انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 802/نفاق المخلص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 802/نفاق المخلص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1948



للأستاذ ثروت أباظه

رجل أصابه الدهر بنكبات تصيب إحداها الشديد فتصرعه، غير أنه كان أقوى من الشدة فثبت، ومرت به الزعازع لم تصب منه مكسراً، ولم تقصف له عوداً، ولكن نفسه دون أن يمر بها الخطب ولا يؤثر فيها. . فانعقدت بها العقدة، وكره أن يرى السعادة؛ فحصص حياته الباقية لحرب الخير، ومناهضة الرفاهة، وتدعيم الشر، ومباركة الشقاء.

عرفته وهو يستقبل المصائب، وكان إذ ذاك لا يفرح لفرح الناس، ولكنه كان أيضا لا يفرح لحزنهم، ثم شهدته والمصائب تعتوره من كل جانب حتى لم يعد فيه مكان لإصابة، فصار إلى ما هو عليه.

ولنا صديق رأى سعادته وسعى إليها، فسارع إليه الرجل ذو العقدة يثنيه عما يروم، باذلا في سبيل ذلك ما شاء من خسة وكذب. وكان الصديق يعرف في الرجل عقدته وخسته، ولكنه لم يفكر يوما أن تصيبه هو هذه الخسة وهو الذي يبذل له الود الصادق والعطف الكريم. . . وظل يحسن به الظن حتى انكشف له لؤمه وكذبه، فرمى بقوله عرض الأفق، وأتم ما كان مقدماً عليه، وكفأ الرجل ذو العقدة على مرجله غطاء من ود ظاهر.

ظننت أن صديقي سوف يشيح عنه بحبه وعطفه، وأنا أعلم فيه صدقاً في وده، فلا يمنحه إلا صادرا عن قلبه. ولكن الصديق أخلف ظني، وراح يظهر للرجل مثل ما كان يظهر، حتى احتسبت الله في صفائه، واعتقدت أن الحياة علمته خداعاً كان يجهله، ولكنني لم أطق أن أودع فيه خلالا حمدتها زمناً قبل أن أسأله:

- أراك ما تزال تحبه، وهو الذي فعل ما فعل. وأعرفك لا تبذل حبك من لسانك!

- إن ما فعل لا يعرفه إلا أنا وهو أنت. فإذا تغيرت عليه ظهر ما لا أحب إظهاره.

- وتنافق!؟

وماذا في ذاك!؟

- كأني أكلم شخصا لا أعرفه. . . ألا تعرف ماذا في النفاق؟. . فيه أنه نفاق. خداع وكذاب، وإجراء نفسك على غير ما تحب، وظهورك بغير ما تظن.

- لعل دهشتي من كلامك أكبر من دهشتك. إن ما تقوله لفظ أنيق تخلى عنه منطقك الواقعي. . إن النفاق شر إذا هدف إلى الشر، أما إذا حدث إليه عواطف الخير فهو خير هادف إلى خير. . أما اعتقادك أني أجرى نفسي على غير طبيعتها، فأني مرتاح إلى ذلك ما دمت لا أحمل في نفسي غضاضة الشر.

- وكيف أعرف نفاقك من إخلاصك ما دمت هكذا؟. كيف يتسنى إن أميز بين ودك خالصا وبين ودك مشوباً؟ - ودعني أسميه نفاقاً مهما يكن هادفا إلى خير - كيف يمكنني ذلك ما دمت تقدم على الإخلاص وغيره بهذا السمت البريء الذي عرفت به؟

- إن مقياسك في ذلك هو نفسك. . فإن كنت تضمر لي الشر وتبديه حتى أحسه منك، ثم تراني بعد هذا أقدم لك من الود ما عودتك فأنا معك منافق، أبقى على احترام الناس لك، وأخشى عليك قالتهم، راجياً منك الخير بعد الشر، والوفاء بعد الغدر.

- أولا تعتقد أن الرجل شاعر بأنك تبدي له هذا الود عن غير إخلاص. . هل بلغ به الجمود حداً لا يعرف به أنه أساء إليك وأنت تحسن إليه!؟

- لا. . بل إن الرجل يعلم علم اليقين أن هذا الود الذي أبديه له أصبح وداً غير حقيقي، ويعلم أيضاً أنني أذكر له كل الشر الذي قدم.

ألا تعتقد أن صلتك إياه تؤلمه أكثر من قطيعتك له؟

- ربما جال هذا بنفسه إن كان بها بقية من ضمير، ولكنه من الذكاء بحيث يعلم أنني أفعل ما أفعل لأبقى عليه الستار الذي أسدله أمام الناس. . أما إذا كان ضميره قد انجلى عنه، فهو مسرور بما أفعل، مرتاح إليه، مقبل عليه كما كان يقبل.

وهكذا لم أودع في الصديق ما عرفت له من الخير، بل استقبلت منه تمرساً بالحياة، ومجاراة لها، وتحويلا من شرها إلى خير، ومن نفاقها إلى إخلاص. . إنه ينافق لا شك، ولكنه نفاق المخلص.

ثروت أباظه