انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 803/كتاب جديد لتوماس مان:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 803/كتاب جديد لتوماس مان:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 11 - 1948



(دكتور فاوستس)

للأستاذ عمر حليق

هذا الإنتاج الفني الرائع لأمير البلاغة الألمانية مقالة عن الحضارة الألمانية المعاصرة كتبها عقل يمثل هذه الحضارة خير تمثيل ويستوحي فيها ألواناً من التحليل الفلسفي العميق لمناحي العظمة والضعف في العقلية الألمانية والخلق الألماني.

وأكبر الظن أن الشعب الألماني لن يقرا هذا الكتاب، ولن يتأثر به كما يريده مان أن يتأثر. فهؤلاء التيوتونيون الذين يملكون القول الفصل في حضارة أوروبا وسلام أوروبا وعظمة أوروبا مشغولون الآن بالجوع والحرمان والبلبلة السياسية والفكرية والسعي لإزالة هذا الحطام الذي تركته قنابل الأنجلوسكسون وجحافل الروس في أزقة المدن وحقول الأرياف، وفي الأنفس البشرية التي تحطمت معنوياتها في موجات متلاصقة من زوابع سياسية تعصف بهم تارة من موسكو وطوراً من العلم الجديد.

فكتاب مان الجديد أسطورة في تاريخ الأخلاق الألمانية وسجل لهذا الوضع المحزن الذي يكتنف الألمان من كل جهة فيسد عليهم منافذ الفكر والإبداع الفني مؤقتاً على الأقل.

وأكبر الظن كذلك أن الشعب الألماني لن ينتفع بالكتاب لأن مؤلفه اختار الوطن الأمريكي مقراً، وكان قد أستقر به في أوائل النازية لاختلافه معها على حدود الدولة في حرية الفرد وتفكيره وما يؤمن به ويدعو إليه من مبادئ، وما يفسر به شؤون العقل والحياة مما لا يجد في الفلسفة النازية مكاناً. وإذا صلح الحكم المطلق لتنظيم الفوضى السياسية والتفكك الاقتصادي في فترة من حياة أمة فإنه لا ينبغي مطلقاً أن يقيد الفكر كما يقيد الإنتاج الصناعي، ويحدد كما يحدد اتجاهات السياسة.

وفوق ذلك فإن توماس مان ظنين الولاء لوطنه. كان المعجبون بعبقريته (وألمانيته) ينتظرونه ليعود فيشارك هذا الشعب النشيط مسئوليته الجسيمة في فترة عويصة يحتاج فيها إلى رسالته الفنية كما تحتاج إلى رسالة (شاخت) الاقتصادية، ولكن مان - ولعله بتأثير زوجته اليهودية - لم يعد لألمانيا بعد، ويبدو أنه لن يعود، وهو يقطن الآن على بعد دقائق من هوليود مدينة السينما.

على أن ولاء توماس السياسي لا يعرف حدوداً إقليمية كمعظم المثقفين الممتازين، ولكن ولاءه الثقافي لا يزال ألمانياً، ولا يجاري هؤلاء اللاجئين من كتاب أوروبا الوسطى - ومعظمهم يهود - في تهالكهم على الاندماج في الثقافة الأمريكية المزدهرة اندماجاً فيه كثير من النفاق، وفيه كثير من (المادية) التي تفسد مقاييس الإعجاب الفني والإنتاج الفني.

هذا الكتاب الجديد دراسة للعلة الألمانية، وتوماس مان حريص على أن لا يوصي بمعالجتها أو بإيجاد حل لها، فإذا قرأته - وقراءته من أمتع القراءات في الأدب الغربي المعاصر - خرجت منه بشيء واحد، وهو أن هذه العلة الألمانية حقيقة ثابتة، لم تستمد وجودها من النازية ولكن من صميم الثقافة الألمانية والخلق القومي الألماني.

هو حوار بين توماس مان ونفسه، وهو تحليل لهذا الانفعال العقلي الشديد الذي ألم بتوماس مان بعد أن شاهد المحنة تلم بالثقافة التي ولد فيها وأحبها وأنشد روائعها في قوة وإجادة. وهذا الحوار قصة بطلها فنان ألماني معاصر هو (أدريان ليفركون) وهو مجدد موسيقي توفي في أوج المجد النازي عام 1940 قصها على القارئ أستاذ في مدرسة ألمانية أختلف مع النازية حول فلسفة التربية فأنزوي في الأرياف يكتب ويفكر، فلا هو منقطع عن الحياة الألماني - فإن له ولدين في الجيش - ولا هو قانع بالاتجاه الذي تسير فيه هذه الحياة الألمانية.

والظاهرة الخالدة التي تكرر في إنتاج توماس مان هو هذا التوازن في الوضعية، والصراع العقلي الذي ينشأ عن هذا التوازن - صراع الأمن في عزلته في الأرياف، والفنان الثائر على الوضع يحمل على أكتافه عبء المعرفة، الصراع بين (الصحيح) و (المعتل). خذ أي قصة من قصص توماس مان (جبل السحر) (بود نبروك) (يوسف وأخوته) يأسرك هذا الصراع، إذ أنه سبيل إلى تعليل كلا الوضعين في اتزان العقل الألماني المدقق الذي جعل من قصص مان إنتاجاً فلسفياً بالإضافة إلى كونها روائع أدبية خالدة.

ولقد حبك توماس مان هذه القصة في مهارة تنتزع منك الإعجاب.

فراوي القصة (الأستاذ المتقاعد) يعبد عبقرية بطل القصة أدريان، وهذه العبادة ليست وليدة التقدير الحق لهذه العبقرية، ولكن من قبيل عبادة الأبطال، وهي ظاهرة متأصلة في العقلية الألمانية تعمد توماس مان إبرازها لأنها من الأسس الراسخة التي تدفع الألمان أن لا يسلكوا على نحو ما سلكوه مع هتلر ومع غير هتلر ممن تعاقبوا على الزعامة في التاريخ الألماني.

هذه العبادة هي مزيج من العقل والعاطفة، وهي المسؤولة عن هذه الولاء الشديد، هذا التفاني في المطاوعة والامتثال والتي تتأصل في الخلق الألماني.

فأدريان فنان مترفع - يعلم مقدار عبقريته وينزع إلى الغلظة والشراسة بفضل هذا العلم، وذلك لأنه تواق لأن يوفي هذه العبقرية الفنية حقها لا أن يجاري المعجبين.

وأدريان رجل يعيش في المجتمع ولكنه لا يتقيد به؛ ذلك لأنه نذر نفسه لأن يخدم هذه العبقرية وأن يوفي الفن حقه في الإنتاج والإبداع. فألقى في نفس أدريان أن يحل الإبداع إلى أبعد ما يستطيعه الخيال. وهذا الوضع الذي صاغ فيه توماس بطله أدريان وهو وضع العقلية الألمانية التي تميل إلى العزلة عن المجتمع الإنساني لأنها فخورة بهذا العمق الثقافي وهذه المهارة المادية، ولأنها تود أن تستغل هذا العمق وهذه المهارة لأنها تعتقد بأن البروز والتجلي يستلزمان واجبات للمضي قدماً في إعلاء هذا البروز وهذا التجلي.

ولك أن تفسر النداء الهتلري (ألمانيا فوق الجميع) بأنه خلاصة لهذا الاتجاه العقلي لدى الألمان لدى الألمان صبغ في لغة شعبية.

استمع إلى أدريان يحدث صديقه المدرس (راوي القصة) عن حرب ألمانيا الأولى (1914) ويدافع عنها بأنها الوسيلة الوحيدة لألمانيا لأن تحقيق ما هي خليقة به بحكم كيانها ومقوماتها العقلية والنفسانية والمادية:

(إن في قرار العالم مشكلة واحدة، وهذه المشكلة هي العالم نفسه، كيف يمكن للمرء أن ينفذ منه؟ وكيف يخرج منها إلى الفضاء؟ ما السبيل للمرء أن يشق الغشاء ويخرج إلى النور كالفراشة؟).

والجواب عن كل هذا راسخ في عقل أدريان ومستمد منه. فلم يشأ توماس مان أن يصيغ الجواب في شيء أقل عنفاً من مرض الزهري الخبيث.

فأدريان على ترفعه وعمق ثقافته وعبقريته أحب عاهرة نقلت إليه المرض. كانت الشيطان يزين له الخروج من محنته فآمن بها وتمتع ووجد مخرجاً ولكن إلى حين - وبثمن باهظ. استمع إلى أدريان يقول: (إننا لا نخلق من العدم شيئاً جديداً - فذلك من شأن الآخرين. إننا نفرج عن أنفسنا فقط، ونطلق الحرية. إننا ندع العوج والشعور بوطأة النفس والشكوك وسواها تذهب إلى الشيطان. فعليك أنت أن تمهد السبيل، فاضرب في الأرض وشق الطريق إلى المستقبل فإذا الصبية يتبعونك، فهم ليسوا بحاجة إلى جنون ليفعلوا ذلك، فجنونك أنت كفاهم شر الجنون. فعلى جنونك يعيشون أصحاء، وعلى أكتافهم تعيش أنت صحيحاً. أفهمت؟ فإنك لن تشق لنفسك الطريق وسط صعاب الزمن، بل إنك تشق الطريق وسط الزمن نفسه. . . واحرص على أن تكون بربرياً مضاعفاً لأنك آت في أعقاب اللطفاء).

هذه محنة ألمانيا وسوادها مستمد من صميم القوى الألمانية نفسها.

وقصة توماس مان ليست على هذه البساطة، فالحبكة الفنية فيها بارعة. وهذه المحنة ليست محنة النازية فإن مان يكاد يتجاهلها. فهي محنة العقلية الألمانية كما هي وكما كانت، ولعل الألماني حين يتساءل كما تساءل أدريان:

(لماذا يبدو لي كل شيء في هذا الكون مشوه الأوضاع؟)

لا يصور انفعالاته فقط، بل يصور نفسه كذلك ومعه المجتمع البشري بأسره.

(نيويورك)

عمر حليق

سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية