مجلة الرسالة/العدد 802/أسرة طيبة
مجلة الرسالة/العدد 802/أسرة طيبة
- 2 -
أقلعت الحمى المزعومة عن جسد عائدة الرشيق الغض، فشعرت شعور الفتاة الصحيحة بأن رجلاً أجنبيا في غرفتها فنهضت بحكم الغريزة تتعهد مواضع احتشامها، وتجمع بيدها ما تشعث من هندامها. ثم نظرت إلىَّ بطرفها الساجي نظر المطمئن الشاكر.
فقلت لها: كيف تجدينك الآن يا آنسة؟
فأجابت في ابتسامة خجلة وصوت خريد:
- أجدني والحمد لله كأن لم يكن بي شئ. وأنا لنعتذر إليك يا سيدي من إزعاجك في مثل هذه الساعة. والحق أني لا أعرف كيف جرى ذلك! شكوت أول الليل فترة في جسدي لعلها مسة من البرد؛ فلما قاس أخي حرارة جسمي وقال إنها ثلاث وأربعون درجة اعتقدت أني مشرفة على الموت، لأن فهمي لا يمزح في مثل هذه الحال، والميزان لم يغشنا قبل هذه المرة؛ وحينئذ شعرت بدمي يفور، وبنفسي يتتابع، وبنبضي يسرع، وبروحي تذوب، وبجسمي ينحل؛ ثم نزلت بي غشية الموت فرأيت ثلة من القديسين وفي أيديهم الأناجيل. يرتلون من حولي آيات الغفران وأدعية الرحمة. فلما أوشك السرج أن ينطفئ سمعت قديسا من بينهم يقول ضاحكا: إن حالتها تكاد أن تكون طبيعية، وإن حرارتها سبع وثلاثون درجة ونصف! ففتحت عيني فإذا بك واقف على سريري وفي يدك الميزان؛ ثم فهمت من الحديث الذي جرى أن حرارة المصباح الشديدة هي التي رفعت الدرجة حين أدناه أخي من لهيبه وقلبه طويلا على حره. حينئذ فتر الدم الغالي وأبطأ النبض السريع وتماسك الروح والقلق وخف الجسم الثقيل، فنهضت أشكر عائدي الكريم وأعتذر إليه، وجلست أطمئن بيتي المرتاع وأسري عنه.
فقلت: نحمد الله على أن جعل مرضك وهما لا حقيقة، ونسأله ألا يصيبك المرض إلا بهذه الطريقة. ثم هممت بالانصراف، فأقسم المعلم فهمي ألا أخرج حتى أشرب قدحا من شاي شحاتة، أو كأساً من عرق (عزور).
فقلت له وأنا أمكن لنفسي في الكرسي المخلع:
- لا بأس أن أيز يمينك بأخف الضررين. هات الشاي نشربه على صحة الآنسة.
فذهب شحاتة يطبخ شايه وسرعان ما رجع خزيان يعتذر بأن زجاجة المصباح الأصفر قد تحطمت في الفزعة التي سببها المصباح الأكبر.
فقلت لهم: وماذا يضطركم إلى الاستضاءة بالنفط والعمارة كلها تستضئ بالكهرباء؟
فأجاب المعلم في لهجة الأستاذ وهيئة العبقري:
- خلاف بيني وبين شركة النور على التأمين الذي نأخذه مقدما من المشترك، هي تريد أن (أدفعه)، وأنا أريد أن أمنعه. ومعاذ الله أن أكون مغفلا كجميع مشتركيها فأنزل لها عن بعض مالي بغير حق. إن التأمين مال ميت، لأنك لا تستفيد منه ما دام النور، والنور لا تستغني عنه ما دامت الحياة. وقد تحدثت في ذلك إلى رئيس الوزراء فاقتنع ووعد بن يطلب من الشركة إما أن تأخذ التأمين بأجر، وإما أن تكتفي منه بالتأمين على استهلاك شهر.
ومنذ تلك الليلة تفتحت بيننا الأبواب وتكشفت دوننا الحجب، فأصبحنا نتذاكر فضول النحو في مكتب فهمي، وأمسينا نتناقل شهي الحديث في مجلس عائدة. وأنفقت لي مع الآنسة الطيبة خلوات أنست فيها النفس بالنفس، واطمأن عليها الضمير إلى الضمير، فعلمت من دفائن صدرها أنها أحبت، وأن حبيبها كان من أهل الرؤاء الباهر والثراء القليل، كان يعمل في تقطير (العرق) وجلب (الملوحة)، ويطمع منها في صداق ضخم يوسع به معمله، ويبني عليه مستقبله؛ وكانت هي ترجو أن تدبر له هذا الصداق من تجارة أبيها الرابحة في القطن والزيت. ومضى على هذا الحب العنيف العفيف ثلاثة أعوام كانت في خلالها تلقى فتاها في إيابها من المدرسة، أو في ذهابها إلى الكنيسة، فيضحان هواهما المكظوم المحروم بما تيسر من أناشيد الغزل وأحاديث المنى، ويتشاوران في مستقبل هذا الحب الجائش النامي: متى يعرف الأبوان، ومتى تعلن الخطبة، ومتى ينعقد (الجبنيوت)، ومتى يكون الزفاف؟ وانتهى التشاور بينهما ذات يوم إلى أن يتقدم الخاطب في الأحد القريب إلى أبويها فيطلب يدها ويعلن خطبتها. ومضت هي تهيئ سمع أمها إلى هذا الخبر؛ وكانت الأم قد عرفت عن طريق غريزتها وأمومتها سر هذا الحب فلم تدهش حين صارحتها ابنتها به. ووعدتها أن تظفرها في وقت واحد برضا الأب وضخامة الصداق. ولكن أمها مرضت في ذلك الأسبوع مرض الموت فتأجلت الخطبة. ولحق بها أبوها بعد عام فتجدد التأجيل. ولم يمل الخاطب الحبيب هذا الانتظار، لأن حظ عائدة من الجمال يتسع له الصبر، ونصيبها من تركة أبيها يستحيل منه العوض، ولكن تركة المرحوم تكشفت بفضل المضاربة في البرصة عن دين فادح كان يستره بجمال المظهر وحسن السياسة، فلم يجد بنوه شيئا في البنوك ولا في الدفاتر. فخرج فهمي من المتجر وتبطل، وانقطع شحاته عن المدرسة واشتغل، واعتكفت عائدة في بيتها عن الناس فلم تزر أحدا ولم تقبل أن يزورها أحد. ثم قصرت جهدها على أخويها وحبها على المسيح؛ فهي تعمل طول الأسبوع في البيت ولا تخرج إلا يوم الأحد إلى الكنيسة. ثم استعاضت عن عشرة الناس بعشرة الحيوان، فهي تربى الأرانب في المطبخ، وترعى الدجاج في بالصالة، وتقتني كلبها في الغرفة، وتصطحب هرة في السرير. ولكنها منذ عرفتها وتألفتها نظفت البيت ونظمت الأثاث وجملت المنظر واكتفت من خلطائها العجم بالكلب والهرة.
ثم تعاقبت السنون وتبدلت الأحوال فانتقلنا من حي إلى حي، وتحولنا من ناس إلى ناس، فانقطع علم ما بيني وبين هذه الأسرة الطيبة، فلم أعد أرى فهمي البطين، ولا شحاتة الأعجف، ولا عائدة الرشيقة.
وفي يوم من عطلة الأضحى الماضي كنت واقفا أجيل النظر في المعرض الزجاجي لمكتبة من مكاتب الفجالة، فرأيت بجانبي رجلا أشمط الرأس معروق العظام، يحمل قرطاسا من البلح الأمهات ويديم النظر إلى وفي عينه استفهام وعلى شفته كلام. فلما حدقت ببصري إليه عرفت فيه شحاتة أفندي، فسلمت عليه بشوق، وسألته عن أهويه بلهفة. فقال لي والأسى يقطر من وجهه ويظهر في كلامه: قضى فهمي بالشلل، وقضت عائدة بالسل، وقضى الله أن أعيش بعدهما لأبكي عليهما وحدي، ثم لا أجد من يبكي عليهما ولا على بعدي!
فشجعته ثم ودعته وانصرفت وفي نفسي أن أحي ذكرى هذه الأسرة الطيبة بهذه الكلمة في (الرسالة).
أحمد حسن الزيات