبيله بالزوج والإبن وكل نعيم يهيئه للمترفين سلطان المال! وكم عطفت عليه فأوحت إليه، وكم ألهبته فألهمته، ولكنها لم تذق معه تلك الخمرة المسكرة. . . الخمرة التي عتقتها الأوهام في دنان أرض الميعاد!. لقد كان الشاعر وا أسفاه بشراً ككل البشر!! وفي تلك الرسالة التي بعثت بها كلير إلى كريستيان بعد اثني عشر عاماً من زواجهما، يصور أندريه موروا بريشة الفنان المبدع، كل ما كان يعتلج في نفس بطلته من صراع رهيب بين الروح والجسد، ظل إلى أن ودع الشاعر الحياة، أقباساً من وهج اللوعة وفنوناً من عبقرية الألم!.
ونقتطف هنا فقرات من هذه الرسالة الملتهبة:
(يا حبيبي الأعز، إنني منذ مقامي هنا قد بدأت ثم مزقت عشر مرات رسالة كنت أريد وكان ينبغي لي أن وجهها إليك منذ وقت طويل. إن ما لدي وعلي أن أقوله مؤلم لي، وأخشى أن يسبب لك الماً. . . إنني لا أظن يا كريستيان أنك تستطيع أن تتصور إلى أي حد قد تألمت منذ اثني عشر عاماً، لقد كنت معجبة بك، لقد كنت أحبك، لقد كنت غير راغبة في أن أكون لك. لا لك ولا لسواك. وما كان أسعدني لو بقيت إلى جانبك صديقة، أو لو استطعت خاصة أن أكون ملهمة، ولكنك لم ترد ذلك وقد استسلمت خافضة جناح المذلة لأني خشيت إذا أنا قاومتك أن أفقدك. . . لقد توقعت منك إذا أنا فرضت على نفسي تضحية إعطاء نفسي، أن أجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت مما لم يحدث، ولم ينكشف لي الزواج عن الوادي العجيب، ولم ألمح أرض الميعاد يا كريستيان! إني أحبك يا كريستيان ولا أحب سواك، وإن من عناصر مأساتي أنني لك وسوف أكون مخلصة إخلاصاً لا يأتيه الشك ولا ينال منه شيء ولو بلغ بي اليأس والقنوط حد المنون. . إنك لو أردت فوضعت في زواجنا من الشعر بقدر ما تصنع في غراميات الأبطال الذين تخلقهم، فربما كنت أبلغ من الحرارة الدرجة العالية علواً خارقاً، الدرجة اللازمة لتصهر تحفظي وتذيب جمودي. . . إن في الحياة الزوجية - على النحو الذي يخيل إلى وكما أتصورها - شيئاً متكرراً، شيئاً فاحشاً يثلج بدني ? وإني أفترض أنني مخطئة، وأن المرأة الطبيعية العادية تجد شيئاً طبيعياً عادياً هذا (الهوى الجسدي الأعظم) كما هو عندكم أيها الرجال كل مساء، من دون أن تغلف هذه الحركات والإشارات في كل مرة بالشعر والقلق والجمال. لكن ما حيلتي وقد خلقت هكذا؟!. . إن أعصابي تحترق شيئاً فشيئاً من تكرار هذه المعاناة، بل إن عقلي نفسه قد اضطرب! وتتصاعد في كياني أبخرة الضغن والغيرة، وأحياناً الحقد، على تلك المخلوقات البريئة التي كل جريمتها عندي أنها تتذوق لذات تأباها على طبيعتي. . .!
بعد هذه الزوجة الشقية التعسة، تجد ست زوجات أخرى لخص الصاوي حياتهن عن قصص ومسرحيات مطولة في الأدب الفرنسي، وسترى أن واحدة منهن قد لقيت من الشقاء والتعاسة ما لقيت كلير، وهي (زوجة الكاتب). . . وأن أخرى قد لقيت من ذل الحياة وقسوة الأيام أضعاف ما لقيت بطلة أرض الميعاد، وهي (زوجة الضابط). . . وأن ثالثة قد واجهت العاصفة بصبر وثبات ورجاحة عقل حتى بلغت الشاطئ، وهي (زوجة الوالي). . . أما مسرحية (أزواجها الثلاثة) فقد كانت بمثابة البسمة المشرقة وسط مآسي الدموع ?. . . أما الزوجة السابعة والأخيرة فبطلة قصة مصرية كتبها الصاوي بقلمه تحت عنوان (زوجة الطبيب)، ولعل هذه القصة هي الثغرة الوحيدة في هذا الكتاب، الثغرة التي ينفذ منها الناقد إلى شخصية الصاوي الفنية ككاتب قصة. . . لقد كان فيها مجال رحب للخيال المفتن ولكن الصاوي وجه كل عنايته إلى الإطار دون أن يحفل كثيراً بتلوين الصورة، ومن هنا فإن الحركة النفسية قد اعتراها شيء من الهمود، مبعثه تلك اللمسات السريعة العابرة في مواقف تحفل بعنف الصراع وفورة العاطفة!
أنور المعداوي