مجلة الرسالة/العدد 806/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 806/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
على هامش اليونسكو
لقد بذل لبنان منتهى النشاط في الإعداد لمؤتمر اليونسكو، وأنفق كثيراً في الأوجه المختلفة المتعلقة به من تشييد وتأثيث وضيافة وغير ذلك. ودعت مصر أعضاء المجلس التنفيذي لليونسكو إلى عقد دورة فيها عقب انتهاء مؤتمر بيروت العام، فلبوا الدعوة وسينزلون ضيوفا على الحكومة المصرية من يوم 12 إلى 16 ديسمبر الحالي، ويزورون في خلال ذلك المتاحف والآثار، والدور العلمية، وتقام لهم بعض الحفلات، ويشاهدون التمثيل في الأوبرا.
ولاشك أننا - لبنان ومصر - نقصد إلى الدعاية لبلادنا، ونسير في وسائلنا لذلك على ما عرفنا به من الكرم والسماحة، ولا علينا أن للدول الغربية عندما تدعو إلى عقد المؤتمرات العالمية لا تبذل لها ما تبذل بل لعلها ترمي إلى الاستفادة الاقتصادية من وجود أكبر عدد ممكن من مندوبي الدول فيها، فنحن أحفاد حاتم الطائي، ونحن أبناء الشرق الروحيون. . .
ولكن عندما يشاهد أولئك المندوبون الضيوف الكرام منشآتنا وبناياتنا الفخمة الضخمة، من تليد وعتيد، ويرون الأنوار الساطعة في ميادين عواصمنا - لا ينبغي أن نغتر بظاهر ثنائهم، فإن لهم عيونا نافذة تلمح ما وراء هذه المظاهر جزءا صغيرا جدا منها. . . فبناء الجامعة - مثلا - بالغ الروعة، وبها عدد من الأساتذة الأعلام لا يقلون في مستواهم العلمي والفكري عن أمثالهم في أرقى الأمم، ولكن هذه قمة الهرم والباقي سفح لا يشرف ما به من نسب الأمية والجهالة، ومسرح الأبرا يتيم في القطر وأرستقراطي، والأنوار الساطعة لا تعشي البصر عن رؤية الأكواخ ومساكن الفقراء. . . الخ.
وأنا أريد أن أفرض أن ضيوفنا سينخدعون بما نغرقهم فيه من ضباب الحفاوة والمظاهر، وما أحب إلينا ذلك، ولكن أخشى أن ننخدع نحن بصنعنا. . . فنظل على ما نقوم بتمثيله ونحن في أشد الحاجة إلى أن نعيش أكثر الوقت في واقعنا، نواجهه ونرفعه حتى نصل إلى الحد الذي نستمد فيه تمثيلنا من واقع الحياة.
التعليم المصر وهذه مسألة من صميم اختصاص منظمة اليونسكو، فليت وفد مصر يثيرها في المؤتمر، أليس من مبادئ اليونسكو نشر التعليم في أرجاء العالم؟ فلتقل للإنجليز لم يقفون في وجه انتشار التعليم في السودان ويعرفون الجهود المصرية في هذا السبيل؟
فقد تضمن خطاب العرش افتتاح الدورة البرلمانية الحاضرة أن الحكومة المصرية تعمل على إنشاء مدرسة ثانوية في الأبيض ومدرستين ابتدائيتين إحداهما في كسلا والأخرى في بور سودان ومدرستين أوليتين إحداهما في واو والثانية في بور. فبلبل ذلك الخاطر الإنجليزي في السودان، لأنهم يعطون التعليم للسودانيين بقدر وعلى النحو الذي يريدونه، من حيث تهيئته تهيئة آلية، وتشبيعه بالروح الموالية لهم، أما المدارس المصرية فهي الخطر كله، وأقل ما فيها أنها تجمع أبناء الوادي على ثقافة واحدة، وهي تشعر السودانيين بأن للحكومة السودانية الإنجليزية شريكا في النفوذ هناك، وحكام السودان من الإنجليز يحرصون على أن يقروا في أذهان إخواننا بالجنوب أنهم - أي الإنجليز - كل شيء هناك، وليس لمصر معهم حول ولا طول.
فما كان من الخاطر الإنجليزي المبلبل في السودان إلا أن أفضى لسانه في مؤتمر صحفي بالخرطوم - على الطريقة الإنجليزية الرقطاء - أن حكومة السودان تشكر مصر على شعورها نحو التعليم في السودان إلا أنها ترى أن تتعاون وزارة المعارف المصرية مع مصلحة المعارف السودانية على إنشاء هذه المدارس المقترحة والإشراف عليها بدلا من أن تكون تابعة رأسا لتلك الوزارة، لأنه ليس من مصلحة البلاد إقامة نظامين للتعليم فيها لكل منهما برنامجه الخاص.
ومعنى ذلك أن إدارة المدارس المقترحة تكون (ثنائية) ومعنى الثنائية في العرف الإنجليزي بالسودان أن ينفرد الإنجليز بكل شيء هناك دون مصر، طبقا لخرافة (الحكم الثنائي) المشهورة. .
ثم كيف كان من مصلحة البلاد إقامة نظامين للتعليم يوم أنشئت مدرسة الملك فاروق في الخرطوم ومدرستان أوليتان في جبل الأولياء وملكال، ثم اصبح ذلك الآن مخالفاً لمصلحة البلاد؟ أكان من المصلحة لأنه وقع في سنة 1943 في خلال الحرب يوم كان (الخلفاء) يخطبون الود ويبذلون الوعود ويستجدون الثقة والمعونة، ثم صار الآن من غير المصلحة.
؟ على أن النظامين قائمان، حتى قبل إنشاء المدارس الحكومية المصرية، فهناك منذ زمن مدارس أهلية برنامجها مصري، ويقبل أبناء السودان على هذه وتلك على رغم العقبات التي تضعها الحكومة السودانية في سبيلهم، والتي منها عدم الاعتراف بالشهادات المصرية في التعيين بالوظائف، والالتحاق بالمدارس العالية التابعة لحكومة السودان، وغير ذلك.
وبعد فإذا كان الهدف الأول لليونسكو القضاء على أسباب الحروب في عقل الإنسان، فهذه هي عقول الإنجليز في السودان.
الصهيوني والفرقة المصرية:
(الصهيوني) مسرحية ألفها، وأخرجها، وقام بدور البطل فيها، الأستاذ يوسف وهبي بك؛ ومثلت في هذا الأسبوع على مسرح الأوبرا الملكية. وهو يقدم لنا فيها شاباً ماجناً خليعاً مدللاً متعطلاً على الرغم من أنه درس الهندسة الميكانيكية ونال فيها أعلى الشهادات، وهو ابن (باشا) عسكري قديم: يسخط عليه أبوه لأنه ولد (خسران) وفجأة يهبط على المنزل بطائرة ويعلن أنه أصبح ضابطاً في سلاح الطيران بالجيش المصري تلبية لنداء الواجب في حرب الصهيونيين بفلسطين، وفي هذا الموقف نرى البطل الطيار (يوسف وهبي) يقلب الجو الذي كان ينبغي أن يكون رائعاً، إلى مهزلة. . يسخر فيها من أبيه (الرجل العسكري) ويتندر عليه. وتسود هذه الروح وهي تكلف الظرف والفكاهة في غير موضعها - أكثر مواقف الرواية، ومن ذلك ما يحدث عند ما يفاجئ الأسرة شاب يدعي أنه (سامي) ابن الباشا من زوجته الأجنبية التي خرجت به من مصر صغيراً، وأنه لما علم بأمر مصر تحارب في فلسطين أسرع إليها ليؤدي واجبه، ويظهر فيما بعد أنه جاسوس صهيوني، وهو المقصود بعنوان الرواية، يدخل هذا الشاب على أسرة الباشا فيستقبلونه ويدهشون للسانه المصري فيقول لهم: إنه كان يدرس اللغة العربية في كلية اللغات الشرقية بألمانيا، وينطق بعبارات فصيحة، فيقول له (عزت) المهندس الضابط الطيار: (دا بيكلم نحوي كمان. . . دا ينفع فقي!) وهذا كلام ليس بائخاً فحسب بل هو من فكاهات الطبقة العامية البحتة. . .
هذا وقد أجاد فؤاد شفيق الذي مثل دور الباشا، في دعابته، وهو ممثل مطبوع على الظرف بإلقائه وحركاته وتعبير ملامحه.
وأجادت أمينة رزق في تمثيل (منى) بنت أخي الباشا، أجادت في القيام بدور الفتاة الكريمة ذات الإحساس النبيل، التي تتألم إزاء إعراض (عزت) عنها، ووالداه يلحان في زواجه منها. وقد رفعت المسرحية في دورها عن مستواها المسف. . . وكذلك فعلت سامية رشدي التي مثلت الزوجة التركية المطيعة والأم التي تكاد تهلك أسى على مصير ولدها.
وقد توالت في أواخر الرواية المفاجآت وازدحمت المصادفات مما كاد يخرجها عن مألوف الواقع في الحياة، فقد كشف أمر الجاسوس الصهيوني بعدة مصادفات محكمة، كأن الأقدار تشترك في تأليف الرواية. . . وقد أفرغ يوسف وهبي المؤلف طاقته الصاخبة في التأليف، حتى لم يبق له منها شيء في التمثيل. . . فقد مثل (عزت) فصغر حتى صار شاباً في الخامسة والثلاثين، صغر (بالمكياج) ولكنه ظل جامد الحركة، تتعاقب عليه الأحداث وهو هو لا تغيير ولا تعبير. ويوسف وهبي إنما يعبر بالحنجرة والصوت الجهير والتلويح باليد وما شابه ذلك، وهو ينجح في هذا اللون من التمثيل حتى يبلغ القمة، ولكن دوره في هذه الرواية لم يكن كذلك.
والمسرحية ترمي إلى الإشادة بالوطنية المصرية، ولكن الموضوع شيء، وطريقة معالجته وأدائه ونصيب ذلك من الفن الراقي شيء آخر. فالرواية تشبه (الاسكشات) التي تقدمها الفرق الاستعراضية، وما أشك في أن (شكوكو) كان أليق من يوسف وهبي بدور (عزت).
ومما يؤسف له أن الفرقة المصرية بعد أن بدأت موسمها بمسرحية (سر الحاكم بأمر الله) وكان يرجى أن تسير في هذا المستوى، وقد ألف لها محمود تيمور وتوفيق الحكيم مسرحيتين جديدتين لم تظهرا بعد أقول مما يؤسف له أنها أخذت بعد ذلك في برنامج لا يبشر بنجاح الموسم النجاح المرجو من المسرح في مصر بعد أن انحصر في الفرقة التي ترعاها الحكومة. وقد أعلن أن الفرقة ستمثل بعد (الصهيوني) روايات أخرى قديمة ليوسف وهبي، وقد تكون هذه الروايات نجحت في وقتها. ولكن هل تصلح الآن للنهضة المرجوة، وهي تحتاج إلى التجديد، وإلى الفن الراقي؟
لا أقول إن يوسف وهبي يستند إلى رعاية الدولة وإعانتها للفرقة المصرية، فيعمد إلى إظهار نفسه كل شيء في كل شيء. . . في التأليف، وفي الإخراج، وفي التمثيل، وفي النقد بالحكم على براعته في الإعلانات التي يصدرها باعتباره مديراً عاماً للفرقة، وهذا (أنه مدير عام) الطرف الخامس للأطراف التي يريد أن يجمع المجد منها كلها - لا أقول ذلك إلا خوفا على الفرقة المصرية أن تعصف بها هذه الجهود المترامية ونحن في عصر الاختصاص، فليكبح يوسف وهبي جماح عبقريته الشاملة ويترك التأليف على الأقل ويفسح للآخرين من أهله أن يساهموا في خدمة المسرح وتغذيته ورفعته.
الحادثة الهامة:
قرأت الكلمة التي كتبها الأستاذ أحمد عزيز بيتوغن بعنوان (أوهام لغوية) ونسب إلي وهما منها في بعض ما كتبت، وهو (والحادثة الهامة في القصة أو العقدة فيها، ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية) قال: (واستعمال كلمة هامة في هذا المكان للدلالة على أهمية الحادثة وهو لغوي! وكان الصواب أن يقول الحادثة المهمة، ففي قاموس الصحاح للجوهري ما يلي: المهم: الأمر الشديد، وأهمك من الأمر: ما أقلقك وأحزنك).
وفي هذا الكلام وهمان لغويان، أتاه الأول من وقوفه عند (الصحاح) فاعتمد (أهمه) وأنكر (همه)، ولو أنه فتح معجماً آخر لوجد أنهما موجودان بمعنى واحد، ففي القاموس المحيط (همه الأمر هماً ومهمة حزنه كأهمه). وفي المصباح المنير (أهمني الأمر بالألف أقلقني وهمني هماً من باب قتل مثله) فالهامة من وهم والمهمة من أهم، واستعمال كل منهما كاستعمال الأخرى، ويبدو لي أن استعمال أيهما في الدلالة على الأهمية آت من حيث أن الأمر المقلق يدعو إلى الاهتمام.
الوهم الثاني في قوله: (قاموس الصحاح للجوهري) لأن القاموس علم على الفيروز أبادي مأخوذ من القاموس بمعنى البحر، وليس كل معجم قاموساً كما وهم حضرته.
ويظهر أن السيد بيتوغن يريد أن يكون معقباً لغوياً، فأنصحه بالحذر من (الأوهام) وأتمنى له أطيب التمنيات.
عباس خضر